Darajat Sitt
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
Genres
إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
1 - عصرنا المتشابك
2 - أصول علم «جديد»
3 - عوالم صغيرة
4 - ما وراء العالم الصغير
5 - البحث في الشبكات
6 - الأوبئة والأعطال
7 - القرارات والأوهام وجنون الجماهير
8 - الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ
9 - الابتكار والتكيف والتعافي
Unknown page
10 - نهاية البداية
11 - العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قراءات إضافية
المراجع
إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
1 - عصرنا المتشابك
2 - أصول علم «جديد»
3 - عوالم صغيرة
4 - ما وراء العالم الصغير
5 - البحث في الشبكات
Unknown page
6 - الأوبئة والأعطال
7 - القرارات والأوهام وجنون الجماهير
8 - الحدود والسلاسل وقابلية التنبؤ
9 - الابتكار والتكيف والتعافي
10 - نهاية البداية
11 - العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قراءات إضافية
المراجع
الدرجات الست وأسرار الشبكات
الدرجات الست وأسرار الشبكات
Unknown page
علم لعصر متشابك
تأليف
دانكن جيه واتس
ترجمة
أميرة علي عبد الصادق
مراجعة
محمد فتحي خضر
إشادة بكتاب «الدرجات الست» لدانكن واتس
«يجمع واتس في سلاسة بين دراسة تاريخية للمجال ونماذج واقعية مستمدة في كثير من الأحيان من خبرته الشخصية. إنه عمل متقن وشامل.»
كيركس ريفيوز، مراجعة نقدية
Unknown page
مزودة بنجوم للتقييم «مقدمة رائعة يسهل فهمها تماما لعلم الشبكات ... هذا الكتاب له أهمية كبيرة لعدد من الأسباب؛ أولا: لأن واتس يعرض فيه مقدمة لمجال شديد التعقيد، وتتميز هذه المقدمة برؤيتها العميقة ومتعة قراءتها. ثانيا: ... يقدم واتس من التفاصيل الكافية والفروق الطفيفة ما يمنح العمل تأثيرا عميقا. يصور هذا الكتاب العوالم المادية والاجتماعية على نحو مدهش يستثير التفكير.»
فيرجينيا كوارترلي ريفيو «كتاب مثير بقلم أحد العلماء الشباب الرواد. إن رؤى واتس المتعمقة للعلاقات المتداخلة التي تجمع بيننا - بدءا من الروابط على الشبكة العنكبوتية العالمية، مرورا بالمراكز العالمية الرئيسية للمال والمواصلات، وصولا إلى الشبكات الجنسية التي تنشر وباء الإيدز حول العالم - تقدم إطارا جديدا مهما لفهم مجتمعنا العالمي وما يشهده من تغير نشط. يوضح واتس كيفية ارتباطنا جميعا ارتباطا وثيقا في «عوالمنا الصغيرة». سيتواصل القارئ من خلال هذا الكتاب مع رواد الفكر في العالم في مجال نظرية الشبكات الحديث والمثير.»
جيفري دي ساكس،
مدير «معهد الأرض» بجامعة كولومبيا «قصة شخصية ومتميزة؛ نظرا لقدرتها على عرض عجائب علم معقد. إنها محاولة مذهلة!»
بيل ميلر، الرئيسي التنفيذي
لشركة ليج ماسون فندز «نظرة مشوقة على الشبكات المتعددة التي يزخر بها «عصرنا المتشابك»، والمؤثرات والتعقيدات التي تحيط بعملية تحديد هذه الشبكات وقياس حجمها.»
آر إف كونكلين، تشويس «نظرا لشرح واتس هذه الظاهرة ... بلغة يسهل فهمها، سيقبل الكثير من القراء دعوته لاستكشاف آفاق مشروع فكري جديد.»
بوكليست «يمنح أسلوب واتس المشوق أفكاره المنظمة انطباعا مثيرا بعيدا عن الملل.»
ذا أنيون «مجهود مبهر.»
بابلشرز ويكلي «نظرة مذهلة - ومن واقع خبرة شخصية غالبا - على علم الشبكات الناشئ. من خلال كتاب «الدرجات الست»، سيعرف القراء بالتأكيد الكثير عن الشبكات؛ فواتس معلم موهوب. غير أن هذا الكتاب أكثر نفعا باعتباره نافذة على نشأة فرع جديد من المعرفة العلمية.»
Unknown page
ريسيرش نيوز آند أوبرتيونيتيز
إن ساينس آند تكنولوجي
إلى
أبي وأمي
«قرأت ذات مرة أن كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط. ست درجات تفصل بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب.»
أويزا، في مسرحية «ست درجات من الانفصال»
بقلم جون جوار
تمهيد
بقلم دانكن واتس «نادرا ما ينتهي بي المآل إلى حيث كنت أنوي، لكنني غالبا ما أصل إلى حيث كان يجب أن أكون.»
دوجلاس آدامز،
Unknown page
رواية «استراحة النفس الطويلة المظلمة»
من الغريب حقا الطريقة التي تسير بها الأمور؛ فقد مضى أقل من عقد من الزمان على تحديقي في ذلك الرواق الطويل بجامعة كورنيل، متسائلا عن سبب عبوري نصف الكرة الأرضية لأدرس مادة غامضة في مكان بدا فجأة في عيوني كالسجن. لكن في تلك الفترة الوجيزة تغير العالم، مرات عدة، وتغير معه عالمي، فمن خلال الصعود شديد السرعة لشبكة الإنترنت، والمعاناة من سلسلة من الأزمات المالية امتدت من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، والاصطدام بالإرهاب والعنف العرقي من أفريقيا إلى نيويورك، أدرك العالم بطريقة قاسية أنه متشابك على نحو لم يتوقعه الكثير من الناس، ولم يفهمه أحد.
في غضون ذلك، وبين الأروقة الهادئة للأوساط الأكاديمية، أخذ علم جديد في النشوء؛ علم يتناول مباشرة الأحداث الجسام التي تقع من حوله، ونظرا لعدم وجود مصطلح أفضل، فإننا نطلق على هذا العلم الجديد اسم «علم الشبكات». وبخلاف فيزياء الجسيمات دون الذرية والبنية واسعة النطاق للكون، فإن علم الشبكات هو علم العالم الواقعي؛ عالم البشر والصداقات والإشاعات والأمراض وصيحات الموضة والشركات والأزمات المالية. فإذا كانت هناك سمة بسيطة لوصف هذه الفترة على وجه التحديد من تاريخ العالم، فقد تكون هذه السمة هي أن العالم صار متشابكا على نحو أكبر وأكثر شمولية وفجائية من أي وقت مضى. وإذا أردنا فهم هذا العصر؛ «العصر المتشابك»، فعلينا أن نفهم أولا كيف نصفه وصفا علميا؛ معنى ذلك أننا بحاجة إلى علم للشبكات.
يتناول هذا الكتاب قصة ذلك العلم، إنها ليست القصة الكاملة؛ فالنسخة غير المختصرة أكبر من أن يتسع لها كتاب واحد صغير، وستفوق قريبا قدرة أي شخص على استيعابها خلال فترة حياته بأكملها. لكن الكتاب يغطي جزءا منها؛ فهو رواية يسردها مسافر عن رحلاته في أراض غريبة وجميلة. وعلى أي حال، كل قصة يجب أن تروى من منظور معين (سواء عبر عن ذلك على نحو صريح أم لا)، وهذه القصة أرويها من منظوري. يرجع ذلك جزئيا إلى أنني لعبت دورا في الأحداث نفسها، وهي أحداث مثلت جزءا محوريا من مسار حياتي المهنية. لكن هناك سببا آخر أعمق يتعلق بسرد العلم. من السمات النموذجية للعلم في الكتب الدراسية أنه مضجر ومفزع. إن علم الكتب الدراسية، الذي يظهر في صورة سلسلة منطقية متواصلة من أسئلة تبدو مستحيلة إلى نتائج تبدو غير قابلة للجدل، من الصعب فهمه، ناهيك عن محاكاته. حتى عندما يقدم العلم كفعل استكشافي، أي إنجاز بشري، تظل العملية التي توصل من خلالها البشر فعليا لهذا العلم يكتنفها الغموض. ومن أكثر الأمور التي لا تزال عالقة في ذاكرتي منذ سنوات دراسة الفيزياء والرياضيات ذلك الشعور المحزن بأنه ليس باستطاعة أي شخص عادي فعل هذه الأمور.
لكن ليس هذا حال العلم الواقعي. وفقا لما أدركته حديثا ، يظهر العلم الواقعي في العالم الفوضوي الغامض نفسه الذي يجاهد العلماء لإيضاحه، وعلى أيدي أشخاص واقعيين يعانون النوع ذاته من القيود والبلبلة التي يعانيها أي شخص آخر. وجميع شخصيات هذه القصة أفراد موهوبون عملوا جاهدين طوال حياتهم ليحققوا النجاح كعلماء؛ لكنهم في الوقت نفسه بشر بكل ما تحمله الكلمة من معان. أعلم ذلك لأنني أعرفهم، وأعرف أننا كافحنا، وكثيرا ما فشلنا معا، لنجمع شتات أنفسنا بعد ذلك ونحاول مرة أخرى. قوبلت أبحاثنا بالرفض، ولم تكلل أفكارنا بالنجاح، وأسأنا فهم أمور بدت جلية في وقت لاحق، وشعرنا أغلب الوقت بالإحباط أو الغباء التام، لكننا واصلنا الكفاح، لتصير الرحلة مع كل لحظة هدفا في حد ذاتها. إن تأسيس علم يشبه في الواقع تأسيس أي شيء آخر، لكن بحلول الوقت الذي يخرج فيه هذا العلم للنور ويقرأ الجميع عنه في الكتب، يكون قد شهد قدرا هائلا من التعديل والصقل بما يضفي عليه صبغة من الحتمية لم يحظ بها أثناء وضعه قط. وتتناول هذه القصة عملية تأسيس علم جديد.
ما من قصة بالطبع تدور أحداثها في الفراغ، وأحد الأمور التي أود إيضاحها في هذا الكتاب هو المصدر الذي نشأ منه علم الشبكات، وكيف ينسجم مع المخطط الأكبر للتقدم العلمي، وما يمكن أن يخبرنا به هذا العلم عن العالم نفسه. يتسع الحديث في هذه الأمور لما هو أكثر مما يمكنني تضمينه هنا؛ ذلك لأن الشبكات شغلت تفكير الكثير من الناس وقتا طويلا. لكن بالرغم مما أغفلته هذه القصة (وقد أغفلت الكثير)، فالأمل يحدوني أن توضح فكرة أنه لا يمكن فهم العصر المتشابك بواسطة محاولة فرض نموذج محدد للعالم عليه - مهما بدا ذلك مطمئنا - ولا من خلال دراسة فرع واحد منفرد من فروع المعرفة. إن الأسئلة، ببساطة، شديدة الثراء وشديدة التعقيد، وبصراحة، شديدة الصعوبة أيضا.
