هكذا ينكر هيوم أن يكون في جوف الإنسان كائن واحد متصل اسمه «نفس»، ويمضي في حديثه بعد هذا الإنكار ليقرر وهو مطمئن لصدق ما يقرره، يقرر أن الإنسان ليس إلا «حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضا في سرعة هائلة لا يتصورها خيال، وهي إدراكات لا تنفك في حركة وتدفق لا ينقطعان.»
87
إن العين إذا ما دارت في محجرها تغير إدراكها، ولئن كان تغير الإدراكات البصرية بهذه السرعة وبهذا التنوع، فإن تغير الإدراكات الفكرية أشد سرعة وأكثر تنوعا؛ وقل مثل هذا في شتى حواسنا، كلها تدرك إدراكات متلاحقة سريعة التغير، بحيث لا تظل قوة واحدة من قوى الإدراك ثابتة على مدرك واحد لحظة واحدة؛ إن العقل الإنساني لأشبه شيء بالمسرح، تتعاقب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبا سريعا واحدا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكون منها تركيبات لا نهاية لاختلافها ولا حد لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأن «النفس» لا تكون نفسا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلا ولا هي تؤلف «ذاتية» واحدة تصب العناصر المختلفة في كائن واحد، على الرغم مما نتوهمه في أنفسنا من أن كيان الإنسان قوامه نفس بسيطة لها ذاتية فريدة واحدة، «على أن تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يضللنا؛ إذ ليس العقل إلا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»
88
فإذا كان الإنسان حلقات متتابعة من إدراكات لا تربطها وحدة، فما الذي أوحى إليه بهذا الوهم العجيب، وهو أن هذه الإدراكات المتتابعة إنما تنتمي كلها إلى «ذات» واحدة يستمر وجودها ويتصل من أول الحياة إلى آخرها، ما الذي أوهم الإنسان أن له «نفسا» أو «روحا» أو «ذاتا» لا تنفك قائمة منذ لحظة ميلاده إلى لحظة موته، مع أنه إذا ما نظر إلى باطنه ليلحظ ما هنالك، لم يجد إلا حالات فرادى يتلو بعضها بعضا، وليس بينها خيط يربطها في ذات واحدة؟
إنه لما كان الشبه شديدا بين الذاتية التي نخلعها على حياتنا الفكرية، والوحدانية التي نصوغ فيها مجموعة الحالات التي يتألف منها فرد من أفراد النبات أو الحيوان، بحيث نقول عن شجرة معينة أو عن كلب معين - مثلا - إنها «شجرة واحدة» رغم اختلاف حالاتها، وإنه «كلب واحد » رغم تنوع حالاته، أقول إنه لما كان الشبه شديدا بين الذاتية التي نخلعها على أنفسنا والذاتية التي نخلعها على فرد معين من أفراد النبات أو الحيوان، فلنتحدث عن النبات والحيوان أولا على سبيل الشرح والتوضيح.
إنه لا شك في أن لدينا فكرة محددة عن أي شيء معين كيف أنه يظل شيئا واحدا مدى فترة من الزمن، لا يتعاوره خلالها تغير ولا يتقطع فيها مجرى وجوده، على الرغم من أننا نعلم أن هذه الوحدانية والاستمرار اللذين نخلعهما على ذلك الشيء المعين لا ينفيان أن لحظات الزمن المختلفة تتعاقب عليه بما تحمل من تغيرات؛ بعبارة أخرى، إن لدينا فكرة محددة عن شجرة معينة أنها تظل هي هي مدى فترة معينة من الزمن، رغم ما يتعاورها من تغيرات مع تعاقب اللحظات الزمنية عليها، وهذه الوحدانية الكامنة وراء الظواهر المتغيرة هي ما نسميه بالذاتية أو بالهوية؛ وإلى جانب هذه الفكرة المحددة التي لدينا عن وحدانية الشيء الواحد، يكون لدينا فكرة محددة أخرى عن «تعدد» الحالات التي تتعاقب عليه، كأنما كل حالة من تلك الحالات الكثيرة كائن قائم بذاته لا علاقة بينه وبين سابقه أو لاحقه أو مصاحباته ... هاتان فكرتان محددتان عندنا عن أي شيء معين: فكرة أن له وحدانية في ذاتيته واستمرارا في وجوده، وفكرة أنه ذو حالات كثيرة وظواهر متعددة يتصل بعضها ببعض على نحو ما لكننا نستطيع تصور كل حالة على حدة كأنما هي