81
ومعنى ذلك هو أن اعتمادنا في الحكم على فكرة ما بالصواب - رغم كونها فكرة لا تمثل بذاتها انطباعا حسيا - قائم على أن تكون هذه الفكرة مرتبطة أو متصلة بانطباع حسي، فيخلع عليها هذا الانطباع الحسي الذي يتصل بها أو يرتبط بها على نحو ما، وضوحا من وضوحه ونصوعا من نصوعه.
هذه نقطة بالغة الأهمية في فلسفة هيوم، وهي من الأسس التي تجعله رائدا للمدرسة التجريبية العلمية المعاصرة لنا اليوم، نعيدها ونوضحها للقارئ، فنقول إنه إذا كان الإنسان إزاء قضية تتصل بالوجود الفعلي الواقعي لشيء ما (أي إنها ليست مجرد قضية تحليلية تكرارية كقضايا الرياضة مثلا) فلا بد من اتصالها على وجه من الوجوه بانطباعاتنا الحسية، فهي إما تتصل بتلك الانطباعات اتصالا مباشرا، بمعنى أنها عندئذ تكون صورة أو نسخة لانطباع حسي أو أكثر، وإما أن تكون مرتبطة بفكرة أخرى مما يقوم مباشرة على انطباع حسي أو أكثر؛ بعبارة موجزة نقول: إنه لا مناص من الرجوع إلى خبراتنا الحسية على نحو ما إذا ما أردنا إثبات الصدق لقضية تنبئ عن إحدى الموجودات الفعلية الواقعية، ولا يجوز لأحد أن يتحدث عن كائن ما، يزعم له الوجود الفعلي ، دون أن يكون في مستطاعه إسناد حديثه هذا إلى خبرة حسية، من بصر أو سمع أو لمس ... إلخ، أما أن تدعي الوجود الفعلي لكائن معين، ثم تعجز عن هدايتنا إلى الحاسة التي جاءنا العلم به عن طريقها، فذلك تناقض صريح، كأنك بمثابة من يقول: إني أرى ولا أرى، أو إني أسمع ولا أسمع.
إذا استنتجت وجود شيء ما من وجود شيء آخر، فلا بد أن يكون هنالك سند لهذا الاستنتاج مما يقع الآن على حواسنا، أو مما وقع على حواسنا في لحظة ماضية لكن صورته الذهنية لا تزال قائمة في الذاكرة؛ أما أن تستنج شيئا من شيء آخر، وهذا الآخر من شيء ثالث، وهذا الثالث من شيء رابع، وهكذا إلى ما لا نهاية، دون أن تقف هذه السلسلة الاستنتاجية بخطوة ترتد بها إلى خبرتك الحسية، فذلك تسلسل في الاستنباط لا يعرف نهاية معلومة يقف عندها، وبالتالي لا يجد الحلقة الرابطة التي تصله بمجرى الوجود الواقعي.
والحق أن العقل الخالص - الذي لا يستند إلى خبرة حسية - محال عليه أن يستنتج وجود شيء معين من وجود شيء آخر؛ إنه لا يستطيع - مثلا - أن يستنج لون البرتقالة من شكلها، فإذا ما رأينا أنفسنا نستنج شيئا كهذا، فليس هو «العقل» الذي يهدينا، لكنها «العادة» أو «الترابط»؛ إذ اعتدنا أن نرى لون البرتقالة الأصفر مرتبطا بشكلها المستدير، بحيث يكفي بعد ذلك أن تنطبع حواسنا بأحد الجانبين لننتقل إلى الآخر استنتاجا؛ وترانا «نعتقد» في صواب النتيجة التي استنتجناها على أساس وضوحها في الذهن لارتباطها بانطباع حسي ذي وضوح؛ وهكذا نعود إلى تعريفنا الذي أسلفناه لاعتقاد، بأنه «فكرة ناصعة متصلة أو مرتبطة بانطباع حسي راهن».
وعد إلى خبرتك وانظر؛ فقارن بين حالتين: حالة تحكم فيها بواقعية الفكرة التي في رأسك، وحالة أخرى تعلم فيها أنك إنما تحلم، وستجد أنك في الحالة الأولى، حالة اعتقادك بأن أفكارك متصلة بالواقع الفعلي، إزاء أفكار واضحة ناصعة، وأما في الحالة الثانية، حالة الأحلام والأوهام، فأنت إزاء أفكار على شيء من الغموض ... أو اقرأ التاريخ مقارنا إياه بوقائع القصة الخيالية، تجد دائما أن اعتقادك في صدق التاريخ ليس مستمدا من أن الأفكار فيه من نوع مختلف عن الأفكار الواردة في القصة الخيالية، بل الفرق كل الفرق هو في درجة الوضوح الذهني: الأولى أكثر وضوحا لأنها مرتبطة بأسانيد وقعت على الحواس، والثانية أقل وضوحا لأنها لا ترتبط بخبرات حسية مباشرة.
82
ولنضرب لك بعض الأمثلة التي توضح مبدأ هيوم في طبيعة الاعتقاد وحقيقته، حين يكون الشيء الذي أعتقد في وجوده وجودا فعليا ليس قائما أمام حواسي قياما مباشرا:
إنني «أعتقد» أن في رأسي مجموعة عصبية ذات صورة معينة ووظائف معلومة، هي التي نطلق عليها كلمة «مخ»؛ فعلى أي أساس بنيت هذا الاعتقاد، ما دمت لا أرى مخي ولا أحسه إحساسا مباشرا بأية حاسة من حواسي؟ بنيت هذا الاعتقاد على أساس أن هذه الفكرة التي أعتقد في صوابها مرتبطة بشيء آخر تنطبع به حواسي الآن، وهو - مثلا - هذه الحركات التي تتحركها يدي ممسكة بالقلم إذ أكتب هذا الذي أكتبه؛ هذا إدراك حسي مباشر، وعلمت بالخبرة الماضية أنه ما كانت لتحدث مثل هذه الحركات اليدوية وهذه الكتابة التي أكتبها إلا إذا كان هنالك جهاز عصبي من نوع معين؛ علمتني الخبرة الماضية أن هنالك شيئين مرتبطين دائما، وهما: أمثال هذه الحركات التي تتحركها يدي، ووجود مخ في الرأس، فربطت بينهما ربطا يتيح لي الآن أن أستنتج الجانب الذي لا أراه من الجانب الآخر الذي أراه؛ وبهذا يكون الاستنتاج قائما على خبرة حسية مباشرة، ويكون «اعتقادي» في صوابه مستندا إلى وضوح هذا الذي أراه الآن رؤية مباشرة.
مثل آخر: إنني أعلم أن قيصر مات مقتولا في روما، فعلى أي أساس بنيت هذا العلم ما دمت لم أره بنفسي، وما دمنا قد جعلنا شرط المعرفة أن تنطبع حواسنا بما نعرف؟ بنيت علمي بذلك على أساس كتابات قرأتها، أي على أساس انطباعات حسية مباشرة، ولدي من الروابط ما يجعلني أستدل وجود الشيء الذي أقرأ عنه من الأسطر التي أقرؤها ... لكن ماذا لو كانت الرابطة بين ما أرى الآن وبين ما «أعتقد» في وجوده استنتاجا ، لم تكن في خبرتي الماضية مطردة الحدوث؟ هنا يكون حكمي على درجة من «الاحتمال» تتناسب مع تكرار الحدوث في خبراتي السابقة، فتزيد درجة احتمال الصدق فيما أعتقده كلما زادت درجة تكرار حدوث الطرفين المرتبطين في الظروف الماضية.
Unknown page