وبصراحة مماثلة أيضا أقول إن علم الشبكات لا يمتلك كل الإجابات بعد؛ فعلى الرغم من إغراء المبالغة في أهمية ما توصلنا إليه من نتائج، فالحقيقة هي أن الجزء الأكبر من العلم الفعلي هنا يتضمن تصويرا شديد البساطة لظواهر شديدة التعقيد. يعد البدء ببساطة مرحلة ضرورية لفهم أي شيء معقد، والنتائج المستمدة من النماذج البسيطة لا تكون مؤثرة فحسب، لكن مبهرة للغاية أيضا. فمن خلال إبعاد التفاصيل المحيرة لعالم معقد والبحث عن أصل مشكلة ما، يمكننا في كثير من الأحيان معرفة أمور عن الأنظمة المتشابكة ما كنا لندركها أبدا عن طريق دراستها مباشرة. لكن ذلك له ثمن، وثمن ذلك هو أن الأساليب التي نستخدمها تكون نظرية غالبا، والنتائج يصعب تطبيقها مباشرة على مواقف واقعية. وهو ثمن ضروري، ولا مفر منه في الواقع، إذا كنا نرغب حقا في تحقيق التقدم. فقبل تصميم المهندسين للطائرات، كان على الفيزيائيين أولا فهم المبادئ الأساسية للطيران، وذلك هو الحال أيضا مع الأنظمة المتصلة بشبكات. سنتأمل في الصفحات التالية التطبيقات الواعدة لنماذج الشبكات البسيطة؛ أي إننا سنحاول تخيل ما ستبدو عليه الطائرات المذهلة في النهاية. لكن في نهاية المطاف، يجب أن نتحرى الأمانة ونفرق بين التأملات وبين العلم ذاته، ومن ثم، إذا كنت تبحث عن إجابات فعليك بقراءة الكتب التي تدعي زيفا أنها تقدم تلك الإجابات. إن العلم لا يمكن أن يصبح فعالا ومؤثرا إلا بتحديد ما يمكن لهذا العلم تفسيره، وما لا يمكنه، والنظريات التي تخلط بين الأمرين تضرنا ولا تنفعنا.
ما يمكن لعلم الشبكات فعله - حتى في وقتنا الحالي - هو منحنا أسلوبا مختلفا للتفكير في هذا العالم، ومن ثم مساعدتنا في إلقاء ضوء جديد على مشكلات قديمة، ولتحقيق هذه الغاية، يضم هذا الكتاب قصتين في قصة واحدة؛ فهو أولا يتناول علم الشبكات نفسه: من أين أتى، وما الذي اكتشف، وكيف. وثانيا: يعرض الكتاب ظواهر العالم الحقيقي التي يحاول علم الشبكات فهمها؛ كالأوبئة والصيحات الثقافية الجديدة والأزمات المالية والابتكار المؤسسي. وتسير هاتان القصتان بالتوازي على مدار الكتاب، لكن هناك بعض الفصول التي تؤكد على نقاط بعينها؛ فالفصول من الثاني إلى الخامس، في الغالب، تتناول الأساليب المختلفة لفهم شبكات العالم الحقيقي، وكيفية مساهمة فروع المعرفة الأكاديمية المتعددة في عملية الاكتشاف، وكيف بدأت علاقتي بهذا الأمر من خلال عملي مع ستيف ستروجاتس على شبكات العالم الصغير، وكيف تطور هذا العمل ونما على مدار أعوام منذ ذلك الحين. أما الفصول من السادس إلى التاسع، فتركز أكثر على التفكير في العالم من منظور متشابك، وتطبيقه على مشكلات مثل انتشار الأمراض والصيحات الثقافية الجديدة والابتكار في العمل، بدلا من التعامل مع الشبكات نفسها باعتبارها موضوعات الدراسة.
مع أن كل فصل يعتمد على الفصول السابقة له، فليس من الضروري قراءة الكتاب كله من البداية إلى النهاية؛ فالفصل
الأول
Unknown page
يعرض السياق الذي تدور فيه القصة، في حين يفصل الفصل
الثاني
خلفيتها، وإذا أردت تخطي هذين القسمين والانتقال مباشرة إلى العلم الجديد، فيمكنك ذلك (لكن ثمة أمورا ستغفل عنها)، ويرتبط كل من الفصل
الثالث
و
الرابع
و
الخامس
معا، فتعرض هذه الفصول إنشاء النماذج المتعددة للنظم الشبكية وتأثيراتها، خاصة ما يعرف باسم نماذج شبكات العالم الصغير والشبكات عديمة المعيار التي تناولتها الكثير من الدراسات الحديثة. أما الفصل
السادس
Unknown page
فيناقش تفشي الأمراض وفيروسات الكمبيوتر، ويمكن قراءته دون الرجوع كثيرا إلى الفصول السابقة. ويتناول الفصلان
السابع
و
الثامن
موضوعا ذا صلة، لكنه مختلف في الوقت نفسه، ألا وهو العدوى الاجتماعية وما تخبرنا به بشأن الصيحات الثقافية الحديثة والاضطرابات السياسية والفقاعات المالية. ويناقش الفصل
التاسع
القوة المؤسسية، والدروس المستفادة منها للشركات الحديثة، ويلخص الفصل
العاشر
القصة بأكملها، مع تقديم نظرة عامة مختصرة عن الوضع الحالي.
يحمل هذا الكتاب تاريخا، شأنه شأن القصص التي يرويها، وهو تاريخ يتضمن عددا كبيرا من الأشخاص، فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، مثل المعاونون لي وزملائي مصدرا دائما للأفكار والتشجيع والحماس والترفيه؛ أخص بالذكر هنا دانكن كالاواي، وبيتر دودز، ودوين فارمر، وجون جيناكوبلوس، وآلان كيرمان، وجون كلاينبيرج، وآندرو لو، ومارك نيومان، وتشاك سابيل، وجيل سترانج. كان من الصعب كتابة هذا الكتاب دونهم، لأنني ما كنت لأجد ما أكتب عنه؛ فحتى أفضل الموضوعات لا تكفي وحدها. ودون تشجيع جاك ريبتشيك من دار نشر نورتون، وآماندا كوك من شركة بيرسيوس، ما كنت لأبدأ أبدا، ودون التوجيه الرقيق من أنجيلا فون دير ليب، محررتي بدار نشر نورتون، ما كنت لأنتهي من الكتاب أبدا. وأتوجه بالشكر أيضا إلى الكرام: كارين باركي، وبيتر بيرمان، وكريس كالهون، وبريندا كوفلين، وبريسيلا فيرجسون، وهيرب جانس، وديفيد جيبسون، وميمي مانسون، ومارك نيومان، وبافيا روساتي، وتشاك سابيل، وديفيد ستارك، وتشاك تيلي، ودوج وايت، وبخاصة توم ماكارثي، الذين تطوعوا لقراءة المسودات المختلفة والتعليق عليها. هذا وقد قدم لي جورجي كوسينتس مساعدة لا تقدر بثمن في إعداد الأشكال العديدة، كما نفذت ماري بابكوك عملا شديد الدقة في تنقيح النصوص.
Unknown page
وعلى مستوى أكثر شمولا، فإنني شديد الامتنان لعدد من الأشخاص بجامعة كولومبيا: بيتر بيرمان، ومايك كرو، وكريس شولز، وديفيد ستارك، بالإضافة إلى موراي جيلمان، وإلين جولدبيرج، وإريكا جين من معهد سانتا في، وآندرو لو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ لمنحهم إياي الحرية والدعم للسعي وراء اهتماماتي الأنانية التي أتت في بعض الأحيان على حساب مصلحتهم. هذا وقد قدمت كل من المؤسسة الوطنية للعلوم (بموجب المنحة رقم 0094162)، وشركة إنتل، ومعهد سانتا في، ومعهد الأرض بجامعة كولومبيا، دعما ماليا لعملي في التدريس والأبحاث، بالإضافة إلى سلسلة من ورش العمل المتخصصة في سانتا في ونيويورك، التي انبثق منها العديد من المشروعات وصور التعاون. لكن من بين العدد الكبير من الأشخاص المؤثرين، سواء في حياتي المؤسسية أو الشخصية، الذين عادوا علي بالنفع، يبرز شخصان على وجه التحديد: الأول هو ستيف ستروجاتس، الذي كان ناصحا ملهما، وخير معين، وصديقا مخلصا على مدار أعوام، أما الآخر فهو هاريسون وايت، الذي جاء بي لأول مرة إلى كولومبيا، وقدمني لأول مرة أيضا إلى معهد سانتا في، وأدخلني أخيرا في مجال علم الاجتماع؛ فدون هذين الرجلين، ما كان أي شيء من هذا ليصبح ممكنا.
وأخيرا، والدي. قد يكون من الحماقة تخمين مقدار تأثير نشأة المرء على مسار حياته، لكن في حالتي، تبدو بعض الأمور واضحة؛ كان والدي أول عالم عرفته في حياتي، وهو أيضا أول من أرشدني إلى متع البحث الإبداعي وآلامه، فضلا عن تحفيزه، بطريقته الخاصة، لعملية التفكير الكاملة التي تمخض عنها هذا الكتاب. في تلك الأثناء، لم تعلمني أمي كيف أقرأ وحسب، بل طبعت في ذهني أيضا، في سن مبكرة، أن الأفكار لا تكتسب قوتها إلا عندما يفهمها الناس. وقد منحاني معا، من خلال نموذج حياتهما شديد التميز، الشجاعة لتجربة أشياء ما كنت لأفكر أبدا أنها من الممكن أن تنجح. ولهما أهدي هذا الكتاب.
نيويورك سيتي
مايو 2002
الفصل الأول
عصرنا المتشابك
كان صيف عام 1996 قائظا، ارتفعت مؤشرات موازين الحرارة بجميع أنحاء البلاد لتسجل أعلى معدلاتها، وظلت على هذه الحال، ليمثل هذا دليلا بينا على التقلبات المناخية غير المتوقعة. في تلك الأثناء، أخذ الأمريكيون، الذين عزلوا أنفسهم في حصونهم المنزلية، يكدسون الطعام بالثلاجات، ويشغلون أجهزة التكييف، ويشاهدون - بالطبع - قدرا هائلا من البرامج التليفزيونية التي تخدر العقول. في الواقع، مهما يكن الموسم أو الطقس، فقد صار الأمريكيون يعتمدون على نحو متزايد على مجموعة مدهشة ومتنامية باستمرار من الأجهزة والمرافق والخدمات التي حولت بيئة اتسمت فيما مضى بعدائيتها، إلى نمط حياة يشبه النسيم البارد. لا يعد أي قدر من الابتكارية أو الطاقة مفرطا إذا أسفر عن فراغ أو مزيد من الحرية الشخصية أو توفير الراحة البدنية؛ فبدءا من المركبات مكيفة الهواء المماثلة في الحجم لغرف المعيشة، ووصولا إلى المراكز التجارية مكيفة الهواء المماثلة في الحجم للبلدات الصغيرة، بذلت أقصى الجهود والتكاليف في الحملة الأمريكية الحديثة اللانهائية لفرض نظام صارم على كوكب اتسم فيما مضى بالجموح، ولا يزال شامخا متغطرسا في بعض الأحيان.
