Defending the Sunnah - University of Madinah (Bachelor's)
الدفاع عن السنة - جامعة المدينة (بكالوريوس)
Publisher
جامعة المدينة العالمية
Genres
-[الدفاع عن السنة]-
كود المادة: IUHD٣٠٨٤
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Unknown page
الدرس: ١ معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها)
أهمية السنة في الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
السنة -كما نعلم جميعًا- تحتلّ مكانةً بارزة في الإسلام: هي ما جاءنا عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو إقرار أو صفة خلقية أو خُلقية، حتى الحركات والسكنات في اليقظة وفي المنام قبل البعثة وبعدها.
وهناك تعريفات مختصرة كلها تدور حول أن السنة هي ما جاءنا عن النبي ﷺ من أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخُلقية، وما يتعلق بكل الأمور الصادرة عنه ﷺ.
السنة مهمة جدًّا في الإسلام وفي حياة المسلمين، هي تبيِّن لهم القرآن الكريم وهي تُشّرع لهم كما يشرع القرآن الكريم؛ لذلك كانت السنة منذ أن بدأ أن يكون هناك أعداء للإسلام خارج الخط الإسلامي، وخارج التفكير الإسلامي الصحيح، كان هدفهم الأول دائمًا هو السنة؛ لما يعلمون من منزلتها؛ لأنهم يهاجمون القرآن الكريم من خلالها، بل لا نبالغ إذا قلنا: يهاجمون الإسلام كله؛ لأنه لو افترضنا أن بعض شبههم تنجح إذن نتوقف عن فهم القرآن، وعن تطبيقه حتى وإن بقي القرآن نصًّا مقدسًا نقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، لكننا قد نعجز عن تطبيقه في غياب السنة المطهرة.
فهجومهم عن السنة هو هجوم على القرآن الكريم، وفي نفس الوقت هجوم على الإسلام؛ لأن الإسلام في نهاية الأمر هو القرآن الكريم وهو السنة المطهرة.
أعداء الإسلام -سواء من أبناء الإسلام الذين أخذوا سبلًا أخرى تفرّقوا وابتعدوا
1 / 9
بها عن الإسلام ونهجه من الفرق المختلفة، ومن أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم- كلهم يعرفون أهمية السنة وخطورة الهجوم عليها؛ لذلك كانت هدفًا لهم، بل أنا أقول: ستظلّ هدفًا لأعداء الإسلام إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولذلك السنة المشرفة تحتاج -في كل جيل، وفي كل عصر، وفي كل مصر- إلى جنود مخلصين يدافعون عنها، ويذبون عنها الشبه والانحرافات والضلالات التي تحاول أن تثير الغبش حول بعض ما يتعلق بالسنة من رواتها، أو من مصادرها، أو من بعض الأحاديث، إلى آخر ما يثيرونه من شبه وإشكالات.
إذن، ستظل السنة محطًّا دائمًا لمحاولات التشكيك وإثارة الشبه وغيرها، ولذلك كان من المهم جدًّا أن ندرُس الشبه التي يثيرها أعداء الإسلام -قديمًا وحديثًا- حول السنة المطهرة؛ أولًا لنفنّد تلك الشبه، ولنبين أنها خاطئة، وأنها تصدر عن غير وعي وعن غير فهم ... إلى آخره، وفي نفس الوقت نصون أبناءنا الدارسين -أبناء الإسلام- الذين نضنّ بهم أن يقعوا في فريسة لهذه الشبه التي يثيرها بعض أعداء الإسلام، فلذلك الحمد لله الآن كل المراكز العلمية من جامعات وغيرها تدرس الآن هذه الشبه، وأصبحت هناك مواد مستقلة تُدَرّس للشبه: ما هي الشبهة؟ وكيف يثيرونها؟ وما هي أدلتهم؟ ويفندونها، ويردّون عليها -كما قلت- لتبقى السنة كما كانت.
