Espirt
معا، ثم أقام مونييه الشخصانية التي درسها المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي ثم هشام جعيط من تونس فيما بعد، وبدأت مراسلاتنا تقل تدريجيا، وكنت أنقد مشروعه الضخم «الفكر المعاصر والكاثوليكية» (12 جزءا) دون توثيق لأنه كتب وهو في المعتقل في ألمانيا بعد أن أسره الألمان واحتلالهم باريس. كان من أنصار المارشال بيتان
الذي تقهقر حتى وسط فرنسا في مقابل ترك باريس مدينة مفتوحة، في مقابل ديجول الذي انتقل إلى لندن وأسس المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، أخذ إلى فريبورج وحيث كان يعيش الفيلسوف الألماني هيدجر المتهم بالنازية. كان يرى أن يترك باريس مدينة مفتوحة للألمان في مقابل عدم تحريرها والإفراج عن نصف المعتقلين من المقاومة شفاعة لهم بدلا من إعدامهم كلهم. وبعد نقدي له ونقده لي كانت آخر رسالة منه صورة له وفي ظهرها تبرير لموقفه. وما زالت ترن في أذني آخر عبارة له: «كان يجب الرهان»
Il faut parier . وما زالت هي الذكرى الأولى من أساتذة باريس التي ما زالت في القلب، وإن بقي غيرهم في العقل مثل بول ريكير.
وفي إحدى زياراتي إلى ألمانيا على دراجة في هيدلبرج صعدت إلى أعلى «طريق الفلاسفة» حيث كان يسكن جادامر، فتناقشنا سويا في الهرمونطيقا. كان مبتسما مرحبا، يريد الإطالة في الحديث، وصلني إلى الباب، وأخذت دراجتي نزولا في المدينة. رأيت البساطة والوضوح والتواضع والكرم. صحيح أنه لم يقدم لي شيئا أشربه كما كنت أتوقع، ولكن كان يكفي استقبالي وأنا لست شيئا، وهو كل شيء. ورجعت إلى بيت الشباب، وكتبت ذكرى اللقاء.
وكنت في ألمانيا أبحث عن بيوت الشعراء والأدباء والفلاسفة والموسيقيين فأجدها جميعا قد تحولت إلى متاحف في ذكراهم أو انهدمت تماما مثل الكلية الحربية في فرانكفورت التي تخرج منها الشاعر شيللر. ورأيت منزل بيتهوفن في بون وفيينا، ونزل موزار في سالزبورج بالنمسا، أصبح مصنعا للشيكولاتة؛ حيث وضعت صورته على غلاف القطع والعلبة الخارجية. وذهبت إلى فرايبورج حيث عاش هوسرل وهيدجر. ومالبورج مكان المدرسة الفلسفية الشهيرة. ورأيت نورنبرج حيث تمت المحاكمات الشهيرة. من المدن من حافظ على طابعها التاريخي مثل المدن المذكورة، ومنها ما تم تجديده تماما مثل فرانكفورت وبرلين. استهواني الجنوب أكثر من الشمال، وبافاريا أكثر من همبورج.
وكنت أستمع إلى فلاسفة فرنسا في ذلك الوقت، وكان الحضور عاما أو خاصا؛ إذ أعطى جان بول سارتر محاضرة عامة استغرقت ثلاث ساعات بأكملها، وهو يتكلم ويتأمل في قاعة موبيرميتيواليتيه
Maubert Mutualite ، وسميت محطة المترو المجاورة على اسمها. كانت نظرية مجردة للغاية، وصعب على الحضور فهمه. وبعد المحاضرة ذهبت إليه على المنصة، وأعطيت ما معي من كتاب كنت أقرأ فيه وهي بعض أعمال مارتن لوثر، فلما نظر إلى الكتاب قبل أن يوقع عليه قال لي باستعجاب وباستهجان لا أدري: لوثر! وحضرت محاضرات ميرلوبونتي في الكوليج دي فرانس بجوار السوربون والتي أنشئت لمنافستها. العلم للعلم وليس للدرجات العلمية، وحرية الفكر وليس للفكر التقليدي، والاتجاهات الجديدة وليس لتاريخ الفلسفة. وكان يدخن ويستبطن نفسه وكأنه في مكتبه، بلا جمهور، فلا يثير شوق أحد. وحضرت في منزل جابريل مارسل كل يوم جمعة لقاءه بجوار مسرح الأوديون، وكان يمينيا خالصا يدافع عن احتلال فرنسا للجزائر، ولم أر فيه شيئا يثير الانتباه، ولا تدخلاتي أثارت انتباهه. وحضرت سيمينار بول ريكير المشرف على الرسالة الثانية، وكان يغلب عليه الصمت والأدب الجم والصوت المنخفض إذا تكلم. يحضر حلقة بحثية في السربون ما يزيد عن الثلاثين، وكانوا هم الذين يتكلمون، ويعرضون شروحهم وآراءهم في النصوص التي يقرءونها باليونانية واللاتينية والألمانية والإنجليزية والفرنسية بطبيعة الحال؛ فمن تنقصه لغة يدرسها عدة أشهر، ثم يعود كي يكون على نفس المستوى. يعلق ريكير على منهج الطالب وتأويله للنصوص في جمل قصيرة دون تعالم أو استعلاء. زرته آخر مرة في شاتناي ما لابري
Châtenay-Malabry ، وأنا أعرض عليه الرسالة الثانية والثالثة لأنها من جزأين، فاستمع إلي بكل انتباه دون تعليق؛ أي إنه موافق على منهجها ونتائجها، تأويلي للظاهريات وتطبيقها في فلسفة الدين عند هيرنج
Hering
Unknown page