يدير محرك الحضارة هذا الذي لا يعرف الهوادة كيان عادي ومألوف كالطبيعة ذاتها، لكنه عامل تغيير قوي للحياة، شأنه شأن أي من الاختراعات البشرية الأخرى، هذا الكيان هو نظام الطاقة الكهربائية. تمتد كخيوط العنكبوت بجميع أرجاء أمريكا الشمالية شبكة ضخمة من محطات الطاقة والمحطات الفرعية، إلى جانب كابلات النقل عالية الجهد التي تربط بينها. وشبكة نقل الطاقة الكهربائية، التي تتدلى كابلاتها قرب الأشجار على طول الطرق وتربط بين قمم جبال الأبلاش الشاهقة وتمتد أعمدتها كما لو كانت جنودا عمالقة عبر سهول الغرب الشاسعة، تعد سر حياة الاقتصاد، والجانب الواهن الحساس للحياة المتحضرة في الوقت نفسه.
يعد نظام الطاقة الكهربائية، الذي تأسس بقدر هائل من النفقات على مدار الجزء الأكبر من القرن الماضي، أهم الملامح التكنولوجية للعالم المعاصر، وتمثل الطاقة الكهربائية - الأكثر تغلغلا في الحياة من الطرق السريعة والسكك الحديدية، والأكثر أهمية من السيارات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر - الأساس الذي تقوم عليه جميع صور التكنولوجيا الأخرى، وأساس الصرح المهيب لعصري الصناعة والمعلومات، ودون هذه الطاقة يصبح كل ما نفعله ونستخدمه ونستهلكه معدوما، أو يتعذر الوصول إليه، أو شديد الغلاء، أو غير ملائم؛ فالكهرباء إحدى حقائق الحياة التي تصل في جوهريتها إلى الحد الذي يتعذر معه تخيل الحياة بدونها. وإذا أجبرنا على ذلك، يمكن أن يكون الأمر مدمرا تدميرا هائلا، وهو ما اكتشفته مدينة نيويورك على مدار خمس وعشرين ساعة رهيبة في عام 1977، حينذاك، وفي مجتمع كان قد اكتشف لتوه الكمبيوتر، وكانت السيارات والمصانع والأدوات المنزلية أقل اعتمادا على الإلكترونيات مقارنة بالحال الآن، أدى انقطاع في الكهرباء، ناتج عن مجموعة غير متوقعة من الأخطاء الصغيرة ونقاط الضعف الشاملة، إلى إغراق نيويورك في الظلام، وإغراق سكانها البالغ عددهم تسعة ملايين نسمة في بحر من الشغب والنهب والسلب، ونشر الذعر على نطاق واسع، وعندما عادت الأضواء وأزيلت الأنقاض، بلغت الخسائر نحو 350 مليون دولار. أرهبت الكارثة الساسة والمنظمين على حد سواء، وهو ما جعلهم يتعهدون بألا يسمحوا بحدوث ذلك ثانية، ويطبقون عددا من الإجراءات الصارمة لضمان تنفيذ تعهدهم. وحسبما اكتشفنا منذ ذلك الحين، فحتى أفضل الخطط - في عالم متشابك معقد - لا يمكن أن تكون إلا عبثا لا طائل من ورائه.
إن شبكة الطاقة - شأنها شأن أي بنية تحتية أخرى، بدءا من أنظمة الطرق السريعة وصولا إلى شبكة الإنترنت - ليست في الواقع كيانا منفردا، بل عدة شبكات إقليمية متصلة بعضها ببعض في إطار أكبر يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة. أكبر هذه الوحدات الإدارية مجموعة من المحطات يصل عددها تقريبا إلى خمسة آلاف محطة وخمسة عشر ألف خط، تشكل شبكة النقل الخاصة ب «مجلس تنسيق النظم الغربي»، وهو تكتل لمولدي الطاقة وموزعيها مسئول عن توفير الكهرباء لكل شخص وكل شيء غرب جبال روكي، بدءا من الحدود مع المكسيك وصولا إلى المنطقة القطبية الشمالية. وفي قيظ أغسطس عام 1996، أدار كل من لديه مكيف هواء ذلك المكيف بأقصى قدرة له، ونالت كل زجاجة بيرة مثلجة في حفلات الشواء بالأفنية الخلفية نصيبها من الكهرباء التي تولدها هذه الشبكة، أما جموع السياح المصطافين الذين عزفوا عن العودة إلى الشرق، فأخذوا يتسكعون في المدن الساحلية، الأمر الذي أدى إلى زيادة مؤقتة في تعداد السكان، المتضخم بالفعل، في كل من لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وسياتل، ووصول الشبكة المتقادمة والمنهكة بالفعل إلى أقصى حدودها.
Unknown page
إذن قد لا يكون من المستغرب أن مستهل الأزمة التي وقعت في العاشر من أغسطس كان حدثا ثانويا نسبيا، كالشرارة التي تتسبب في اشتعال نار هائلة؛ فقد تدلى أحد خطوط نقل الكهرباء غرب أوريجون، شمال بورتلاند، قليلا، وأصاب إحدى الأشجار التي لم تكن قد قلمت منذ فترة طويلة، مما أدى إلى اشتعالها. لم يكن ذلك بالحدث غير المألوف حقيقة، ولم ينزعج به كثيرا المشغلون في إدارة بونفيل للطاقة، الذين أبلغوا على الفور بهذا العطل المزعج، لكن غير المدمر. غير أن ما حدث بعد ذلك كان سريعا على نحو مخيف، وغير متوقع على الإطلاق.
كان الخط الذي تعطل - خط كيلر-أولستون - واحدا من مجموعة من الكابلات المتوازية التي تنقل الطاقة من سياتل إلى بورتلاند، وكانت الآلية التلقائية للتغلب على مثل هذا العطل هي نقل الحمل إلى الخطوط الأخرى بالمجموعة، لكن للأسف، كانت هذه الخطوط مثقلة بأحمال تقارب الحد الأقصى لها، وكان العبء الإضافي زائدا عن الحد. أخذت الخطوط تتداعى خطا بعد خط، وكان الأول هو خط بيرل-كيلر المجاور الذي تعطل قهرا؛ نظرا لانقطاع التيار الكهربي عن المحول، وبعد خمس دقائق تقريبا تعطل خط سانت جونز-ميروين عن العمل بسبب خلل في عمل المرحل، وأدت الأعطال المتعاقبة إلى الدفع بكميات ضخمة من الطاقة شرقا ثم غربا عبر جبال كاسكيد، والوصول بالنظام إلى شفا تذبذبات خطيرة عالية الجهد الكهربي.
عندما يزيد الحمل على خطوط الطاقة ترتفع درجة حرارتها وتتمدد. وبحلول شهر أغسطس كانت الأشجار قد نمت طوال شهور الصيف، وبحلول الساعة الرابعة عصرا تقريبا، ومع وصول الضغط إلى أقصى درجاته، كانت حتى أقل الخطوط حملا ترتخي في الشمس الحارقة. تمدد خط روس-ليكسينجتون ذو الحمل الزائد بقدر كبير، وصدم إحدى الأشجار المنتشرة في أرجاء المكان، كما حدث منذ ساعتين مع خط كيلر-أولستون. لم تتحمل مولدات ماكناري المجاورة ذلك الاضطراب الأخير، وتعطلت جميع مرحلاتها الوقائية الثلاثة عشر تدريجيا، ليصير النظام غير قادر على مواجهة أي من حالات الطوارئ التي صمم للتغلب عليها. بدأت التذبذبات الأولية في الجهد الكهربي، وبعد سبعين ثانية توقفت الخطوط الثلاثة كلها بشبكة كاليفورنيا-أوريجون لتوزيع الكهرباء عن العمل؛ وهو عنق الزجاجة الذي تمر منه الطاقة الكهربائية بين شمال الساحل الغربي وجنوبه.
إحدى السمات الأساسية للطاقة الكهربائية هي صعوبة تخزينها البالغة، فيمكنك تزويد الهاتف أو الكمبيوتر المحمول بالطاقة لبضع ساعات باستخدام بطارية، لكن لم يطور أحد بعد تقنية لصناعة بطاريات تزود مدنا كاملة بالطاقة، وبناء عليه، يجب توليد الطاقة عند احتياجها، ونقلها في الحال إلى حيث الحاجة إليها. والجانب الآخر لهذه القاعدة هو أن الطاقة الكهربية ما إن تولد حتى يجب أن تنتقل إلى مكان ما، وهذا بالضبط ما كان من المفترض أن يحدث للطاقة المتدفقة إلى شمال كاليفورنيا؛ أن تنتقل إلى مكان ما، وعند انقطاعها عن كاليفورنيا، نظرا لانفصال شبكة التوزيع، اندفعت شرقا من ولاية واشنطن، ثم جنوبا، كموجة مد، عبر إيداهو ويوتا وكولورادو وأريزونا ونيومكسيكو ونيفادا وجنوب كاليفورنيا، فتعطلت مئات الخطوط والمولدات، وانقسم النظام الغربي إلى أربع جزر منعزلة، وانقطعت الخدمة عن 7,5 ملايين شخص. خيم الظلام تلك الليلة على سان فرانسيسكو، ومن رحمة الأقدار أنه لم تكن هناك أحداث شغب؛ الأمر الذي يمكن أن يشير إلى سمات معينة لأهالي سان فرانسيسكو مقارنة بأهالي نيويورك. لكن في خضم هذا الانهيار انقطعت 175 وحدة توليد عن الخدمة، وتطلب بعضها - المفاعلات النووية - أياما عدة لإعادة تشغيلها، الأمر الذي قدرت تكلفته الإجمالية بنحو ملياري دولار.
كيف حدث ذلك؟ حسنا، من ناحية ما، نحن نعلم بالضبط كيف حدث. وعلى الفور شرع المهندسون العاملون في إدارة بونفيل للطاقة ومجلس التنسيق، في العمل، وأصدروا تقريرا مفصلا عما حدث من اضطراب في موعد لم يتجاوز منتصف أكتوبر. تمثلت المشكلة الرئيسية في ازدياد الطلب ومحدودية الموارد. وبخلاف ذلك، حمل التقرير مسئولية ما حدث لعدد من العوامل، التي شملت إهمال الصيانة، وعدم الانتباه كما ينبغي للعلامات التحذيرية. لعب كذلك الحظ السيئ دورا في الأمر؛ فبعض وحدات النظام التي كان من الممكن أن تخفف من الصدمة كانت خارج الخدمة، إما للصيانة أو لإغلاقها بسبب اللوائح البيئية التي تفرض قيودا على التخلص من المخلفات الكهرومائية في الأنهار التي تعيش بها أسماك السلمون. وأخيرا، أشار التقرير إلى الفهم القاصر لاعتماد أجزاء النظام المتبادل بعضها على بعض.