السنة الحمد الله بفضل من الله ﵎ منذ أن قالها النبي ﷺ وإلى يومنا هذا سارت في رحلة من الصيانة والحفظ في عيون الأمة وفي قلوبها، يعني تخصص فيها جماعة من أفذاذ علمائنا ومن كبرائهم ومن أماجدهم؛ أفنوا حياتهم في خدمة السنة المطهرة؛ لما يعلمون من منزلتها، فالحمد لله وصلت إلينا نقية من كل
1 / 10
شبهة خالية من كل انحراف أو ضلال، وبفضل الله ﷿ الأجيال اللاحقة تتواصل مع الأجيال السابقة على نفس الدرب، درب الدفاع عن سنة رسول الله ﷺ.
إذن -كما قلت- ستظل السنة محطًّا للأنظار وللإشكالات من الأعداء؛ لأنها الهدف الأول أو هي خط الدفاع الأول عن الإسلام وأهله، وعن القرآن الكريم، إذا جاز لنا أن نستعير بعض التعبيرات العسكرية أو غيرها السائدة الآن.
تعريف الشبهة لغة واصطلاحًا، وبعض استعمالات القرآن والسنة لها
ما هي الشبهة؟ ما هو مفهومها؟ ابن منظور -رحمه الله تعالى- في مادة شبَهَ يقول المشبهات من الأمور هي المشكلات، والمُتَشَابهات هي المتماثلات، يذكر لنا معنيين يدوران حول مادة شبه: الأول وهي كلمة تسوية وتمثيل، هذا شبه فلان يعني مثله، فهما متشابهان ومتساويان تمامًا، والأخرى تعني المشكلات، هذا الأمر مشتبه أو مشبه عليّ يعني فيه مشكلة في فهمه.
يواصل ابن منظور كلامه ويقول: والفتنة إذا أقبلت شبَّهت على القوم، وأرتهم أنهم على الحق، حتى يدخلوا فيه ويركبوا متنها، يركبوا متن الفتنة، ومعناها يفعلون ما لا يحل، وإذا أدبرت وانقضت بان أمرها؛ فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ. إذًا الفتنة نوع من التلبيس شبَّهت على القوم وزينت لهم أنهم على الحق، فإذا دخلوا فيها وانحرفوا ووقعوا في أخطاء كثيرة بعد أن تنقشع هذه الفتنة يكتشفون أنهم كانوا على خطأ، لكن لاتَ ساعة مندم.
وشبه عليه الأمر أي: خَلّط عليه حتى التبس بغيره، والشبهة هي الالتباس،
1 / 11
وأمور مشتبهة ومشبّهة مشكلة، أو يشبه بعضها بعضًا، يعني: المعنيان معًا. وتقول: شبّهت علي يا فلان، تقول هذه العبارة إذا خلّط عليك بين الأمر صواب أو خطأ، وما إلى ذلك.
هذه بعض المعاني التي دار حولها ابن منظور في (لسان العرب)، وكما قلت: اخترنا من بينها معنيين: المعنى التماثل والتشابه، ومعنى الالتباس والخلط.
في معجم (مقاييس اللغة) لابن فارس -رحمه الله تعالى- في نفس المادة يقول ﵀: "الشين والباء والهاء" أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا، يقال: شِبْهٌ وشَبَه وشَبِيه. هذه يماثله: معنى المماثلة يعني، والشبه من الجواهر هو الذي يشبه الذهب، والمشبّهات من الأمور: المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا.
إذن، نفس القضية يدور حولها ابن فارس: معنى التشابه بمعنى التماثل بمعنى الاختلاط أو الالتباس والإشكال.
في (المعجم الوسيط) في مادة شبه أيضًا يقول: شبَّه عليه الأمر أبهمه، حتى اشتبه بغيره، وشُبّه عليه الأمر لُبّس، وفي التنزيل العزيز في القرآن الكريم: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: ١٥٧)، وكأنه يشبه أو يفسّر ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: ١٥٧) في الآية بمعنى اختلط عليهم وسنتعرض للآية بعد قليل. واشتبه عليه الأمر: اختلط، وفي المسألة: شكَّ في صحتها، يعني: اشتبه عليه الأمر: اختلط عليه الأمر، واشتبهت عليه المسألة أي: شك في صحتها، والشبهة الالتباس.
