163

لم ينس ولي العهد الشيء الأهم؛ فلم يكد يخطو إلى الشارع حتى قاد أمه المستسلمة في اتجاه الميكروفون الجهوري الذي يدعو إلى الإيمان بالله ونبذ الدنيا، والذي كانت ستقصده على أية حال.

ولجت الدكان الكبير الذي ثبت الميكروفون فوق مدخله، ومرت من أمام رفوف الكتب الدينية وقصص الأنبياء وأقلام الفلوماستر، واللعب المستوردة من هونج كونج، وأغطية الرأس النسائية الإسلامية، والفتاة المحجبة التي تدير آلة حياكة، وأخيرا الكهل الملتحي بطاقية بيضاء مربعة، الذي وقف خلف ماكينة لتصوير الوثائق، عاكفا على تشغيلها وهو يبتسم في وداعة وطيبة مرددا اسم الله، ومصليا على رسوله، ومسلما على النبيين بلغة فصيحة؛ إذ كان يمتحن في إيمانه الذي من علاماته الحلم.

فالزبون الذي عهد إليه بأوراقه ليصورها كان من النوع الذي يبعث به الشيطان عادة لهذا الغرض؛ ولهذا أبدى اعتراضه على درجة نقاء الصورة، بل وطالب باستخدام الورق الخاص بالتصوير بدلا من ورق الكتابة العادي الذي كان يستخدمه الكهل الملتحي. وتجنب الأخير الدخول في جدال حول نوع الورق، معلنا في صوت قوي أن الصورة جيدة لأنها تقرأ دون صعوبة، ونفى مبعوث الشيطان ذلك، فتلفت الكهل حوله بحثا عن نصير، ولم يجد أمامه غير ذات، فمد يده إليها بالورقة قائلا بلغته الفصحى السليمة: «ما رأيك يا أخت؟»

الأخت كانت تجد نوعا من تحقيق الذات في التوفيق بين الرءوس في الحلال، بدءا من القيام بدور الخاطبة إلى لعب دور الحكم؛ لهذا انتهبت الفرصة، وقبل أن تفحص جسم الجريمة قررت أن تقف في صف الجانبين معا، وتهون عليهما الأمر، وتدعوهما إلى كلمة سواء بينهما، لكن الكهل لم يطق معها صبرا، فألقى بالورقة جانبا وهو ينادي في حدة، ضاغطا على مخارج الحروف، فيما خيل لذات أنه النطق الإسلامي: «يا فاطمة.»

برزت من أعماق الدكان فتاة محجبة، تحمل في يدها، ودون أن يطلب أحد منها (كأنها تدربت جيدا على هذا الموقف) رزمة جديدة من الورق تناولها الكهل في عصبية، ووضعها مكان الورق القديم، ثم ضغط زرار التشغيل في عنف.

تحولت الفتاة إلى ذات مستفهمة عن طلبها، وكان ولي العهد قد حدده منذ الوهلة الأولى، في اتباع نموذجي للمثال القومي؛ إذ تسمر أمام رف السيارات حائرا بين أحجامها، وموديلاتها.

النتيجة كانت متوقعة؛ فقد اختار الطفل أغلاها، واشترت ذات أرخصها، وكان لا بد من إلهائه عن البكاء، فعدلت عن تفقد أغطية الرأس، وجذبته من يده إلى أعلى بمجرد أن غادرا الدكان، متظاهرة بأنها تلعب، وكي تجنبه الخوض في القمامة. وكررت القفزة أمام كتلة من الكابلات الكهربائية المنبثقة من جوف الأرض أمام دكان ملابس ذي واجهة زجاجية عريضة تعلوها لافتة تعلن أن المكان مكيف الهواء. اندمج ولي العهد في اللعبة الجديدة فكررها بصورة آلية عند الحاجز الثالث الذي لم يكن من طراز المرتفعات، وإنما عبارة عن حفرة عميقة، استقر في قاعها وسط قليل من المياه.

أدت محاولة انتشال الغريق إلى التواء الكعب الطويل لحذاء ذات، الذي لم يكتمل أسبوع على شرائه. والتجأ الاثنان إلى جوار الحائط ريثما خلعت حذاءها لتتبين مدى الإصابة، وعندما قدرت أنه يستطيع أن يتحمل مشوار المستشفى أخرجت من حقيبة يدها منديلا من الورق، أزالت به آثار المياه والطين من ملابس طفلها، وجرته في حزم إلى محطة الأوتوبيس.

أدركت ذات أن الحظ يحالفها في هذا اليوم، رغم البوادر غير المشجعة، عندما ظهرت سيارة أوتوبيس بعد قليل ، وعندما تصادف وقوفها إلى جوار راكب هبط في المحطة التالية، فاحتلت مكانه على الفور، وهي تتوجه بالشكر الحار إلى راعي البشر أجمعين، متغاضية عن المتاعب الثانوية.

فقد أرادت أن تأخذ ولي العهد فوق حجرها لكنه رفض، وأوضح وجهة نظره باللغة الوحيدة التي يتقنها. واجتذب هذا الشكل النادر من البث اهتمام ماكينة تجلس بين ذات والنافذة، وتحمل فوق ساقيها طفلة صغيرة، فتأملا ولي العهد في إشفاق (السيدة)، واستنكار للمنافسة غير المتوقعة (الطفلة). نقلت الأولى بصرها بين الطفل وأمه وهي تمصمص بشفتيها تعبيرا عن شعورها بالأسى، وإن كانت في الحقيقة تقوم بتسخين الماكينة استعدادا للبث، لكن ذات فوتت عليها الفرصة متظاهرة بالشرود.

Unknown page