هذا التعليق الأخير، الذي صدر كزلة بريئة وسط الأخطاء سهلة الفهم والمحددة بوضوح، هو ما يجب أن نركز عليه، لأنه يطرح التساؤل الآتي: ما خلل «النظام» الذي أدى إلى حدوث هذا العطل؟ وهذا الجانب من المشكلة لا علم لنا به على الإطلاق. تتمثل مشكلة الأنظمة المماثلة لشبكة الطاقة الكهربائية في أنها مؤلفة من الكثير من المكونات التي يسهل فهم سلوك كل مكون فردي منها على نحو معقول (ترجع فيزياء توليد الطاقة الكهربائية إلى القرن التاسع عشر)، لكن سلوكها الجماعي، مثل جماهير كرة القدم ومستثمري سوق الأسهم المالية، يمكن أن يكون في بعض الأحيان نظاميا، وفي أحيان أخرى فوضويا ومحيرا، بل مدمرا أيضا. لم يكن الانهيار المتتالي الذي ضرب الغرب يوم 10 أغسطس عام 1996 تسلسلا من الأحداث الفردية العشوائية التي تراكمت ببساطة لتصل إلى حد الأزمة، لكن الأرجح أن العطل المبدئي زاد احتمالات وقوع أعطال تالية، وفور أن حدثت تلك الأعطال، زادت احتمالات وقوع المزيد من الأعطال، وهلم جرا.
لكن التحدث عن ذلك أمر، والفهم الدقيق للكيفية التي تجعل بعض الأعطال التي تقع في ظروف معينة غير ضارة، وتجعل أعطالا أخرى أو ظروفا مختلفة تؤدي إلى كوارث، أمر مختلف تماما. يحتاج المرء إلى التفكير ليس في عواقب الأعطال الفردية فقط، بل أيضا في الأعطال المجمعة، الأمر الذي يصعب المشكلة حقا. لكن الأمر يزداد سوءا. ربما يكون أكثر الجوانب المحيرة للأعطال المتتالية، الذي تجلى في انقطاع الكهرباء في العاشر من أغسطس، هو أن المصممين جعلوا النظام «ككل»، دون قصد، أكثر عرضة لانهيار عام، كالذي حدث بالضبط، وذلك من خلال تركيب مرحلات وقائية بمولدات الكهرباء، والحد فعليا من إمكانية تعرض العناصر الفردية للنظام لضرر خطير. (1) النشوء
كيف يتسنى لنا فهم مثل هذه المشكلات؟ أو بالأحرى، ما الذي تتسم به الأنظمة المتشابكة المعقدة ويجعل من الصعوبة بمكان فهمها في المقام الأول؟ كيف يؤدي الجمع بين مجموعة كبيرة من المكونات في صورة نظام إلى شيء مختلف تماما عن مجموعة غير مرتبطة من المكونات؟ كيف تتمكن مجموعات سراج الليل الوامضة، أو صراصير الليل المصرصرة، أو الخلايا الناظمة القلبية النابضة، من مزامنة إيقاعها دون مساعدة موصل مركزي؟ كيف يصبح التفشي البسيط لأحد الأمراض وباء، أو انتشار إحدى الأفكار الجديدة هوسا؟ كيف تظهر فقاعات المضاربة نتيجة لاستراتيجيات استثمارية لأفراد يتسمون بالتعقل فيما دون ذلك؟ وعندما تنفجر هذه الفقاعات، كيف ينتشر ضررها في جميع أنحاء النظام المالي؟ ما مدى ضعف شبكات البنية التحتية الضخمة، مثل شبكة الطاقة الكهربائية أو الإنترنت، أمام الأعطال العشوائية أو حتى الهجوم المتعمد عليها؟ كيف تتطور الأعراف والتقاليد وتحتفظ بكيانها في المجتمعات البشرية؟ وكيف تتعرض للاضطراب، بل الاستبدال أيضا؟ كيف يمكننا تعيين مواقع الأفراد أو الموارد أو الإجابات في عالم شديد التعقيد، دون التمتع بحق الوصول إلى مستودعات المعلومات المركزية؟ وكيف تتمكن الشركات التجارية ككيان كامل من الابتكار والتكيف بنجاح في حين لا يمتلك أي فرد واحد ما يكفي من المعلومات لحل المشكلات التي تواجهها الشركة أو حتى فهمها على نحو كامل؟
على الرغم من الاختلاف الذي قد تبدو عليه هذه الأسئلة، فإنها جميعا صيغ مختلفة لسؤال واحد، وهو: «كيف يتجمع السلوك الفردي ليشكل سلوكا جمعيا؟» مع ما يبدو عليه هذا السؤال من بساطة، فإنه أحد أكثر الأسئلة محورية وانتشارا في جميع العلوم؛ فالمخ البشري - من منظور ما - هو تريليون خلية عصبية مرتبطة بعضها ببعض في صورة كتلة كهروكيميائية كبيرة، لكن في نظرنا جميعا، المخ أكثر من ذلك بكثير، فهو يتسم بخواص كالوعي والذاكرة والشخصية، ولا يمكن وصفه على نحو بسيط كتجميعة من الخلايا العصبية.
أوضح فيليب أندرسون، الفائز بجائزة نوبل، في بحثه الشهير الصادر عام 1971 بعنوان «الكثرة مختلفة»، أن الفيزياء حققت نجاحا معقولا في تصنيف الجسيمات الأساسية، ووصف سلوكها الفردي وتفاعلاتها، حتى مستوى الذرات الفردية، لكن إذا وضعنا عدة ذرات معا، فسيصير الأمر فجأة مختلفا تمام الاختلاف. ولهذا السبب، تعد الكيمياء علما مستقلا بذاته، وليست فرعا من الفيزياء فحسب. وبالارتقاء أكثر في سلسلة التنظيم، لا يمكن اختزال علم الأحياء الجزيئية في كونه كيمياء عضوية فحسب، وبالمثل علم الطب أكثر بكثير من التطبيق المباشر لعلم الأحياء الجزيئية. وعلى مستوى أرقى - مستوى الكائنات الحية المتفاعلة بعضها مع بعض - نواجه الآن العديد من فروع المعرفة، بدءا من علم البيئة والأوبئة، وصولا إلى علم الاجتماع والاقتصاد، وهي فروع لكل منها قواعده ومبادئه الخاصة التي لا يمكن اختزالها في المعارف المتعلقة بعلم النفس وعلم الأحياء فحسب.
Unknown page
بعد مئات الأعوام من الإنكار، تبنى العلم الحديث أخيرا هذه النظرة إلى العالم. لقد ظل حلم عالم الرياضيات الفرنسي العظيم، بيير لابلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر - بأنه يمكن فهم الكون في إجماله من خلال اختزاله إلى طبيعة الجسيمات الأساسية ودراستها بواسطة حاسب قوي بما فيه الكفاية - يتردد طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي على الساحة العلمية، كما لو كان ممثلا بإحدى مسرحيات شكسبير مصابا إصابة مميتة يناجي نفسه المناجاة الأخيرة قبل الوفاة. لكن ليس واضحا تماما ما الذي حل محله؛ فمن ناحية، تبدو الفكرة القائلة: إن تكتيل مجموعة من الأشياء معا سينتج عنه في النهاية شيء مختلف عن الأشياء المتفرقة، فكرة واضحة وبديهية، ومن ناحية أخرى، فإن إدراكنا أننا لم نحقق إلا تقدما بسيطا في هذا الشأن يعطينا فكرة عن مدى صعوبته.
إن ما يجعل المشكلة صعبة والأنظمة المعقدة معقدة هو أن الأجزاء المكونة للكل لا تتجمع في أي نمط بسيط، بل تتفاعل بعضها مع بعض، وفي ظل هذا التفاعل، حتى أبسط المكونات، يمكن أن يصدر عنها سلوك محير. وقد أوضح التخطيط الحديث للجينوم البشري أن الشفرة الأساسية للحياة البشرية بأكملها تتكون من نحو ثلاثين ألف جين فحسب، وهذا أقل بكثير مما توقعه أي شخص. من أين جاء كل هذا التعقيد الذي يتسم به علم الأحياء البشرية إذن؟ من الجلي أنه لم ينتج من تعقيد العناصر الفردية للجينوم، التي ما كان لها أن تكون أبسط من ذلك، ولا من عددها الذي لا يزيد بالكاد عن عددها في أبسط الكائنات الحية، بل ينشأ هذا التعقيد عن الحقيقة البسيطة القائلة: إن الخصائص الجينية نادرا ما تعبر عنها الجينات الفردية. فمع أن الجينات - شأنها شأن البشر - توجد في صورة وحدات فردية متطابقة، فإنها «تؤدي وظائفها» عن طريق التفاعل، ويمكن لأنماط التفاعلات أن تعكس تعقيدا غير محدود تقريبا.
إذن ماذا عن النظم البشرية؟ إذا كانت تفاعلات الجينات فقط من شأنها إرباك أفضل العقليات في مجال الأحياء، فما أملنا في فهم تجمعات من مكونات أكثر تعقيدا بكثير كأفراد أحد المجتمعات أو الشركات في أحد النظم الاقتصادية؟ إن التفاعلات بين كيانات تتسم في ذاتها بالتعقيد تؤدي بالتأكيد إلى تعقيد شديد للغاية، لكن لحسن الحظ، بقدر ما يتسم الأفراد عادة بالتقلب والإرباك وعدم القدرة على توقع تصرفاتهم، فعندما يجتمع الكثيرون منهم، يمكننا في كثير من الأحيان فهم المبادئ التنظيمية الأساسية لهم مع تجاهل الكثير من التفاصيل المعقدة. هذا هو الجانب الآخر للأنظمة المعقدة؛ ففي حين أن معرفة القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد لا تساعد بالضرورة في التنبؤ بسلوك حشد منهم، فقد يمكننا التنبؤ بسلوك هذا الحشد نفسه دون معرفة الكثير عن الخصائص والشخصيات المتفردة للأفراد الذين يتكون منهم الحشد.