إذن، دارت مادة شبه في اللغة حول معنى المماثلة، هذا يشبه ذاك يعني يماثله في وجوه الشبه المختارة، وأيضًا فيها معنى الالتباس والاختلاط والإشكال في الفهم، أو ما شاكل ذلك.
1 / 12
وفي الشرع: ما التبس أمره، فلا يدرى أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل.
تعريف الشُّبه: ما التبس الأمر فيه، فلا ندري وجه الصواب فيه من الخطأ ووجه الحل من الحرمة.
الشُّبهة تُجمع على شُبه.
إذن، نخلص من هذه المناقشة اللغوية إلى أن مادة شبه لها معاني كثيرة من بينها معنيان وقفنا عندهما: معنى المشابهة والمماثلة، ولذلك عندنا التشبيه في البلاغة تشبيه شيء بشيء يجتمع معه في بعض وجوه الشبه أو أكثرها إلى آخره.
معنى الإشكال والالتباس والخلط أي: الذي في فهمه مشكلة؛ لا نميّز هل هو حق أو هو باطل ... إلى آخره.
إذا انتهينا إلى تعريف الشبهة في الشرع: ما التبس أمره، فلا يُدرى من باب الحلال هو أم من باب الحرام، وحق هو أم باطل، صوابٌ هو أم خطأ إلى آخر المتقابلات التي يمكن أن نتكلم فيها.
بعض استعمالات القرآن الكريم لمادة التشابه، وهي وردت في مجموعة من الآيات: وردت في سورة البقرة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ (البقرة: ٢٥)، أظن ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ (البقرة: ٢٥) يعني: متماثلًا، يعني هم في الجنة ينعمون بنعيمها وبثمراتها، وهم في أماكنهم كلما تمنوا فاكهة جاءتهم، وجاءتهم أيضًا مثلها مما يشابهها مع أنه يختلف عنها.
في سورة البقرة أيضًا في قصة البقرة، حين دعا سيدنا موسى ﵇ قومه إلى أن يذبحوا بقرة امتثالًا لأمر الله في حوار طويل: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: ٧٠) الاشتباه هنا بمعنى
1 / 13
الاختلاط أو الالتباس؛ أي: لا ندري ما البقرة المراد ذبحها. هذا من المعنى الثاني الذي نحن بصدده.
في سورة البقرة أيضًا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة: ١١٨) معناها: تشابهت قلوبهم مع قلوب الذين كانوا قبلهم، فقالوا قولًا واحدًا، تشابهوا في العمى والضلال والتكذيب للأنبياء والبعد عن الحق.
هذا هو وجه الشبه الذي جمع بين الأولين والآخرين في موقفهم من رسل الله، ومن رسالات الله التي جاء بها هؤلاء الرسل إلى أقوامهم؛ ليخرجوهم من الظلمات إلى النور.
في سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ (آل عمران: ٧) إلى آخر الآية، الله ﷿ أنزل الكتاب الكريم منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فمن كان في قلبه ضلال وزيغ فيتتبَّع المتشابه؛ يفسره على هواه ابتغاء الفتنة، ومن كان في قلبه إيمان ردَّ المتشابه منه إلى المحكم.
المتشابه في القرآن الكريم له تفسيرات متعدّدة: الذي لا يعلم تأويله إلا الله هذا معنى اختاره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (الفتح) في كتاب التفسير، كما سنشير الآن إلى بعض الأحاديث الواردة في السنة، هل هو المتشابه الذي يحمل وجوهًا متعددة من الفهم، أو من التأويل، أو التفسير؟ هل هو المتشابه الذي قد تَعِيَ بعض العقول عن فهمه؟
1 / 14
كل ذلك وارد لكن اختار ابن حجر أن المعنى المقصود: هو أنه لا يعلم تأويله إلا الله، كما ذكرت الآية التي معنا في سورة آل عمران، إذًا الاشتباه هنا أي: اختبار وامتحان للأمة في تفويضها أمر هذه الآيات إلى الله ﵎.
