خاتمة المطاف جاءت في معهد السرطان، أو الأورام، كما يلقب نفسه تحشما، وسط الفلاحين والفلاحات القادمين من أقاصي النجوع، ببطون وأعناق ومثانات وأرحام وأثداء متورمة، المقرفصين إلى جوار جدران قاعة انتظار مظلمة وباردة، كفيلة وحدها بإحداث أخبث الأورام، حيث رحب عدد من الأطباء الشبان بالتفعيص فيها مقابل نصف جنيه، وتحت إشراف أستاذ كبير غاضب من غرام الناس بالتدخين، أعطاها حكم البراءة دون أن يتخفف من غضبه، كأنما عز عليه إفلاتها؛ ولهذا أرشدها إلى طريقة التفعيص الذاتي، لتبدأ به يومها كي تأتيه المرة القادمة في اللحظة المناسبة.
خلال ذلك كانت حكاية الجنيهات العشرين التي تتحول إلى خمسة آلاف جنيه قد طواها النسيان، وحل محلها الأمن الغذائي؛ سيارة كارفان مجهزة بالأرفف والبوتاجاز والثلاجة، تقف في ميدان روكسي لتبيع السندوتشات للعابرين ورواد السينما. حسب الشنقيطي التكلفة والربح بالقلم والورقة، وبدأ يقوم هو وسميحة بزيارات ليلية سرية لذات التي تحمست للمشروع الجديد، وتطوعت لمسئولية المخللات، فملأت المطبخ والصالة بل والطرقة المؤدية إلى غرفة النوم، ببرطمانات كبيرة من الزجاج والبلاستيك، عبئت بالخيار والليمون والفلفل والبصل.
لم تمض أيام حتى بدت على المخللات علامات النضج، وسرعان ما أصبح كل شيء جاهزا فيما عدا السيارة التي تطلبت وقتا أطول. وكان الشنقيطي هو الذي نجح في الحصول عليها، لكن المشروع لم يقدر له التمام؛ فمن ناحية كانت المخللات قد انقرضت على يد أصحابه ، ومن ناحية أخرى كانت السيارة لا تسمح بوقوف أحد داخلها ولا تتسع لأي تجهيز؛ لأنها كانت من نوع نادر هو الفيات الصغيرة التي يرجع عهدها إلى بداية الستينيات، لكنها كانت كافية على أية حالة لأن تدفع عم صادق البواب (الذي يتقاضى خمسة جنيهات في الشهر من كل ساكن كي ينظف له سيارته كل فجر ليجدها لامعة متلألئة عندما يهبط في الضحى) لأن يستوقفها على السلم قائلا في إشفاق دفع بالدموع إلى عينيها: «ما فاضلش إلا إنت يا ست من غير عربية. يالله شدي حيلك.»
شد الحيل قامت به سميحة الشنقيطي؛ فبعد تشكيلة من البلوزات والقمصان الفاخرة، وسترات الشامواه والجلد، والجيبات الحديثة والأحذية الغالية والعدسات اللاصقة والنظارات الكارتييه، ظهرت الأعراض المألوفة؛ علب الدهان وصناديق السيراميك، وحوض الصلب الذي يصدأ، ومجموعة الحمام الملونة. وازدحمت الطرقة المفضية إلى الشقتين بلفافات الموكيت، وتم استبدال الأنتريه الإسفنجي المتهالك بآخر جديد، وغسالة إيديال البائسة بواحدة فول أوتوماتيك (وستنجهاوس)، والسفرة المستطيلة بأخرى دائرية لها مقاعد أنيقة (ستيل) مدثرة بالقطيفة الزرقاء.
هكذا اقتربت المسيرة من باب ذات، وقسرتها على الانخراط في ركابها، رغم معارضة عبد المجيد. وبعزيمة عززتها خيانة الشركاء طبقت سياسة اقتصادية رشيدة، وعملت على سحب أكبر كمية نقود من عبد المجيد، وأخفت ما تتلقاه من علاوات ومكافآت (وهو أمر لم يغب عن فطنة عبد المجيد فأخذ يخفي ما يحصل عليه هو الآخر)، ثم كونت جمعية ادخار محدودة في الأرشيف من عشرة أشخاص (اشتركت فيها سميحة بنصيبين) يقبض كل منهم ألف جنيه في شهر معين. وما إن حل شهرها الموعود حتى توكلت على الله، بعد أن أمدتها ماكينات الأرشيف بالسباك المطلوب، واضعة عبد المجيد أمام الأمر الواقع؛ مما أشعل غضبه ودفعه إلى مخاصمتها ومقاطعة الأمر كله، لا من قبيل المعارضة للمبدأ وإنما للإجراءات.
لم تكف الألف جنيه لمواجهة المهام المطروحة، فاقتصرت ذات على استبدال مرحاض الحمام بواحد حديث (كومبيشان كما أصرت هي والسباك رغم المحاولات التصحيحية التي تبرع بها عبد المجيد من وراء حواجز المقاطعة)، ثم أولت اهتمامها للمطبخ؛ فأطاحت بجدرانه، وغطتها هي والأرضية بالسيراميك المصقول الفاخر وردي اللون.
توقف جمال عبد الناصر عن المجيء حاملا معول الهدم، لكن أنور السادات واصل زياراته الليلية وفي يمينه قطع السيراميك المعهودة؛ ذلك أن جعبة ذات المالية نفدت قبل أن يصل السيراميك إلى السقف بمسافة شبرين، واضطرت إلى استكمال المساحة الباقية بدهان الزيت المألوف.
4
الرئيس
مبارك
Unknown page