هذه قصة مختلقة توضح تلك النقطة الأخيرة: منذ بضعة أعوام في المملكة المتحدة، احتار المهندسون بأحد مرافق الطاقة من حالات تصاعد متزامنة غريبة في استهلاك الطاقة، انتشرت في الكثير من أجزاء الشبكة المحلية في آن واحد، مما تسبب في إنهاك قدرتها الإنتاجية على نحو خطير، وإن كان ذلك لبضع دقائق فقط في المرة الواحدة. وأخيرا، توصل أولئك المهندسون إلى السبب وراء ذلك عندما أدركوا أن أسوأ حالات هذا التصاعد حدثت أثناء بطولة كرة القدم السنوية، التي يتسمر خلالها الجميع أمام أجهزة التليفزيون. وفي فترة الاستراحة بين الشوطين، كانت هذه الجموع من مشجعي كرة القدم ينهضون من فوق أرائكهم، في آن واحد تقريبا، ويضعون الغلاية على النار لإعداد كوب من الشاي. ومع أن البريطانيين - كأفراد - على القدر نفسه من التعقيد الذي يتسم به غيرهم، فليست هناك حاجة لمعرفة الكثير عن كل منهم للتوصل إلى سبب حالات التصاعد في الطلب على الطاقة، سوى أنهم يحبون كرة القدم والشاي، وفي هذه الحالة، يعد التمثيل البسيط للأفراد كافيا.
لذا، في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي التفاعلات بين الأفراد داخل نظام كبير إلى قدر أكبر من التعقيد مقارنة بما يعكسه الأفراد أنفسهم، وأحيانا أقل. وفي كلتا الحالتين، يمكن أن يكون للأسلوب المحدد الذي يتفاعلون به نتائج شديدة التأثير على الظواهر الجديدة - بدءا من علم الوراثة السكانية، مرورا بتزامن وقوع الأحداث في العالم، وصولا إلى الثورات السياسية - التي يمكن أن «تظهر» على مستوى المجموعات أو الأنظمة أو السكان. لكن كما هو الحال في الانهيار التتابعي لشبكة الطاقة الكهربائية، فإن التعبير عن ذلك بالكلام أمر، وفهمه بدقة أمر مختلف تماما. فعلى وجه التحديد، ما الذي يجب أن ننتبه إليه في نماذج التفاعل بين الأفراد داخل النظم الكبيرة؟ لا يملك أحد الإجابة عن هذا السؤال بعد، لكن عددا متزايدا من الباحثين في السنوات الأخيرة تتبع خيطا جديدا مبشرا في هذا الشأن . وينبثق عن هذا العمل - الذي يقوم في حد ذاته على عشرات السنين من النظريات والتجارب في كل المجالات، بدءا من الفيزياء ووصولا إلى علم الاجتماع - علم جديد، ألا وهو علم الشبكات. (2) الشبكات
بطريقة ما، ليس هناك ما هو أبسط من الشبكات؛ فعلى المستوى المجرد تماما، ليست الشبكة سوى مجموعة من الأشياء المرتبطة بعضها ببعض على نحو ما، ومن ناحية أخرى، فإن التعميم المطلق لمصطلح «الشبكة» يجعل من الصعب تحديدها بدقة، وهذا أحد الأسباب وراء كون علم الشبكات مجالا بحثيا مهما. يمكن أن نتحدث عن أفراد في شبكة من الأصدقاء أو مؤسسة كبيرة، أو موجهات البيانات على امتداد البنية الأساسية للإنترنت، أو الخلايا العصبية في المخ؛ كل هذه الأنظمة شبكات، لكنها جميعا متباينة تماما من ناحية أو أخرى. ومن خلال تطوير لغة للتحدث عن الشبكات تتسم بالدقة الكافية، ليس فقط لوصف ماهية الشبكة، بل أيضا لوصف الأنواع المختلفة للشبكات الموجودة في العالم، يضفي علم الشبكات على المفهوم قوة تحليلية حقيقية.
لكن لماذا يعد هذا الأمر جديدا؟ يمكن لأي عالم رياضيات أن يخبرك بأن الشبكات درست كموضوعات رياضية تحت اسم «الرسوم البيانية» منذ عام 1736، وذلك عندما توصل ليونهارت أويلر، أحد أعظم العلماء في تاريخ الرياضيات، إلى أن معضلة اجتياز الجسور السبعة لمدينة كونيسبيرج البروسية دون عبور الجسر نفسه مرتين، يمكن صياغتها في صورة رسم بياني (وقد أثبت، بالصدفة، أنه يستحيل فعل ذلك، وكانت تلك أول مبرهنة في نظرية الرسم البياني). خطت نظرية الرسوم البيانية منذ عهد أويلر خطوات ثابتة نحو التطور لتصبح فرعا رئيسيا من فروع علم الرياضيات، وامتد أثرها إلى علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الهندسة والكمبيوتر والفيزياء والأحياء والاقتصاد، فصار لكل مجال صيغته الخاصة من نظرية الشبكات، مثلما لديه وسيلته الخاصة لتجميع السلوك الفردي في صورة سلوك جمعي. إذن لماذا لا يزال هناك من الأمور الجوهرية ما يحتاج إلى الكشف عنه؟
النقطة المحورية هنا هي أنه في الماضي، كان ينظر إلى الشبكات على أنها «بناء خالص»، سماته «ثابتة مع الوقت »، وهذان الافتراضان بعيدان تماما عن الصحة؛ فأولا: تمثل الشبكات الحقيقية مجموعات من المكونات الفردية التي «تفعل شيئا ما» في الواقع؛ تولد طاقة أو ترسل بيانات أو تتخذ قرارات. ومع أن بنية العلاقات القائمة بين مكونات إحدى الشبكات مثيرة للاهتمام، فإن أهميتها ترجع في المقام الأول إلى أنها تؤثر إما على سلوك أفرادها أو سلوك النظام ككل. ثانيا: الشبكات كيانات ديناميكية، ليس فقط لأن ثمة أمورا تحدث في النظم المتصلة بشبكات، بل أيضا لأن الشبكات نفسها تتطور وتتغير مع الوقت، مدفوعة بالأنشطة أو القرارات الصادرة عن هذه المكونات ذاتها، ومن ثم، في العصر المتشابك، «يعتمد ما يحدث وكيفية حدوثه على الشبكة»، والشبكة بدورها تعتمد على ما حدث من قبل. وهذه النظرة للشبكة - باعتبارها جزءا لا يتجزأ من نظام مشكل لذاته دائم التطور - هي الجديد حقا بشأن علم الشبكات.
لكن فهم الشبكات على هذا النحو الأشمل يعد مهمة فائقة الصعوبة، وهي ليست معقدة بطبيعتها فحسب، بل تتطلب أيضا أنواعا مختلفة من المعرفة المتخصصة التي تنتمي إلى تخصصات أكاديمية منفصلة، بل وفروع معرفية منفصلة أيضا. يملك علماء الفيزياء والرياضيات مهارات حسابية وتحليلية مذهلة، لكنهم لا يقضون قدرا كبيرا من الوقت في التفكير في السلوك الفردي أو الحوافز المؤسسية أو الأعراف الثقافية، في حين يفعل ذلك متخصصو علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان. وعلى مدار نصف القرن الماضي أو أكثر، أخذ هؤلاء يفكرون في العلاقة بين الشبكات والمجتمع على نحو أكثر عمقا ودقة، مقارنة بأي شخص آخر، وهو التفكير الذي صار ينطبق الآن على مجموعة مذهلة من المشكلات، بدءا من علم الأحياء ووصولا إلى الهندسة، لكن في ظل الافتقار إلى الأدوات البراقة الخاصة بعلماء الرياضيات، تعثر المشروع الضخم لمتخصصي العلوم الاجتماعية عقودا من الزمان.
لذا، إذا قدر لعلم الشبكات الحديث النجاح، فيجب أن يجمع من كل فروع المعرفة الأفكار الملائمة والأفراد الذين يفهمونها. باختصار، يجب أن يصبح علم الشبكات انعكاسا لموضوعه، بمعنى أن يكون شبكة من العلماء يتوصلون معا إلى حلول لمشكلات لا يمكن لفرد واحد - أو حتى فرع واحد من فروع المعرفة - حلها. إنها مهمة مخيفة يزيد من صعوبتها تلك الحدود الراسخة التي تفصل العلماء بعضهم عن بعض. إن لغات فروع المعرفة المتعددة مختلفة تماما، وكثيرا ما نجد نحن العلماء صعوبة كبيرة في فهم بعضنا البعض، وتتسم اتجاهاتنا أيضا بالاختلاف؛ لذلك يجب على كل منا أن يتعلم ليس فقط كيف يتحدث الآخرون، بل أيضا كيف يفكرون. لكن هذا ما يحدث بالفعل، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية زيادة مهولة في الأبحاث، والاهتمام بجميع أنحاء العالم؛ سعيا للعثور على نموذج جديد لوصف عصرنا المتشابك وتفسيره، ومن ثم فهمه، لكننا لم نصل إلى تلك المرحلة بعد، ولا حتى اقتربنا منها، وإن كنا نحقق تقدما مثيرا إلى حد ما، كما هو موضح في الصفحات التالية. (3) المزامنة
Unknown page
بدأ دوري في هذه القصة - بالصدفة كما هو الحال في الكثير من القصص - في بلدة صغيرة شمال مدينة نيويورك اسمها إيثاكا. أعتقد أن مكانا مسمى تيمنا بالموطن الأسطوري لأوديسيوس يعد مكانا جيدا لبدء أي قصة، لكن في تلك الأثناء كان أوديسيوس الوحيد الذي أعرفه هو صرصور ليل صغير أجري عليه تجربة مع أخويه بروميثيوس وهرقل عندما كنت طالبا بالدراسات العليا بجامعة كورنيل مع مرشدي، ستيفن ستروجاتس. كان ستيف عالم رياضيات، لكن في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية صار مهتما بتطبيقات الرياضيات على مشكلات علمي الأحياء والفيزياء، بل على علم الاجتماع أيضا، أكثر من اهتمامه بتطبيقها في الحسابات الرياضية نفسها، حتى أثناء دراسته في جامعة برنستون في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لم يمنع نفسه من إقحام الرياضيات في دراساته الأخرى. ولأن ستيف كان مطالبا بدراسة علم الاجتماع، فقد أقنع معلمه أنه يجب السماح له بإقامة مشروع في الرياضيات بدلا من كتابة بحث للنجاح في الفصل الدراسي، ووافق المعلم، لكنه ظل حائرا قليلا، فما نوع الرياضيات التي يمكن استخدامها في مادة علم الاجتماع التمهيدي؟ اختار ستيف دراسة العلاقات الرومانسية، وصاغ مجموعة بسيطة من المعادلات التي تصف التفاعل بين عاشقين، هما روميو وجولييت، وحل هذه المعادلات. وعلى الرغم من غرابة الأمر، بعد خمسة عشر عاما في أحد المؤتمرات في ميلان، بادرني بالتحية عالم إيطالي كانت الحماسة تملؤه بشأن عمل ستيف، وكان يحاول تطبيقه على حبكات درامية لأفلام رومانسية إيطالية.