أيضًا في سورة النساء: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: ١٥٧) وهي تحتمل الوجهين في الحقيقة، تحتمل أن يقال شُبّه أي: اختلط عليهم لم يميزوه؛ لأن القصة بإيجاز أن الله ألقى الشبه على بعض تلاميذ سيدنا عيسى ﵇ فقتلوه بدلًا من سيدنا عيسى، هم لم يقتلوا سيدنا عيسى أبدًا كما قال القرآن الكريم: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: ١٥٧) فيا ترى، شبه لهم يعني التبس عليهم بغيره، أم بمعنى أن الله ألقى شبهه -أي مثله- على أحد تلاميذه فقتلوه، الآية تحتمل هذا وذاك، ولا بأس من إرادة المعنيين معًا، ما دام السياق يحتمل ذلك.
في الأنعام: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ (الأنعام: ٩٩) وفي الآية ١٤١: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ (الأنعام: ١٤١) الآيتان معًا بمعنى التماثل يعني هذا يشابه هذا ويماثله في كل عناصر الشبه من الحلاوة والجمال إلى آخره.
في سورة الزمر: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ (الزمر: ٢٣) أي: الله نزّل أحسن الحديث أي: القرآن الكريم كتابًا متشابهًا، هنا بمعنى التماثل أيضًا والتشابه، أي: يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة والبلاغة والتناسب، بدون تعارض وبدون تناقض أبدًا، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾.
هذه هي الآيات في حدود البحث التي وردت فيها كلمة الشبه أو مادة الشبه، وكلها أو معظمها دارت حول معنى التماثل، وقليلٌ منها دار حول معنى الالتباس.
1 / 15
جاءت مادة شبه أيضًا في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة أيضًا بالمعنيين، من ذلك ما رواه البخاري -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أمّ المؤمنين عائشة ﵂ قالت: «تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ (آل عمران: ٧) إلى آخر الآية، ثم قال النبي ﷺ بعد أن تلاها: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم».
وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات.
هؤلاء الذين يتتبَّعون المتشابه من القرآن الكريم يريدون أن يناقضوا القرآن ببعضه، يحاولون أن يبينوا أن بعض القرآن وبعضه اعتراضًا أو تضادًا، أو ما شاكل ذلك. هؤلاء في قلوبهم زيغ، والنبي ﷺ: «هؤلاء الذين سمى الله» أي: في قلوبهم زيغ وبُعد عن الحق، واستجابة للهوى وللشيطان، هؤلاء علينا أن نحذرهم، وأن نبتعد عنهم، وألا نكون منهم أبدًا بإذن الله ﵎.
أيضًا في حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- وهو الحديث المشهور: «الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» إلى آخره. هنا كلمة «المشتبهات» هذا الحديث رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان باب: فضل من استبرأ لدينه وعرضه، وفي كتاب البيوع في باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ورواه الإمام مسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات.
أعتقد هذا نقلًا حتى عن الكتب: أن المشتبهات في الحديث معناها أنها ليست بوضاحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثيرٌ من الناس ولا يعرفون حكمها، النبي ﵊ قال: «لا يعلمهن كثير من الناس» لكن العلماء يعرفون حكمها بنصّ أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك.
1 / 16
من المهم جدًّا أن نفهم الحديث- يعني: ليس في الإسلام ولا في تشريع الله شيء مشتبه لا نفهمه؛ إنما قد يَعِيَ فهمه على غير أهل الاختصاص، وهذا شيء طبيعي، ووجود طائفة من الأمة متخصصة في دراسة العلوم الشرعية هذا الأمر مطلب شرعي، ثابتٌ بالقرآن والسنة، ثابت في قول الله ﵎: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢) فهذه الآية طلبت من المؤمنين أن يعملوا على توفّر طائفة متخصّصة في العلوم الشرعية؛ ليرجع الناس إليهم حين يشتبه عليهم أمر من الأمور التي تخصّ أمر دينهم، أو دنياهم.
إذن، لا يؤخذ من الحديث أن في الإسلام مشكلات أو مشتبهات لكن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، والحديث قال: «لا يعلمهنّ كثير من الناس» إذن هناك قلة تعلمه، أو هناك مجموعة قد تكون أيضًا كثيرة مثل السابقة، لكنهم أهل العلم المتخصصون يعرفون حكمها كما قلت، ويردُّونها إلى قواعدها الشرعية كأن تدخل تحت نص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك.
