وهذا تذييل آخر.

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد حمدا لله على نعمائه والصلاة والسلام على خير أنبيائه. يقول العبد الفقير إلى عفور مولاه الكريم إبراهيم بن الحاج علي الأحدب قد رأيت أن أذيل الثمرات بما جنيته من الثمار الدانية والفوائد العالية وبالله التوفيق.

فمن ذلك ما يحكى أن الصاحب بدر الدين وزير اليمن كان له أخ بديع الجمال وكان شديد الحرص عليه فأتى له بشيخ ذي دين وعفة وهيبة وعقل ليعلمه فأسكنه في منزل قريب منه فأقام على ذلك مدة ثم إن الشيخ امتحن بمحبة ذلك الشاب وقوي غرامه فيه فشكا يوما له حاله فقال له ما حيلتي وأنا لا أستطيع مفارقة أخي لا ليلا ولا نهارا أما الليل فإن سريري بجانب سريره وأما النهار فكما ترى تلازمنا فقال الشيخ إن منزلي ملاصق لداركم فيمكن إذا غمضت عين أخيك أن تقوم لتستعمل ماء فتأتي إلى الحائط وأنا أتناولك من وراء الجدار فتجلس عندي لحظة لطيفة من غير

Page 217

أن يشعر أخوك بشيء فقال السمع والطاعة وتواعدا على ليلة فهيأ له الشيخ من التحف والظرف ما يليق بمقامه فلما نام الصاحب واستغرق في النوم وأمن انتباهه قام الشاب وتمشى خطوات وفتح باب يتوصل منه إلى الحائط فوجد شيخه واقفا ينتظره فتناوله وصار عنده في المنزل وكان ليلة البدر وتنادما ودارت بينهما كؤوس الشراب ممزوجة ببرد الرضاب وانتشى الشيخ وأخذ في الغناء وقد رمى القمر جرمه عليهما وانتبه الصاحب فلم يجد أخاه فقام فزعا مرعوبا ووجد الباب الذي استطرق منه أخوه مفتوحا فقال من هنا جاء الشر فدخل منه وصعد الحائط فوجد نورا ساطعا من البيت ونظر فرآهما على هذه الحالة والكأس بيد الشيخ وهو ينشد أحسن صوت:

سقاني خمرة من ريق فيه ... وحيا بالعذار وما يليه

وبات معانقا خدا بخد ... غزال في الأنام بلا شبيه

وبات البدر مطلعا علينا ... سلوه لا ينم على أخيه

فكان من لطافة الصاحب أن قال والله لا أنم عليكما وتركهما وانصرف انتهى.

ومن بديع ذلك ما حكاه ابن خلكان في تاريخه في ترجمة شرف الدين المعروف بابن المستوفي قال قد وصل إلى اربل بعض الشعراء وهو الشريف عبد الرحمن بن أبي الحسين بن عيسى بن علي بن يعرب في سنة ثمان وعشرين وستمائة وشرف الدين يومئذ وزير فسير له مثلوما على يد شخص كان في خدمته يقال له الكمال بن الشعار الموصلي صاحب التاريخ والمثلوم عبارة عن دينار يقطع منه قطعة صغيرة وقد

Page 218

جرت عادتهم في العراق وتلك البلاد أن يفعلوا هذا لأنهم يتعاملون بالقطع الصغار ويسمونها القراضا ويتعاملون أيضا بالمثلوم وهذا كثير الوجود بأيديهم فجاء الكمال إلى ذلك الشاعر وقال له الصاحب يقول لك أنفق الساعة هذا حتى يجهز لك شيئا فتوهم الشاعر أن الكمال يكون قد قرض القطعة من الدينار وأن شرف الدين ما سيره إلا كاملا وقصد استعلام الحال من جهة شرف الدين فكتب إليه:

يا أيها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقا تضرب الأمثال

أرسلت بدر التم عند كماله ... حسنا فوافى العبد وهو هلال

ما غاله النقصان إلا أنه ... بلغ الكمال كذلك الآجال

فأعجب شرف الدين بهذا المعنى وحسن الاتفاق وأجاز الشاعر وأحسن إليه انتهى.

ومنه ما حكي أن إبراهيم بن سهل الأشبيلي كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه حتى أنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم وكان يحب يهوديا اسمه موسى وأكثر شعره فيه فلما أسلم أحب شابا اسمه محمد وترك هوى اليهودي فقيل له في ذلك فأنشد:

تركت هوى موسى بحب محمد ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي

وما عن قلى تركي هواه وإنما ... شريعة موسى عطلت بمحمد

وكان إبراهيم هذا شاعرا مجيدا اتفق له في صباه أن الهيثم نظم قصيدة مدح بها المتوكل على الله بن يوسف بن هود ملك الأندلس وقد كانت أعلامه

Page 219

سودا لأنه كان بايع الخليفة ببغداد فأرسل إليه بالتولية والألوية والنيابة ولا يعلم أحد من ملوك الأندلس قبله ولا بعده بايع بني العباس قط فوقف إبراهيم بن سهل والهيثم ينشد قصيدته لبعض أصحابه فقال إبراهيم للهيثم زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:

أعلامه السود إعلام بسؤدده ... كأنهن بخد الملك خيلان

فقال الهيثم أهذا البيت شيء ترويه أم نظمته فقال بل نظمته الساعة فقال الهيثم أن عاش هذا الغلام فسيكون أشعر أهل الأندلس.

ومنه ما اتفق سنة ثمان وستمائة أن الملك المعظم عيسى سار إلى أخيه الملك الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل محمد وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الأفرنج الذين قد أخذوا دمياط واستحكم أمرهم هناك من سنة أربع عشرة بعد حروب كثيرة يطول شرحها حتى عرض عليهم في بعضها أن يرد عليهم بيت المقدس وجمع ما كان صلاح الدين فتحه في الساحل ويتركوا دمياط فامتنعوا من ذلك فقدر الله سبحانه وتعالى أن قدمت عليهم مراكب فيها أميرة لهم فأخذتها مراكب المسلمين وأرسلت من أراضي دمياط المياه من كل ناحية فلم يمكن الأفرنج أن يتصرفوا بأنفسهم وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة من غير مفاوضة فجاء مقدمهم إلى الملك الكامل وعنده أخواه

Page 220

المذكوران كانا قائمين بين يديه وكان يوما مشهودا وأمر محمودا فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد وملوك الأفرنج والعساكر كلها واقفة بحضرته ومد سماطا عظيما اجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر فقام المحلي الشاعر وأنشد:

هنيئا فإن السعد راح مخلدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا به المنى ... مبينا وإنعاما وعزا مؤيدا

تهلل وجه الأرض بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا

ولما طغا البحر الخضم بأهله الط ... غاة وأضحى بالمراكب مزبدا

أقام بهذا الدين من سل عزمه ... صقيلا كما سل الحسام مجردا

فلم ينج إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا

ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين مشيدا

أعباد عيسى إن عيسى وقومه ... وموسى جميعا يخدمون محمدا

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بلغني أنه وقت الإنشاد أشار عند قوله عيسى إلى المعظم وعند قوله موسى إلى الأشرف وعند قوله محمد إلى الكامل وهذا من أحسن الاتفاق انتهى.

ومنه ما حكي عن جمال الدين كاتب سر الملك المعظم عيسى أنه كان بينه وبين السلطان

Page 221