واصل ستيف مسيرته ليفوز بمنحة دراسية في جامعة مارشال، وخضع لامتحان تريبوس المهيب في الرياضيات بجامعة كامبريدج، الذي خلده جي إتش هاردي العظيم في مذكرته «اعتذار عالم رياضيات». لم يرق له الأمر كثيرا، وسرعان ما وجد نفسه يتوق إلى موطنه، وإلى مشكلة بحثية يغرق فيها حتى أذنيه، ولحسن الحظ، التقى بعالم الأحياء الرياضي آرثر وينفري الذي كانت له الريادة في دراسة «المذبذبات» البيولوجية، وهي كيانات ذات إيقاع منظوم كالخلايا العصبية التي تومض في المخ، والخلايا الناظمة القلبية التي تنبض في القلب، وحشرات سراج الليل التي تومض بين الأشجار. ساعد وينفري (الذي كان بالصدفة طالبا بجامعة كورنيل) ستيف على استهلال حياته المهنية من خلال التعاون معه في مشروع لتحليل بنية الموجات الحلزونية في القلب البشري. والموجات الحلزونية هي موجات الكهرباء التي تبدأ في الخلايا الناظمة القلبية وتنتشر بعد ذلك بجميع أنحاء عضلة القلب لتستحث نبضه وتنظمه، ومن المهم فهمها، لأنها في بعض الأحيان تتوقف أو تفقد ترابطها، وهو الحدث الذي قد يكون قاتلا، ويعرف باسم اضطراب النظم. لم يفعل أحد أكثر مما فعله آرثر وينفري لفهم ديناميكيات القلب، وعلى الرغم من ابتعاد ستيف سريعا عن ذلك المشروع تحديدا، فقد ظل مفتونا بالمذبذبات والدورات، خاصة في النظم البيولوجية.
أجرى ستروجاتس في رسالة الدكتوراه بجامعة هارفارد تحليلا مفصلا (ومضنيا!) للبيانات المتعلقة بدورة النوم والاستيقاظ لدى البشر، محاولا فك شفرة الإيقاعات اليومية التي تؤدي إلى الشعور بالإعياء الناجم عن الفرق الزمني عند السفر عبر المناطق الزمنية، إلى جانب أمور أخرى. لم يحالفه النجاح قط، ودفعته التجربة إلى التفكير في دوائر بيولوجية أبسط وأكثر اتصالا بالرياضيات، وهنا بدأ العمل مع رينيه ميرولو، وهو عالم رياضيات بجامعة بوسطن. كتب ستروجاتس وميرولو، اللذان ألهمتهما أبحاث الفيزيائي الياباني يوشيكو كوراموتو (الذي صار آرثر وينفري نفسه هو ملهمه الأساسي)، عددا من الأبحاث المؤثرة عن الخصائص الرياضية لفئة بسيطة للغاية من المذبذبات تعرف باسم يناسبها تماما، هو «مذبذبات كوراموتو». تتمثل المعضلة الأساسية التي كانا يهتمان بها، وغيرهما كثيرون، في المزامنة: ما الظروف التي تبدأ في ظلها المذبذبات في الحركة على نحو متزامن؟ يتعلق هذا السؤال بالأساس - شأن كثير من أسئلة هذه القصة - بظهور سلوك عام من التفاعلات بين الكثير من الأفراد. تعد مزامنة المذبذبات صورة شديدة البساطة والوضوح لظهور السلوك الجمعي من سلوك الأفراد، ومن ثم فهي جزء من موضوع غامض بوجه عام فهم جيدا إلى حد ما.
تخيل مجموعة من العدائين يطوفون حول مضمار دائري (الشكل
1-1 ). بصرف النظر عن الظروف؛ أي سواء أكانوا مجموعة من العدائين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، أم لاعبين رياضيين يتنافسون في نهائيات الألعاب الأوليمبية، فمن المرجح أن يختلف أفراد هذه المجموعة في مقدرتهم الطبيعية. معنى ذلك أنهم إذا كانوا يركضون كل بمفرده، فسوف يقطع بعضهم الدورة حول المضمار أسرع بكثير من المتوسط، في حين يقطعها آخرون أبطأ من المتوسط. ومن ثم، يمكنك أن تتوقع أن الفروق الطبيعية بينهم ستجعلهم ينتشرون بانتظام حول المضمار، مع تجاوز السريعين للغاية من يتسمون بالبطء الشديد بين الحين والآخر. لكننا نعلم من واقع الخبرة أن الحال ليست كذلك دائما، فيكون الأمر كذلك عندما لا ينتبه العداءون بعضهم لبعض، ومن ثم من المحتمل أن يظل العداءون، الذين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، منتشرين حول المضمار إلى حد بعيد، كما هو الحال في الشكل الأيسر. لكن في إطار الألعاب الأوليمبية، حين يكون لدى كل عداء حافز كبير للبقاء على مسافة قصيرة من العداء الأول (ولدى العداء الأول حافز مماثل ألا تنهك قواه مبكرا)، ينتبه العداءون كثيرا بعضهم لبعض، وتكون النتيجة تكتلهم في مجموعة (كما هو موضح في الشكل الأيمن).
شكل 1-1: يمكن النظر إلى المذبذبات المتصلة على أنها عداءون يركضون حول مضمار دائري. عندما تكون المذبذبات مرتبطة بقوة فسوف تتزامن (على اليمين)، وعندما لا تكون كذلك تكون في حالة عدم تزامن (على اليسار).
بلغة المذبذبات، يمثل التكتل «وضعا متزامنا»، ويعتمد تزامن النظام أو عدم تزامنه على توزيع «الترددات الفعلية» (زمن الدورات الفردية) و«قوة الارتباط» (قدر الانتباه الذي يوليه كل فرد للآخر). إذا كانت جميع المذبذبات تتمتع بالقدرة ذاتها، وبدأت معا، فسوف تظل متزامنة بصرف النظر عن ارتباطها. وإذا كان توزيع قدراتها كبيرا، كما هو الحال في نهائي سباق العدو السريع لمسافة عشرة آلاف متر، فمهما تكن رغبتها في البقاء معا، فسيتفكك التكتل وتختفي المزامنة. على الرغم من بساطة هذا النموذج، فهو تمثيل جيد للعديد من النظم المثيرة للاهتمام في الأحياء، بدءا من الخلايا الناظمة القلبية وصولا إلى وميض حشرات سراج الليل وصرير صراصير الليل. درس ستروجاتس أيضا رياضيات النظم الفيزيائية، مثل مجموعات موصلات جوزفسون فائقة التوصيل، وهي مفاتيح فائقة السرعة قد تشكل في أحد الأيام الأساس لجيل جديد من أجهزة الكمبيوتر.
عند وصول ستيف إلى كورنيل عام 1994، كان قد حقق مكانة رائدة في مجال ديناميكيات المذبذبات المتصلة، وألف كتابه الذي يعرض فيه مقدمة واضحة للديناميكيات اللاخطية والفوضى، وحقق حلمه كمراهق بأن يشغل منصبا في إحدى جامعات الأبحاث الرائدة. كان قد حصل على جوائز في مجالي التدريس والأبحاث، ودرس في بعض أفضل الجامعات في العالم وعمل فيها، مثل برنستون وكامبريدج وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وببلوغه منتصف الثلاثينيات من العمر، كان يتمتع بسيرة ذاتية شديدة التميز، ومع ذلك كان يشعر بالملل؛ فلقد ظل يقوم بالعمل نفسه تقريبا على مدار عشر سنوات، وإن كان ذلك أسعده. شعر ستيف أنه وصل إلى أقصى درجات الإتقان الممكنة في ذلك الجانب من الدراسات الأكاديمية، وكان مستعدا لبدء الاستكشاف من جديد؛ لكن أين؟
كان أول تفاعل لي مع ستيف عندما كان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكنت طالبا بالسنة الأولى من الدراسات العليا في جامعة كورنيل. وشأني شأن الكثير من طلاب الدراسات العليا، انتهت تماما رؤاي الحالمة عن الحياة في إحدى جامعات الأبحاث، وحررني الواقع الصعب، والممل في كثير من الأحيان، من الأوهام تماما، قررت أن أي مكان سيكون أفضل من كورنيل. كان ستروجاتس قد ألقى مؤخرا خطابا في قسمي - وهو الخطاب الأول الذي شعرت أنني قد فهمته فعلا - فاتصلت به لأرى هل هو بحاجة لتعيين مساعد أبحاث جديد. أجابني بأنه في حقيقة الأمر سينتقل إلى جامعة كورنيل، وإلى قسمي تحديدا (وتبين أن خطابه كان جزءا من مقابلة العمل الخاصة به)؛ فبقيت في الجامعة.
كان الإجراء المتبع مع طلاب الدراسات العليا في قسمي هو أن يخضعوا في نهاية العام الأول لامتحان قبول يعرف باسم «امتحان كيو»، وضع هذا الامتحان لاختبار معرفتهم العملية بشأن كل شيء من المفترض أن يكونوا قد تعلموه أثناء دراستهم الجامعية وعامهم الأول في الدراسات العليا، وهو امتحان شفهي، يدخل فيه كل طالب غرفة مليئة بالأساتذة الذين يمطرونه بأسئلة يكون عليه حلها على السبورة، وفي حال نجاح الطالب يسمح له بمواصلة الدراسة للحصول على شهادة الدكتوراه. لكن ماذا إن رسب؟ حسنا، ليس من المفترض أن يرسب أحد. من الطبيعي إذن أن يكون هذا الامتحان تجربة مخيفة إلى حد ما (مع أن أغلب الرعب يكمن في الترقب). وبالمصادفة، لم أكن راجعت السؤال الوحيد الذي سألني إياه ستروجاتس على الإطلاق، وبعد التردد بضع دقائق على السبورة صار عدم استعدادي للسؤال واضحا تماما، فجنبوني المزيد من الإذلال رحمة بي، وانتقلنا إلى السؤال التالي، ولحسن الحظ، سار باقي الامتحان على ما يرام، وبالفعل نجحت (نجحنا جميعا). وبعد أسبوع أو اثنين، بعد ندوة أخرى يصعب فهمها في القسم، اقترب ستيف مني، وأدهشني باقتراحه أن نتحدث بشأن العمل معا.