إذن الأمور التي تتردد بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نصّ ولا إجماع، يجتهد المجتهدون الذين يملكون أهل الاجتهاد الحق يُلحقونها بالدليل الشرعي سواء هذا الدليل يفيد الحل أو يفيد الحرمة، وقد يكون هذا الدليل غير خالٍ من الاحتمال، فلا يقطع بسلامة وجهة نظره، وقد يكون الورع ترك هذا الشيء، وبذلك يدخل في قوله ﷺ: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
المقصود من هذا النقاش أن كلمة المشتبهات استعملت في الأحاديث بمعنى الشيء المشكل الذي يصعب فهمه على بعض الناس، وعليهم أن يرجعوا إلى أهل الاختصاص في ذلك.
1 / 17
وأما مادة شبه بمعنى الشبيه، فهذه قد وردت في أحاديث كثيرة، منها مثلًا: «وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غَشي المرأة فسبقها ماؤه؛ كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها» الشبه هنا بمعنى المماثلة، وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته، هو جزء من حديث، وأيضًا رواه مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، في قصة غير قصة البخاري، يعني: كل واحد ساق للحديث قصة غير الآخر، لكن القدر المشترك منها هو استعمال كلمة الشبه هنا بمعنى الدلالة على المماثلة.
الخلاصة: أن القرآن الكريم والسنة المطهرة استَعملا كلمة الشبه بالمعنيان الذي قلناهما، نقلًا عن كتب اللغة، ونخلص في النهاية إلى أن مادة شبه فيها معنى التشابه والتماثل، وفيها معنى الالتباس والإشكال في اللغة، وفي الشرع: ما التبس أمره، فلا يُدرى ما هو من باب الحلال أم الحرام، وهذا يرجع فيه إلى أهل الاختصاص.
موقفنا من الشُبه وواجبنا نحوها
لو أن أحدنا عرضت له شبهة في أمر من الأمور، ما هو موقفه؟ وفي الحقيقة تعرضت لها لأنها مسألة إيمانية مهمة، وتمثّل جانبًا من جوانب العظمة والروعة في الإسلام وعلاجه لما يعتلج في النفوس البشرية.
نحن في رحلة الإيمان لنا أعداء، من الشيطان ومن النفس والهوى، كما هو ثابت بأدلة كثيرة، وقد ينزغ الشيطان في صدر المؤمن بما يُخالف الشرع، وقد تحدِّثه نفسه أو هواه شياطين الإنس أو الجن، فما هو الحل؟
1 / 18
عند الإمام مسلم في كتاب الإيمان، روى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذْ بالله، ولينتِه» وفي رواية: «فليقل: آمنت بالله».
إذن، ممكن تثار شبهة في النفوس، الشيطان يلقيها، أو أيّ جهة أخرى تلقيها من شياطين الإنس الآن، من الذين نقرأ لهم أو نسمع لهم في أي مكان، ما هو الحل؟
وأنقل كلامًا عن الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في أثناء شرحه لهذا الحديث في (شرح مسلم) يقول -رحمه الله تعالى: وأما قوله ﷺ: «فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله»، وفي الرواية الأخرى: «فليستعذ بالله، ولينْتَه» فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.
بعض نزغ الشيطان يكفي في ردِّه أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد ورد في ذلك قول الله ﵎: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (فصلت: ٣٦) ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل: ٩٨) لكن إذا كانت شبهة؛ يعني: كثير من الخواطر البشرية السيئة يكفي في ردِّها أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ورد في الحديث، ولتقطع المواصلة في التفكير عن هذا الخاطر بأي طريقة كانت؛ كأن تخرج من المكان الذي أنت فيه، كأن تغلق الكتاب الذي تقرأ فيه مثل هذا الكلام، أو الشريط الذي تسمع فيه هذا الكلام، أو تنتقل إلى مجموعة من أصحابك الصالحين تدير معهم حديثًا آخر بأي شكل كان.
