وذهبت إلى مستشفى آخر، وأظهرت لهم بطاقة العلاج الجامعي المجاني فأجلسوني على مقعد، وأتأنى مساعد طبيب يعرض علي بضاعته وكأنه تاجر قائلا لي: «ثمن هذه الغرفة كذا، وثمن هذه الغرفة الثانية كذا.» قلت لهم: «إنني أريد غرفة مزدوجة؛ لأن ممرضي معي.» قالوا: «لا، هو في غرفة، وأنت في غرفة أخرى.» قلت: «لا، سأغادر.» وكان معي صديقي طبيب العيون من القصر العيني، قال: «لا تغضب.» وذهب وتحدث مع مكتب الاستقبال حتى وافقوا على ما أطلب، غرفة واحدة مزدوجة.
كان المطلوب وقتها إجراء جراحة صغيرة لاستئصال جزء من إصبع قدمي خوفا من انتشار الالتهاب في باقي الأصابع، ثم القدم، ثم الجسم كله.
أتى الجراح في اليوم التالي، ونزلت إلى غرفة العمليات، وبعد إجراء الجراحة طلبوا الانتظار ليلة واحدة ثم الخروج في اليوم التالي، قالوا في اليوم التالي قبل الخروج إني أحتاج إلى تحليلات كذا وكذا، وأحتاج إلى أشعة كذا وكذا، وأحتاج أشعة مقطعية وأخرى صوتية. فقلت: «وما الحاجة لهذا كله؟ لقد أجريت العملية الجراحية وسأخرج اليوم أو غدا.» قالوا: «لا، سيأتي طبيب أشعة خاص ينقل جهازه حتى عندك في غرفتك لفحص الساقين؛ ليطمئنوا على نجاح العملية، ثم سيأتي طبيب آخر ليفحصك الفحص النهائي ليلا.» جاء طبيب المستشفى ليلا ومعه جهاز الأشعة، وآلمني للغاية. ثم قالوا: «الإخصائي سيأتي غدا ظهرا.» وإنه يجب أن أقضي ليلة أخرى في المستشفى. قلت لهم: «فلماذا يأتي الإخصائي وقد تم إجراء الأشعة المطلوبة في المستشفى؟» قالوا: «هو أدق.» ثم قلت: «وكيف يستعملون جهازا غير دقيق في المرة الأولى، وتؤلمونني مرتين؟ مرة بجهاز المستشفى ومرة بجهاز الإخصائي؟» وصممت على الخروج دون انتظار الإخصائي؛ لأنه سيقوم بعمل تم عمله بالمستشفى ولا حاجة لتكرار الأشعة مرة أخرى، كما أنه لا حاجة لدفع الثمن مرتين. وأصررت على الخروج في نفس الليلة، وقلت: «لن أمكث دقيقة واحدة؛ لأنكم تجار تتاجرون بالمريض، وتجعلونه ضحية لكم ولتجارتكم، وسأقدم شكوى إلى الجامعة ؛ فرئيس الجامعة أحد تلاميذي. احسبوا التكاليف المطلوبة الليلة وقدموها لي.» طلبوا يومها أربعة آلاف جنيه كانت مصاريف إقامة ممرضي ومرافقي، فدفعنا المبلغ المطلوب، وعدنا إلى المنزل فرحين بعد أن ابتعدنا عن التجارة بالمرضى في المستشفيات الخاصة.
وفى أثناء إقامتي بالمستشفى الجامعي كانت كل ممرضة تدخل غرفتي، إما تعطي حقنة، أو تقيس ضغطا، أو نسبة السكر، كانت تنظر إلينا ضاحكة، وتطمئن هل فهمنا الدعاء؟ ثم تخرج، ثم تأتي عاملة النظافة مرة كل ساعة على الأقل، تحمل أدوات النظافة، المكنسة والجردل تحوم حول سرير المريض، تتظاهر بأنها تنظف أرضية الغرفة ذهابا وإيابا، وتتمنى لنا الشفاء، ولا تخرج من الغرفة إلا بعد أن تأخذ القسمة والنصيب.
وبعدها بساعة تأتي عاملة نظافة أخرى لتقوم بنفس العمل وتقول نفس الكلام، وتنتظر نفس القسمة والنصيب. ثم تقول إن العاملة السابقة نسيت تنظيف الحمام، وإنها قامت بذلك على الوجه الأكمل. تصل إلى باب الغرفة وقبل أن تذهب تعود وتتمنى لنا الشفاء العاجل، فكنت أعطيها ما فيه القسمة والنصيب مرتين، وكنت أتساءل كل مرة بيني وبين نفسي: هل الفقر؟ هل الجشع؟ هل غلاء المعيشة؟ هل قلة الرواتب؟ هل كل ذلك معا؟
وكنت في مرة أخرى بغرفتي في المستشفى، وكان التليفزيون لا يعمل. فسألنا: «ما السبب؟» فقالوا إن جهاز التحكم لتشغيل التليفزيون (الريموت كنترول) موجود في غرفة التمريض، ولا يعطى للمريض إلا إذا ترك بطاقته الشخصية في مقابله، فإذا أتت الممرضة ومعها الجهاز تعطيه لنا وتنتظر، وقد نسينا موضوع البطاقة الشخصية؛ تنتظر أن نعطيها ما فيه القسمة والنصيب لتسلمنا «الريموت كنترول»، ثم تخرج دون البطاقة. يكفيها ما أخذته من القسمة والنصيب.
بل إنه حتى عامل المصعد إذا دخل مريض المصعد تمنى له الشفاء، ويقول له إن المصعد عطلان، لا يتوقف عند الدور الذي طلبه المريض، ولكنه سيوقفه من أجله على وجه الخصوص؛ طمعا في القسمة والنصيب.
وقد أسفر هذا التعامل التجاري وحتى في المستشفيات الإسلامية والتي تحولت إلى مستشفيات خاصة بعد أزمة الحركات الإسلامية وتضييق الحكومة عليها؛ فكانت الممرضات وعاملات النظافة وعامل المصعد أكثر استحياء خاصة في المستشفيات الإسلامية خاصة وصوت القرآن يرتفع في المصعد عند استعماله، وكان الاستحياء ليس من الطلب المباشر بل كان عن طريق النظرات حيث يفهم المريض المطلوب.
وبعد هذه التجارب المتكررة والكثيرة أصبحت لا أحب الذهاب للمستشفى، وأفضل أن يأتيني الطبيب لفحصي بالمنزل إذا كان الأمر لا يقتضي الذهاب للمستشفى، كنت أفضل ذلك؛ لراحتي وللثمن الأقل من المكوث في المستشفى لعدة أيام والانتظار لساعات في غرف الاستقبال.
كما اتبعت الصيدليات نظام توصيل الأدوية للمنازل مثل المطاعم ومحلات البقالة؛ لراحة المريض وللعائد المادي الذي يحصل عليه عامل توصيل الطلبات، ليواجه ضرورات الحياة. كانت بعض العائلات تبخل بهذا المبلغ البسيط فأصبحت «فاتورة» التوصيل إجبارية.
Unknown page