Unknown page
أستاذ شاعر بالضجر إلى حد ما، وطالب شبه يائس، لا يبدوان ثنائيا مثاليا، لكنهما كانا كذلك. وعلى مدار العامين التاليين أخذنا نتردد بين مجموعة متنوعة من المشروعات، وقضينا وقتا طويلا نتناقش في الفلسفة قدر مناقشتنا للرياضيات؛ ليس الفلسفة الوجودية، بل العملية. أي القضايا كانت مثيرة؟ وأيها كانت صعبة؟ من الذي نال عمله إعجابنا؟ ولماذا؟ ما مدى أهمية الإتقان الفني مقارنة بالإبداع والجرأة ؟ ما مقدار الوقت الذي من المفترض أن يقضيه المرء في الاطلاع على أعمال الآخرين قبل خوضه مجالا غير مألوف له؟ بمعنى آخر، ما الذي يعنيه العمل في مجال علمي مثير؟ وكما أظن الحال في أغلب جوانب الفلسفة، كانت الإجابات - باعتبار أننا توصلنا إلى أي منها - أقل أهمية من عملية التفكير في الأسئلة ذاتها. كان لتلك العملية تأثير عميق على عملنا التالي، وقد اتضح أن ذلك التردد لم يسمح لنا فقط بأن نصبح أصدقاء ومنحني الفرصة لإنهاء دراستي، بل حررنا أيضا من التركيز على مشروع واحد محدد لفترة كافية تمكننا خلالها من التفكير فيما كنا «نريده» حقا، بدلا مما كنا نظن أن «باستطاعتنا» فعله، وكان لذلك كل الفارق. (4) الطريق الأقل ارتيادا
حين توصلنا مصادفة إلى مشروعنا النهائي، كنا ندرس الصراصير دون أي شيء آخر. يبدو الأمر سخيفا، لكن نظرا لأن هذا النوع من الصراصير تحديدا - وهو صرصور الأشجار الثلجية - يصدر صريرا منتظما، ولأنه (على عكس الخلايا الناظمة القلبية أو الخلايا العصبية) مادة جيدة للتجربة، فإنه نوع مثالي فعليا للمذبذبات البيولوجية. كنا نحاول التحقق من فرضية رياضية متعمقة كان وينفري أول من طرحها، وتنص على أن أنواعا معينة فقط من المذبذبات يمكن أن تتزامن. ونظرا لأن هذه الصراصير بارعة للغاية في المزامنة، فقد بدت الخطوة الطبيعية أن نحدد «تجريبيا» أي نوع من المذبذبات هذه الصراصير، ومن ثم هل التنبؤات النظرية صحيحة أم لا.
إن الصراصير محل اهتمام علماء الأحياء أيضا، وهو ما لا يدعو للدهشة؛ فنظرا لأن الصرير يرتبط على نحو وثيق بنجاح عمليتي التزاوج والتناسل، فإن الآليات المؤدية إلى المزامنة العامة تعد قضايا بيولوجية مهمة، ومن ثم عملت أنا وستيف مع عالم حشرات يدعى تيم فورست، وقضيت معه ليالي صيفية عديدة نتجول بين الأشجار في حرم جامعة كورنيل الضخم بحثا عن العينات، التي تضمنت أوديسيوس الذي ذكرته آنفا. وبعد أن جمعنا مجموعتنا الصغيرة، عزلنا كلا منها في حجيرة عازلة للصوت، وبعثنا إليها بصوت صرير باستخدام جهاز كمبيوتر كان تيم قد زوده بنظام سماعات ومكبر صوت. ومن خلال تسجيل استجابات الصراصير لمنبهات الكمبيوتر المحدد توقيتها بدقة، تمكنا من وصف مدى تقدم أحد الصراصير أو تأخره في الصرير التالي اعتمادا على مرحلة دورته الطبيعية التي يسمع فيها «الصرصور» الآخر، الذي هو في هذه الحالة جهاز الكمبيوتر (من الواضح أنه من السهل خداع الصراصير).
لكن ذلك كان الجزء السهل؛ فالموقف الذي خططنا له كان اصطناعيا على نحو مذهل؛ صرصور واحد في حجيرة عازلة للصوت يصدر صريرا في عزلة، مع حث عرضي من جهاز كمبيوتر لم يكن حتى يستمع للصرصور في المقابل. ما كان ذلك ليحدث في العالم الحقيقي أبدا؛ فالصراصير لا تستمع وتستجيب بعضها لبعض فحسب، بل من الطبيعي أيضا أن يوجد الكثير من الصراصير في أي شجيرة أو شجرة، وجميعها تفعل الأمر نفسه. السؤال الذي أفكر فيه هو: من كان يستمع لمن؟ بالتأكيد، ليس هناك صرصور رئيسي يلقن الآخرين جميعا. لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف إذن تمكنت الصراصير من تحقيق المزامنة على هذا النحو البارع؟ هل يستمع كل صرصور للصراصير الأخرى جميعها، أم لصرصور واحد فقط، أم ربما لعدد قليل فحسب؟ ما البنية التي تتسم بها جميع الصراصير، إن كانت هناك بنية أساسا؟ وهل لها أهمية بالفعل؟
لم أكن معتادا آنذاك على رؤية الشبكات في كل مكان أنظر إليه، لكن مع ذلك طرأت على ذهني فكرة أن نموذج التفاعلات - «طوبولوجيا الارتباط» بلغة نظرية المذبذبات - يمكن النظر إليه كنوع من الشبكات. فكرت أيضا أن بنية الشبكة يمكن أن تؤثر على قدرة مجموعة من الأفراد على المزامنة، ومن ثم قد يكون من المهم فهمها ككيان مستقل بذاته. ومن خلال التفكير كأي طالب بالدارسات العليا، افترضت أن مسألة طوبولوجيا الارتباط واضحة، ومن ثم فالإجابة معروفة منذ فترة طويلة، وكل ما يجب علي فعله هو البحث عنها، لكن بدلا من التوصل إلى إجابة، كان كل ما توصلت إليه هو المزيد من الأسئلة. لم يقتصر الأمر على عدم البحث مطلقا في العلاقة بين بنية الشبكة وتزامن المذبذبات فحسب، لكن من الواضح أنه لم يبذل أي شخص جهدا كبيرا في التفكير في العلاقة بين الشبكات وأي نوع من الديناميكيات، بل يبدو أنه لم ينتبه أحد قط للسؤال الأكثر أهمية المتعلق بنوع الشبكات الموجودة بالفعل في العالم الحقيقي، على الأقل بين علماء الرياضيات، وبدأ يتضح لي أنني توصلت إلى ما يأمل أي طالب بالدراسات العليا في العثور عليه؛ ألا وهو ثغرة حقيقية في العلم، أو باب غير معروف مفتوح بقدر يسير، أو فرصة لاستكشاف العالم بأسلوب جديد.
تذكرت آنذاك أمرا كان قد أخبرني به والدي منذ عام في مكالمة هاتفية مساء أحد أيام الجمعة، سألني والدي - لسبب ما لا يتذكره أي منا: هل سمعت عن فكرة أن أحدا لا يبتعد «عن الرئيس أكثر من ست درجات»؟ بمعنى أنك تعرف شخصا ما، وهذا الشخص يعرف شخصا آخر، وهلم جرا إلى أن تصل إلى شخص يعرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لم أكن قد سمعت عن هذه الفكرة، وأذكر أنني أخذت أحاول تخيل كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنا أثناء استقلالي الحافلة ما بين إيثاكا وروشستر. لم أحقق أي تقدم ذلك اليوم أو منذ ذلك الحين، لكنني أتذكر أنني فكرت في المسألة كشبكة علاقات بين أفراد، كل فرد له دائرة من المعارف - شبكة من الجيران - الذين لهم معارف بدورهم، وهكذا، بما يشكل نموذجا متشابكا عاما من روابط الصداقة والعمل والعائلة والمجتمع، يمكن من خلاله تتبع المسارات التي تربط بين أي شخص عشوائي وأي شخص آخر. وأرى الآن أن طول هذه المسارات قد يكون له علاقة بالكيفية التي تنتشر من خلالها التأثيرات - سواء أكانت أمراضا أم شائعات أم أفكارا أم اضطرابات اجتماعية - بين مجموعة من البشر، وإذا كانت سمة «الدرجات الست» تنطبق أيضا على الشبكات غير البشرية، مثل المذبذبات البيولوجية مثلا، فقد يكون من المهم فهم ظواهر معينة مثل المزامنة.
بدت فجأة الخرافة الحضرية الغريبة التي أخبرني بها أبي شديدة الأهمية، وقررت أن أسبر أغوارها، وبعد عدة أعوام، كنا لا نزال عند النقطة نفسها، كانت الثغرة، حسبما اتضح، عميقة للغاية ولن تستكشف وتستبين بوضوح إلا بعد مرور العديد من الأعوام، لكننا حققنا بالفعل بعض التقدم المرضي، وعرفنا أيضا الكثير عن مسألة الدرجات الست، التي لا تمثل خرافة حضرية على الإطلاق، وإنما مشروعا بحثيا اجتماعيا منطقيا ذا تاريخ زاخر. (5) مسألة العالم الصغير
في عام 1967 أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلجرام تجربة استثنائية، كان ميلجرام مهتما بفرضية لم يكن قد بت فيها بعد، وكانت تنتشر آنذاك في الأوساط الاجتماعية، تمثلت هذه الفرضية في أن العالم، عند النظر إليه كشبكة ضخمة من المعارف الاجتماعية، يعد «صغيرا» نوعا ما؛ بمعنى أن أي شخص في العالم يمكن الوصول إليه من خلال شبكة من الأصدقاء في بضع خطوات فقط. عرفت هذه المسألة باسم «مسألة العالم الصغير» نسبة إلى المزحة المتداولة في الحفلات عندما يكتشف شخصان غريبان أن أحد معارفهما مشترك ويذكر أحدهما الآخر كم أن «العالم صغير» (يحدث لي هذا كثيرا).
في الواقع، ليست هذه الملاحظة التي تذكر في الحفلات مساوية تماما لمسألة العالم الصغير التي كان يبحث فيها ميلجرام، فنسبة صغيرة فقط من الناس في العالم يمكن أن يكون لهم معارف مشتركون، وحقيقة أننا قد نقابلهم مصادفة بانتظام مدهش تتعلق بنزعتنا للانتباه إلى أمور تفاجئنا (ومن ثم المبالغة في تقدير مدى تكرار هذه الأمور) أكثر من تعلقها بالشبكات الاجتماعية. ما أراد ميلجرام توضيحه هو أنه حتى عندما لا أعرف شخصا يعرفك (أي في كل المرات التي نقابل فيها أفرادا ولا ينتهي لقاؤنا بعبارة «يا له من عالم صغير»)، فلا أزال أعرف شخصا يعرف بدوره شخصا آخر يعرف شخصا يعرفك. والسؤال الذي يطرحه ميلجرام هو: كم عدد الأشخاص الذين تتضمنهم هذه السلسلة؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر ميلجرام وسيلة مبتكرة لتوصيل الرسائل لا تزال تعرف حتى الآن باسم «طريقة العالم الصغير». أعطى ميلجرام خطابات لبضع مئات من الأفراد اختيروا عشوائيا من بوسطن وأوماها بولاية نبراسكا، كان من المفترض أن ترسل هذه الخطابات إلى فرد واحد مستهدف، وهو سمسار أوراق مالية من شارون بولاية ماساتشوستس، ويعمل في بوسطن. لكن كانت هناك قاعدة غريبة تتعلق بالخطابات، وهي أن مستلميها لا يمكنهم إرسالها إلا إلى شخص يعرفونه معرفة وثيقة، وبالطبع، إذا كان المستلم يعرف الشخص المستهدف، فيمكنه إرسال الخطاب إليه مباشرة، لكن في حال عدم معرفته به، وكانت تلك المعرفة أمرا غير محتمل إلى حد بعيد، كان عليه إرسال الخطاب إلى شخص يعرفه ويعتقد أنه أقرب نوعا ما من الشخص المستهدف.