لكن لو كانت شبهة، ينقل الإمام النووي عن الإمام المازري في (المعلم) قوله:
1 / 19
قال الإمام المازري ﵀: "ظاهر الحديث أنه ﷺ أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرّدّ لها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، لكن: والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين؛ فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يُحمل الحديث، وعلى مثلها يُطلق اسم الوسوسة، فكأنه لمّا أراد أمرًا طارئًا بغير أصلٍ؛ دُفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له يُنظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها".
كلام ثمين حقيقة ويفرّق بين أمرين مهمين:
الأمر الأول: الخواطر التي لا تعتمد على أدلة، وهي من باب نزغ الشيطان أو حديث الهوى كما قلت: شياطين الإنس والجن، هذه لا أصل له، ولا تعتمد على أدلة؛ فالوقوف معها مَضيعة للوقت وللجهد، ويكفي الله ﷿ كفانا إيَّاها، بجهد بسيط وبأن نستعيذ به ﷾ من نزغ الشيطان في صدورنا، لكن التي فيها شبهة أدلة لا بد من العمل على إزالة هذه الشبهة، هذا تفريق مهم، وهو كثير في المسائل العلمية، ووقفت عنده لأن له صلة بالمادة العلمية التي ندرسها المتعلقة بالشبه حول السنة.
حقيقة، كثير من الشبه لا يستحق أن يُردَّ عليه، لكن البعض حاول أصحابها أن يُلبسوها ثوب البحث العلمي، وأن يقيموا عليها بعض الأدلة؛ فيجب الرد عليهم بأدلة، وليس الهدف من هذا الرّدّ أن نرضيهم، فقد لا يرضون أبدًا، وربنا ﷿ حدثنا عن اليهود والنصارى أنهم لن يرضوا عنَّا أبدًا: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البقرة: ١٢٠) وإنما الإجابة على هذه الشبه والإشكالات إنما لتنقية صدورنا، وصدور أولادنا أبناء الإسلام.
1 / 20
في هذه الأيام المعرفة أبوابها مفتوحة كثيرة جدًّا عبر الحاسب الآلي، والإنترنت، والفضائيات، ولا نستطيع أبدًا إغلاق أبواب هذه الفتن؛ إنما المراد تحصين شبابنا وأولادنا ضدَّ هذه الفتن، التي هي في الحقيقة لا تعتمد على أدلة، لكن ما دام قد أثاروها وحاولوا أن يُقيموا حولها كلامًا يريدون به التنغيص على الإسلام وأهله؛ فلا بد من الرّدّ عليهم. إذا كان الأمر يعتمد على الأدلة فقاوم هذا الأمر بالأدلة، الإسلام دين العلم، دين التفكير الناضج، دين الاعتماد على الأدلة: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: ١١١)، إن كان الذي يثير إشكالًا له أدلة نقف مع هذه الأدلة، نناقشها، ونرد عليها، ونفحمها، ونبطلها، وإن كانت لا تعتمد على أدلة نُعرض عليها أيضًا، هذا أسلوب اعتمده القرآن الكريم واعتمدته السنة المطهرة، ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية: ٢٤) لم يردّ عليهم؛ لأن هذا مسخ للفطرة وانحراف بها، واحد ينكر إن الكون له رب يسيره، واحد يقبل أن هذا الإبداع في الكون وتلك العظمة في تسيير أموره من غير من يدبّر ذلك. هذا لا يتوقف عنده؛ بينما مثلًا أقام القرآن على الأدلة على الوحدانية، لأنها أم القضايا في الإسلام: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (المؤمنون: ٩١) ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: ٢٢)، هذه تعتبر أدلة، ويمكن ترتيبها في مقدمات ونتائج، لكن لأن قضية الوحدانية هي أم القضايا التي يتفرع عنها كل القضايا في دين الإسلام؛ لذلك اهتم القرآن بها، وأقام الأدلة عليها، وردَّ شُبَهَ المنكرين لها.
