190

هكذا أتيحت لعبد المجيد الفرصة لإشباع الرغبات المدفونة في ثنايا الدماغ منذ أيام سينما أوديون؛ فبعد أن يتدحرج من الأطراف إلى المركز، يجلس ساعة أو اثنتين وهو يتفرج على شاريات الآيس كريم، وأساليبهن المتنوعة في لعقه؛ من تبدأ من القاعدة العريضة متجهة في بطء وتلذذ نحو القمة المدببة، فتطوف حولها باللسان قبل أن تلتهمها مرة واحدة، أو تبدأ من القمة المدببة فتزيلها في لعقة خاطفة، ثم تهبط إلى القاعدة في لحسات متعجلة عصبية، تتخللها انحرافات جانبية لامتصاص ما سال على جوانب الشفاه، والاستمتاع بمذاقه، أو تتجاهل كلا من القاعدة والقمة؛ لتركز على السفوح، فتنحتها في رفق، بلمسات متمهلة من طرف اللسان، تتوخى إطالة أمد الالتذاذ، الذي تتبدى نشوته في العيون .

عندما تبلغ اللوعة بعبد المجيد القمة يقرر الانصراف، فيهبط أولا إلى المبولة، متلمسا في جيبه القروش التي سيدفعهما إلى حارسها، متمنيا ألا يجده، لا عن بخل، وإنما من أجل إحراز انتصار ما أيا كان حجمه، يوازن به ما ينتظره من إحباط، عندما يقف أمام الحوض المعلق في الحائط، ويفك أزرار بنطلونه، مختلسا نظرة سريعة إلى جاره، من أجل مقارنة للأحجام، تؤكد له ظاهرة الانكماش التي تطالعه مرة أخرى في المرآة وهو يغسل يديه في حوض بلا صابونة، متأملا بشرة وجهه وعنقه، والشعر الأبيض الذي ينتشر في رأسه.

يبدأ عبد المجيد رحلة العودة بخطوات متثاقلة، فيتجه إلى الميدان الذي يتلألأ بشعلة من الأضواء على شكل أشجار متفرعة، زرعها الشنقيطي وزملاؤه حول الحديقة الصغيرة ولافتتها الشهيرة، وأمام الأبراج السكنية الجديدة التي خصصت أدوارها الأرضية لأسواق تجارية، فيها البركة، وللطيبين فيها حلال، ثم يستقل المترو ويشرع في صياغة إحدى عنترياته من أجل ذات التي تقبع منتظرة في العش هي وفراخها (ثلاثة خرجوا عليه بالسنج عند القيادة المشتركة، تصوروا، وطلبوا منه أن يعطيهم ما معه، هل يفعل؟ لا وحياتكم، صرخ فيهم وانقض عليهم ففروا هاربين). وبذلك يرتكب خطأ فادحا؛ لأن ذات لم تكن تنتظر.

فبينما كان عبد المجيد يتدحرج، جيئة وذهابا، بين الأطراف والمركز، مستمتعا بالفرجة على الآيس كريم، عاقدا ما شاء من المقارنات غير المجدية، كانت ذات تعمل في صمت، مستعينة بكل ما تملك من مواهب في التدبير والتوفير والاقتراض، حتى تمكنت من وضع ولي العهد في الجامعة الإسلامية.

النتائج كانت متناقضة؛ ازداد عبد المجيد انكماشا وقاطعها، أما المقاطعة الأصلية في الأرشيف فقد تلاشت، وعاد الفراشون يوجهون إليها تحية الصباح، وأقبلت الماكينات عليها، تتابع أنباء الطفل المعجزة الذي، كما أعلنت ذات في زهو، يقول «أورانج» و«أبل» في سلاسة تامة، لكنه يعجز عن التلفظ ب «برتقال» و«تفاح». وجاءت همت ببثها الاستفزازي: «انتو يا غنم، عارفين رؤساكم عايشين ازاي؟» ثم لذات شخصيا (الأجهل وبالتالي أضعف الحلقات): «عارفة رئيس مجلس الإدارة بياخد كام لما يسافر مع رئيس الجمهورية في الخارج؟ ألف دولار في اليوم بدل سفر .. تعرفي بيسافر كام مرة في السنة؟ كل ما الرئيس يروح بلد ياخده معاه .. احسبي بأه .. وغير كده الهدايا اللي في الظرف .. مرة من صدام حسين ومرة من الملك فهد .. وبعدين؛ عربية مرسيدس بسواق .. وكرتونة بيض من التونسي .. بدلة صوف من ستيا .. شقة على البحر من وزير الإسكان، وواحدة على النيل من وزير الميه، وثالثة على الهرم من وزير السياحة.» منير أيضا ظهر ليعرض أحدث اكتشافاته؛ توصيل شاشة التليفزيون بجهاز كمبيوتر.

لم تدرك ذات أهمية الاكتشاف الجديد فتولى منير الشرح سعيدا: «تصوري المذيعة بتقرا نشرة الأخبار أو فقرات من برامج الغد أو السهرة وهي بتقلع هدومها حتة حتة مع كل فقرة لغاية ما تبقى عريانة خالص.»

بحلقت ذات مذهولة وقد نست أن يحمر وجهها (بعد أن تصورت مذيعا لا مذيعة): «إزاي؟»

ضحك منير سعيدا: «بالكمبيوتر. طبعا أنا معرفش شكلها ازاي وهي عريانة، ولابسة إيه. أنا أفترض بس. أغذي الكمبيوتر بأوصافها العامة ومقاساتها بالتقريب؛ الطول والعرض والصدر والهنش، وهو يلاقي أنسب شكل لها تحت الهدوم.»

مقدرة ذات على استيعاب التكنولوجيا كانت محدودة، وبالمثل قدرتها على تصور التطبيقات العلمية لها، فلم تتجاوز تخيل رئيس التحرير، الذي يظهر في التليفزيون كثيرا، وهو يفقد ملابسه أثناء دفاعه عن سياسة الحكومة الاقتصادية، بينما كان منير أوسع خيالا؛ رئيس الوزراء يقترب من منصة تضم كبار المسئولين، وتبدأ ملابسه في السقوط، فما إن يصل إلى رئيس الجمهورية ويمد يده مصافحا حتى يكون قد صار في الكيلوت، وأم كلثوم في قمة انفعالها وقد أوشك منديلها على التمزق، وصباح الثمانينيات بالطبع لا الأربعينيات. الإمكانيات الأخرى، إياها، طافت بذهنها أثناء عودتها إلى المنزل، عندما فكرت في الكيفية التي يمكن أن يستفيد بها عبد المجيد والشنقيطي (وبالتالي هي وسميحة) من الاكتشاف الجديد.

لم تحدث زوجها في الأمر لسببين؛ الأول: هو تجنب إثارة غضبه الذي يشتعل إذا جاء ذكر اسم منير على لسانها، والثاني: أنها لاحظت انكماشا في اهتماماته التليفزيونية في الآونة الأخيرة، منذ بدأت جولاته المسائية، وهو نفس السبب الذي حال بين سميحة ومفاتحة زوجها هي في نفس الأمر؛ فالشنقيطي أيضا كانت له جولاته .

Unknown page