كائن مستقل بذاته؛ غير أن هاتين الفكرتين على تميز إحداهما من الأخرى سرعان ما تختلط إحداهما بالأخرى في خيال الإنسان بحيث تتعذر التفرقة بينهما، وتصبح الكثرة هي نفسها الذات الواحدة، كما تصبح وحدانية الذات هي نفسها الحالات الكثيرة التي تتعاقب متصلا بعضها ببعض؛ وسر ذلك هو أن فعل الخيال الذي نوحد به الشيء هو نفسه الذي نستعرض به الكثرة؛ فترى العقل ينتقل من حالة من حالات الشيء المعين إلى التي تليها ثم التي تليها، انتقالا يزداد سهولة ويسرا كلما كثر تكرار هذه العملية إزاء ذلك الشيء الذي يستعرض العقل سلسلة حالاته، فيتوهم الإنسان - لسهولة انزلاقه على سلسلة الحالات المتتابعة - أنه إنما يدرك شيئا واحدا لا كثرة من حالات؛ وإن هذا الوهم ليرسخ في أنفسنا رسوخا إلى حد أننا قد ندقق النظر آنا فندرك أننا في الحقيقة إزاء حالات متعددة حين نظن أننا إزاء شيء واحد ذي ذات واحدة، لكننا سرعان ما نعود إلى وهمنا الأول، فنثبت للشيء مثل هذه الذاتية الموهومة؛ ثم سرعان ما ننسى أننا منذ لحظة كنا قد دققنا النظر في الأمر وعلمنا ألا ذاتية هناك ولا اتصال في الوجود، ننسى ذلك ويغلب علينا الاعتقاد بأن الشيء الذي نحن بصدده ليس حالات كثيرة متتابعة وكفى، بل إن وراء هذه الكثرة وحدانية ذاتية تمسكها كلها معا لتجعل منها كائنا واحدا، وها هنا ترانا نشطح في الوهم بحيث نفرض أن ثمة مبدأ خفيا وراء الظواهر المتغيرة الكثيرة في الكائن الواحد، وأن هذا المبدأ الخفي هو السر في ذاتية الشيء وفي اتصال وجوده، ثم نخطو بعد ذلك خطوة فنطلق على هذا المبدأ المزعوم اسما فنسميه «نفسا» أو «روحا» أو «جوهرا»، ولا نلبث أن ننسى أن هذا المبدأ المزعوم هو من خلقنا نحن، وأن ليس هنالك إلا الحالات الكثيرة المتتابعة التي ضممناها معا بالخيال وفرضنا لها وحدانية واتصال وجود؛ لا بل إننا قد نجاوز هذا الوهم إلى وهم آخر في حالة النبات والحيوان، فلا نكتفي فيهما بمبدأ الذاتية الذي نستعين به على أن نجعل الشجرة «الواحدة» أو الحيوان «الواحد» كائنا واحدا، بل نضيف إلى ذلك حقيقة ملغزة مبهمة نتخذ منها رباطا يربط أجزاء الشجرة «الواحدة» في كائن عضوي «واحد».
89
أوهام هي إذن هذه الأشياء الخفية التي نسميها بالذاتية أو بالنفس أو بالروح أو بالجوهر؛ وليس قوام الشيء الذي نعده شيئا «واحدا» إلا مجموعة كبيرة من حالات كثيرة منوعة، ارتبطت معا فيما ظنناه شيئا «واحدا» بمبدأ من مبادئ الترابط، كالتشابه أو التجاور أو تلازم السبب والمسبب؛ وما مشكلة «الذاتية» أو «النفس» أو «الروح» أو «الجوهر» إلا مشكلة ألفاظ انتحلناها انتحالا دون أن تكون لها مسميات مما يمكن أن نقع عليه بين انطباعاتنا أو أفكارنا.
الذاتية التي نخلعها على الشيء هي من خلق خيالنا وليست هي بذات وجود واقعي في الشيء نفسه؛ فحيث يسهل انتقال العقل من إحدى حالات الشيء إلى حالة أخرى، نزعم أن بين الحالتين ذاتية توحد بينهما، وأما حيث يتعذر على العقل مثل هذا الانتقال السهل فها هنا ترانا نتشكك في أن تكون بين الحالات المختلفة ذاتية توحد بينها؛ فانظر مثلا إلى كتلة من الصخر، ثم افرض أن زيادة طفيفة أضيفت إليها بحيث يتعذر عليك إدراك الفرق بين الحالتين، قبل الزيادة وبعدها، فعنذئذ يسهل على العقل أن ينتقل من حالة الصخر الأولى إلى حالته الثانية، ولذلك نحكم بأن الصخرة التي نحن بصددها «واحدة» ذات وجود متصل؛ أما إذا أضيفت إلى الصخرة إضافة كبيرة ملحوظة، أو قطعت منها قطعة كبيرة ملحوظة، بحيث لا يسهل الانتقال بين الحالتين انتقالا فيه انزلاق لا تعثر فيه، لما بين الحالتين من اختلاف ظاهر، فعندئذ نقول عن الصخرة إنها لم تعد هي هي، وإنها فقدت ذاتيتها واستمرار وجودها.
Unknown page