1 / 21
أما قضية أن يكون الله موجودًا -جل في علاه- هذا أمرٌ فطرنا الله عليه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٢، ١٧٣)، إذن ردّ القرآن الكريم على بعض الشبه، ولم يهتم ببعض الشُّبَه الأخرى.
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: ١١١) جاءت في أكثر من آية ردًّا على من يُثير شبهًا، أنت لا تملك دليلًا، ولذلك لم يردّ القرآن عليه في مثل هذه الأمور، وإنما طلب منه الإتيان بالدليل حتى يُردَّ عليه. إذن هو اهتم ببعض القضايا فرد عليه بالأدلة وترك بعض الأمور؛ لأنها تَفتقد الأدلة، ومن ثَمَّ يكون الوقوف معها مضيعة للوقت، وإتلافًا للجهد في غير طائل، والأولى أن تنصرف هممُ المسلمين، وأن يستثمروا جهدهم ووقتهم فيما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم.
إذا عرفنا الشبه نقول: المشكلات التي يثيرها أعداء الإسلام حول السنة، الخلط الذي يُثيره أعداء الإسلام من المستشرقين ومن غيرهم حول السنة المطهرة، من يوم أن قال الرسول ﷺ السنة. وسيظل هذا الأمر، لم يخلُ عصر من العصور ممن يثيرون الشبه حول السنة.
وجاءت الفرق الإسلامية وكان لها موقف من السنة يدرَّس في تاريخ السنة وفي موقف الفرق منها: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم، والشيعة وغيرهم، وامتدادًا إلى العصر الحديث من العلمانيين، والجاحدين، والمنكرين، والمستشرقين يُثيرون الشبه حول الإسلام، وحول سنة الرسول ﷺ.
1 / 22
لماذا كان هجومهم على السنة؟
لأنها هي خط الدفاع الأول عن الإسلام، لأنها التي تبين القرآن الكريم، لأنها هي التي تُشرع كما يُشرع القرآن الكريم، وهم يعلمون أن الهجوم عليها إنما هو هجوم على الإسلام ذاته، ممثلًا في مصدريه الرئيسين "القرآن الكريم والسنة المطهرة"، لو سُلم لهم هذا -والعياذ بالله- ما بقي لنا من إسلامنا شيء، ولذلك هذا الذي يجعلنا نقول: إن السنة لن يتوقف الهجوم عليها في أي عصر، طالما للإسلام أعداء من داخل أرضه ومن خارج أرضه.
وأيضًا نطالب في الجهة المقابلة أن يكون للسنة المطهرة جنود يُدافعون عنها في كل زمان ومكان، وأن يُقبلوا على دراستها بروح الجندية، ولذلك أنا أطلب من أبنائي الذين يسمعونني الآن أن يُقبلوا على دراسة السنة بهذه الروح، ويعلمون أنهم على ثغرٍ من ثغور الإسلام يُحاول الأعداء أن يتسلَّلوا إلى الإسلام من قِبَله، ومن ناحيته، ليس بأسلوب عسكري، وإنما بأساليب ناعمة قد تخفى على البعض، وقد يلبسون لباس العلم، ويتمسَّحون بردائه ويُوهمون المتلقي أنهم يتتبَّعون المناهج العلمية.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 23
الدرس: ٢ الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة
1 / 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة)
تعريف الاستشراق والمستشرقين
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فنتكلم عن الاستشراق، وموقفه من السنة المطهرة، والمنهج الذي اتبعه المستشرقون في الدراسة، كمقدمة لدراسة شبههم التي أثاروها حول السنة المطهرة:
الاستشراق في اللغة:
الألف، والسين، والتاء للطلب، حين أقول: أستغفر الله؛ يعني: أطلب المغفرة من الله ﵎، فاستشرق أصل المادة شرق، تقول: شرقت الشمس أي: طلعت، واسم المكان أو الجهة المَشْرِق: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ (البقرة: ١١٥). ويُقال: شتان ما بين مَشْرق ومغرب ... إلى آخره.
