أستطيع أن أقول لك، بكل ثقة، إنني عشت لحظات سعيدة لذيذة طوال المدة التي كنت أؤلف فيها كلمات هذا الكتاب، وكانت لذتي الكبرى تتضاعف كلما انتهيت من كتابة قول، ثم بعد أن أنتهي من كتابة صفحة كاملة. ولما أوشكت على الانتهاء من هذا الموضوع، اجتاحتني لذة أن أمضي وأسترسل لأستمر في النشوة التي تغمرني وتملؤني، ولكن كان لا بد لي من أن أتوقف حتى لا يتجاوز الكتاب المطبوع حده الجديد المألوف الذي تحتمه ظروف الطباعة وتكاليفها، وحتى لا يتجاوز سعره مقدور القارئ العزيز.
أوحى إلي بفكرة هذا الكتاب صديقي الأستاذ سيد صديق، الذي كان يلح علي في أن أعالج موضوع «الجمال » بقلمي وبأسلوبي المختصر القاطع. ولما سألني عما إذا كنت قد شرعت في الكتابة أفهمته بأنني لم أشرع بعد، وقد لا أشرع فيها، فاقترح علي أن أفكر في موضوع «اللذة»، فأعجبتني هذه الفكرة، كما أعجبتني الكلمة، وظللت متأرجحا بين أن أجعل عنوان الكتاب «الذات واللذات» أو «اللذة في مرآتي». وأخيرا، آثرت أن أجعل كتاب «اللذة» هذا خاتمة السلسلة التي بدأتها بالمرأة في مرآتي، ثم الرجل في مرآتي، ثم الحب في مرآتي، ثم الزواج في مرآتي. هذا، وإن كان الاسم الآخر «الذات واللذات» اسما صالحا تماما لهذا الكتاب، ويمكن أن تطلقه عليه بكل ارتياح، وهذا ما فعلته وأخذت به في آخر لحظة.
أخوف ما أخافه ألا يجد هذا الكتاب طريقه إلى المطبعة ليخرج إلى القارئ الكريم فيستمتع بما جاء فيه، ويستفيد من الصور اللذيذة التي يضمها؛ ذلك لأن خزاناتي غدت تضيق وتضيق بالتراجم والمؤلفات الخطية التي لا تجد لها طريقا إلى النور. وهذه مشكلة قد يدركها بعض القراء، ولكن الكثرة لا يقفون على أسرار هذه المشكلة؛ فما عاد من السهل أو بالإمكان نشر كتاب عن طريق الحكومة أو القطاع العام أو الناشر الخاص، إذن لم يبق سوى النشر على نفقة الكاتب نفسه. وهنا تبرز عدة عقبات، أهمها: ما وصل إليه سعر الورق من أرقام خيالية غير مشجعة، فضلا عن ارتفاع أجور الأيدي العاملة، وغلو أجور الرسامين والزنكوغراف، وطباعة الأغلفة والأحبار، وغير ذلك مما لا يحس به إلا المتصل اتصالا وثيقا بهذه المهنة. والذي أود أن ألفت إليه أنظار القراء الكرام، هو أن صناعة التأليف أصبحت صناعة مخربة قبل أن تكون صناعة مربحة، ومع ذلك فكم أتمنى أن يساعدني المولى فأدفع بهذا الكتاب إلى المطبعة؛ ليخرج كتابا يقرؤه الناس، ويجدون فيه متعة ولذة.
يدخل هذا الكتاب في زمرة المائة الثانية، التي لم يظهر بعد منها غير حفنة تعد على أصابع اليد الواحدة. ولما كان ما بقي من العمر لا يسمح برؤية سوى بضعة أرقام من المائة الثانية، لذا لا يسعني إلا أن أشكر المولى، عز وجل؛ إذ أحياني حتى أبصرت كتبي المائة الأولى، التي حظيت بظهورها كتابا وراء آخر، فأشعرتني بلذة لا يمكن وصفها أو التعبير عنها، حتى ولو منحت فصاحة سحبان، رغم أنني تعرضت لها في سطور هذا الكتاب الذي ينضح لذة من كل لون، ومن كل شكل، ومن كل طعم ومذاق.
وبنفس اللذة التي بدأت بها سطور هذه المقدمة، أضم هنا بعض ما وقع تحت يدي من أقوال وأشعار مشاهير الأدباء في مضمار «اللذة».
قال دي سنانكور: اللذة بداية الاضمحلال، وإنكار الذات اقتصاد في الحياة.
وقال تشترفيلد: اختر لذاتك، ولا تسمح بأن تفرض عليك فرضا. اتبع الطبيعة لا الزمن؛ لأن التمتع باللذات في الوقت الحاضر لا بد أن يتم بموازين نتائجها، وبعد ذلك اترك فصل الخطاب في الاختيار لحاستك الاجتماعية.
وقال أيضا: اللذة هي الصخرة التي تتحطم عليها سفن السواد الأعظم من الشبان؛ فهم يركبون سفنهم ويخرجون بها إلى عباب البحر دون دليل يرشدهم في مسيرهم، وبلا عقل يستطيع قيادة السفينة. وبسبب افتقارهم إلى هذا وذاك يكون العار والألم وليس اللذة؛ نتيجة سفرهم على ظهر بحر الحياة.
وقال هيجر: خلق الله القط لكي يعطي الإنسان لذة في مداعبة النمر وملاطفته في سبيل ترويضه.
وقال بيكنسفيلد: البقاء على قيد الحياة لذة من أعظم اللذات، وإن البشر لأضيق ذرعا من أن يحرمونا إياها. وما دامت الحياة أفضل من الموت، فخير للإنسان أن يعيش في هناء وسرور، لا في حزن ونكد.
Unknown page