وكلمة استشرق أي: طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، المُسْتَشْرِق: اسم فاعل من استشرق أي: الذي طلب دراسة ما يتصل بالشرق، والاستشراق اصطلاحًا كما عرفته كثير من المصادر التي تكلمت عن الاستشراق ودلالاته: هو علم الشرق، أو علم العالم الشرقي، وهو تعبيرٌ أو مصطلح أطلقه الغربيُّون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين، دراسةِ شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم، ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية وحضارتهم، كل ما يتعلق بهم، كان هذا معنى الاستشراق.
ثم صار الاستشراق يُطلق على معنى خاص: بعد هذا المعنى العام الذي يعني دراسة الشرق بكل أحواله، صار يختصّ -أي: الاستشراق- بدراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض التبشير، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي
1 / 27
لبلدان المسلمين، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية.
هذا المعنى قاله كثير من الذين تكلموا في الاستشراق:
(أجنحة المكر الثلاثة وخوافها) للأستاذ عبد الرحمن الميداني، (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) للدكتور محمود زقزوق وغيرهم، (المستشرقون والتاريخ الإسلامي) للدكتور علي الخربوطلي، (رؤية إسلامية للاستشراق) للدكتور أحمد غراب، وكثير من الكتب اصطلحت على تعريف الاستشراق بهذا المعنى الذي نقوله.
حُصر الاستشراق بعد أن كانت دراسة الشرق كله من كل جوانبه- حُصر الأمر في دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، والغرض من هذه الدراسة خدمة أغراض التبشير، خدمة أغراض الاستعمار، إعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام والأمة الإسلامية.
وتكوَّن من هذا الثلاثي ثالوث موجه ضد الأمة الإسلامية: التبشير، الاستعمار، الدراسات التي قام بها المستشرقون للسيطرة على بلاد الإسلام بعد أن يدرسوا المنافذ التي تؤدِّي بهم إلى ذلك.
ومن هو المستشرق إذن؟
المستشرقون هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدِّمون هذه الدراسات للمبشِّرين وللقائمين على قيادة الدوائر الاستعمارية؛ لكي يستفيدوا بتلك الدراسات في تحقيق أغراضهم التي يبحثون عنها من الأمة الإسلامية؛ من
1 / 28
الاستيلاء على مصادرها الاقتصادية، من توهين عقيدتها الدينية ... إلى آخر ما يقصدونه من أغراض ومن أهداف.
هذا الاستشراق كان دوره خطيرًا في الحقيقة؛ لأنه هو الذي صاغ التصورات الغربية عن الإسلام وأهله لكل أبناء الغرب، من سياسيين وغيرهم، هذا الاستشراق كان هو المقدمة، كان هو الطليعة للغرب في تقديم المعلومات من وجهة نظرهم للغرب، وكيف يتمكَّنون من السيطرة على الإسلام في كل الجوانب.
والمستشرق هو الذي يدرس أحوال الشرق بهذا المعيار الذي قلناه من علماء الغرب، وليس من علماء الشرق، أي: يطلب الاستشراق دراسة أمور الشرق. وكما قلنا: إن هذا الاستشراق كان له أكبر الأثر في تصوُّر العالم الغربي بشكل عام عن الإسلام، استمدَّ الغرب معلوماتهم عن الإسلام وحدَّدوا موقفهم منه بناءً على هذه الدراسات الاستشراقية، وهذا هو وجه الخطورة في الاستشراق وما يتعلق به في جانب العقيدة، وفي جانب السنة التي سنقف معها.
الاستشراق -بهذا المعنى الخاص الذي قلناه- يعتبر موقف عقائدي وفكري معادي للإسلام؛ لأنه انطلق لخدمة التبشير ولخدمة الاستعمار للقضاء على الأمة الإسلامية، إذن هو انطلق من موقف معادي بادئ ذي بدء، وهذه خطورة، وهو الذي يجعلنا نقف ونتصدَّى، ولذلك لم يتركوا شيئًا يتعلق بالإسلام وأهله إلا وتكلَّموا فيه، وصارت لهم المؤلفات.
ويشهد الله أننا لا نفتعل المعارك، لا نحارب طواحين الهواء كما يقال، إنما هذه الحقيقة، والله ﷿ سجّل هذا الأمر في أكثر من آية في القرآن في الكريم:
1 / 29