Unknown page
كان ميلجرام يعمل بالتدريس آنذاك في جامعة هارفارد، ومن ثم كان من الطبيعي أن يرى منطقة بوسطن الكبرى مركزا للكون. وأي مكان يمكن أن يكون أبعد عنها من نبراسكا؟ ليس فقط جغرافيا، بل أيضا اجتماعيا؛ إذ بدا الغرب الأوسط بعيدا للغاية. وعندما سأل ميلجرام الناس عن عدد الخطوات التي يحتاجها وصول خطاب من مكان لآخر، كان التقدير المعتاد مئات الخطوات، لكن كانت النتيجة ست خطوات وحسب، الأمر الذي كان مفاجئا للغاية حينها، وأدى إلى ظهور عبارة «ست درجات من الانفصال» التي استمد منها جون جوار اسم مسرحيته التي عرضها عام 1990، ونتج عنها عدد من الألعاب المنزلية، ناهيك عن العدد اللانهائي من المحادثات في الحفلات.
شكل 1-2: شبكة متشعبة تامة تعرف الذات فيها 5 أفراد فقط، لكن على بعد درجتين من الانفصال، يمكن أن تعرف 25 فردا، وعلى بعد ثلاث درجات، يصبح العدد 105، وهكذا.
لكن لماذا تحديدا كانت النتيجة التي توصل إليها ميلجرام مفاجئة للغاية؟ إذا كنت ميالا للرياضيات، يمكنك إجراء التجربة الفكرية التالية، بل ربما أيضا رسم صورة مثل تلك الموضحة في الشكل
1-2 . تخيل أن لدي مائة صديق، وكل منهم لديه مائة صديق أيضا، من ثم، على بعد درجة واحدة من الانفصال، أكون على اتصال بمائة فرد، وعلى بعد درجتين يمكنني الوصول إلى ما يساوي حاصل ضرب مائة في مائة؛ أي عشرة آلاف شخص، وعلى بعد ثلاث درجات، أصل إلى نحو مليون شخص، وعلى بعد أربع درجات، يكون العدد حوالي مائة مليون، وتسعة مليارات على بعد خمس درجات. بعبارة أخرى، إذا كان لدى كل شخص في العالم مائة صديق فقط، فعلى بعد ست درجات من الانفصال، يمكنني بسهولة الاتصال بسكان كوكب الأرض جميعا. من الواضح إذن أن العالم صغير بالفعل.
لكن إذا كانت لديك أي ميول اجتماعية، فستتبين على الفور الخطأ الفادح في هذا الاستنتاج؛ فمائة شخص عدد كبير يتعذر التفكير فيه؛ لذا عليك بالتفكير في أقرب عشرة أصدقاء لك واسأل نفسك عن أقرب عشرة أصدقاء لهم، من المحتمل أنك ستجد الكثير من الأصدقاء المشتركين، وهذه الملاحظة تمثل سمة عامة تقريبا، فلا تقتصر على الشبكات الاجتماعية فحسب، بل على الشبكات عموما؛ فهي تعكس ما نعرفه باسم «التجمعات»، وهو ما يعني في الحقيقة أن معظم أصدقاء الأفراد أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. في الواقع، الشبكات الاجتماعية تشبه إلى حد بعيد الشكل
1-3 . فنحن لا نميل إلى أن يكون لدينا أصدقاء قدر أن يكون لدينا مجموعات من الأصدقاء، كل منها تشبه تجمعا صغيرا قائما على خبرة أو موقع أو اهتمامات مشتركة، وترتبط بعضها ببعض من خلال التداخلات التي تحدث عندما ينتمي الأفراد الموجودون في إحدى المجموعات إلى مجموعات أخرى أيضا. هذه السمة الخاصة بالشبكات وثيقة الصلة تماما بمسألة العالم الصغير، لأن التجمعات تؤدي إلى التكرار. وبوجه خاص، كلما ازدادت معرفة أصدقائك بعضهم ببعض، قلت أهميتهم لك فيما يتعلق بتوصيل رسالة ما إلى شخص لا تعرفه.
شكل 1-3: تعكس الشبكات الاجتماعية الفعلية تجمعات؛ تمثل ميل شخصين لديهما صديق مشترك لأن يكونا صديقين. لدى الذات هنا ستة أصدقاء، كل منهم صديق لشخص آخر منهم على الأقل.
يتمثل التناقض الذي تتسم به الشبكات الاجتماعية وأوضحته تجربة ميلجرام في أنه، من ناحية، يعد العالم كثير التجمعات، بمعنى أن الكثير من الأصدقاء أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. لكن من ناحية أخرى، لا يزال بإمكاننا الوصول إلى أي شخص من خلال بضع خطوات قليلة فحسب. ومع أن فرضية ميلجرام عن العالم الصغير لم تصادف اعتراضا لما يزيد عن ثلاثة عقود، فإنها لا تزال مثيرة للدهشة حتى يومنا هذا. تقول أويزا في مسرحية جون جوار: «كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط؛ ست درجات من الانفصال بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب؛ سواء أكان رئيس الولايات المتحدة، أم سائق جندول في البندقية ... لا يقتصر الأمر على الشخصيات الهامة فحسب، بل ينطبق على أي شخص ... أحد السكان المحليين لغابة مطيرة أو في منطقة الإسكيمو. إنني مرتبطة بكل شخص على هذا الكوكب بسلسلة مكونة من ستة أشخاص. إنها فكرة عميقة.»
إنها فكرة عميقة بالفعل، لكن إذا كنا لا نفكر إلا في مجموعة فرعية محددة من الناس بيننا وبينهم شيء واضح مشترك، فيمكن من ناحية أخرى أن نعتقد أن النتيجة ليست غريبة. على سبيل المثال، إنني أعمل بالتدريس في إحدى الجامعات، ونظرا لأن مجتمع الجامعة يتكون من عدد صغير نسبيا من الأشخاص، أكثرهم يشتركون في أمور كثيرة، فمن السهل نسبيا علي أن أتخيل كيف يمكنني نقل رسالة عبر سلسلة من الزملاء إلى أي أستاذ جامعي آخر بأي مكان في العالم، وبالحجة نفسها، يمكنك الاقتناع بأنه يمكنني توصيل رسالة إلى معظم المهنيين خريجي الجامعات في منطقة نيويورك، لكن هذه ليست في الحقيقة ظاهرة العالم الصغير، بل إنها أشبه بظاهرة المجموعة الصغيرة، فمسألة ظاهرة العالم الصغير أعمق بكثير من ذلك؛ فهي تنص على أن بإمكاني توصيل رسالة لأي شخص، حتى إن لم يكن بيننا أي شيء مشترك على الإطلاق. يبدو الأمر أقل وضوحا الآن؛ ربما لأن المجتمع البشري مبتلى بالكثير من التصدعات التي يسببها اختلاف العرق والطبقة الاجتماعية والدين والجنسية.
على مدى ثلاثين عاما أو أكثر، وبينما كانت ظاهرة العالم الصغير تتطور لتتحول من تخمين اجتماعي منطقي إلى جزء من الثقافة الشعبية، ظلت الطبيعة الفعلية للعالم قيد البحث، وظلت المفارقة الكامنة في جوهرها - المتمثلة في فكرة أن من يبدون بعيدين تماما يمكن أن يكونوا قريبين فعليا - كما هي بالضبط؛ مفارقة. لكن شهدت الأعوام القليلة الماضية ثورة في البحث النظري والتجريبي، أغلبه من خارج علم الاجتماع، الذي لم يساعد فقط في حل ظاهرة العالم الصغير، بل أشار أيضا إلى أن هذه الظاهرة أعم مما يمكن لأي أحد تخيله. وإعادة الاكتشاف هذه لظاهرة العالم الصغير، التي اقتصرت معرفتها فترة طويلة على علماء الاجتماع فحسب، أدت إلى مجموعة أكبر من الأسئلة عن الشبكات ترتبط بمجموعة كاملة من التطبيقات في العلوم والأعمال والحياة اليومية.
Unknown page
كما هو الحال غالبا في العلوم (بل في حل مشكلات الحياة اليومية أيضا)، أمكن التوصل إلى الفكرة التي أدت إلى الخروج من هذا المأزق عن طريق تناول موضوع قديم من زاوية جديدة، فبدلا من السؤال: «ما مدى صغر العالم الذي نعيش فيه؟» يمكن أن يكون السؤال هو: «ما الذي يلزم أي عالم؛ ليس فقط عالمنا، وإنما أي عالم على الإطلاق، ليصبح صغيرا؟» بعبارة أخرى، بدلا من الخروج إلى العالم ومحاولة قياس حجمه بتفصيل دقيق، نود إنشاء نموذج رياضي لشبكة اجتماعية لتحل محل العالم الحقيقي، بحيث نستفيد من قوة الرياضيات والكمبيوتر في هذا النموذج. يمكن التعبير عن الشبكات التي سنتعامل معها بالفعل ببساطة تكاد تكون كوميدية من خلال نقاط مرسومة على ورقة وتربط بينها خطوط، تعرف هذه الأشكال في الرياضيات بالرسوم البيانية، وكما أوضحنا من قبل، تعود دراسة الرسوم البيانية إلى قرون مضت، وقد عرفنا عنها الكثير. وتلك هي الفكرة المهمة حقا؛ فعلى الرغم من أننا بهذا التبسيط الشديد سنتغافل حتما عن سمات للعالم نهتم بها كثيرا، فبإمكاننا التوصل إلى ثروة من المعرفة والتقنيات التي من شأنها تمكيننا من تناول مجموعة من الأسئلة العامة المتعلقة بالشبكات لم نكن لنتمكن من الإجابة عنها أبدا إذا ظللنا عالقين في جميع التفاصيل الفوضوية المشوشة للذهن.
الفصل الثاني
أصول علم «جديد»
(1) نظرية الرسوم البيانية العشوائية
منذ نحو أربعين عاما اتبع عالم الرياضيات بول إيردوس أسلوبا بسيطا للغاية في دراسة شبكات الاتصالات. كان إيردوس شخصا غير عادي يبدو بجواره غريبو الأطوار أفرادا طبيعيين تماما. ولد في بودابست يوم 26 مارس عام 1913، وعاش مع والدته حتى سن الحادية والعشرين، ثم قضى ما بقي من حياته المتميزة مسافرا. لم يمكث في أي مكان فترة طويلة، ولم يشغل أي وظيفة دائمة، اعتمد إيردوس على حسن ضيافة زملائه المخلصين، الذين كان يسعدهم إكرامه سعادة غامرة في مقابل تمتعهم بصحبة عقله شديد الذكاء دائم البحث، وقد اشتهر بنظرته لنفسه كآلية لتحويل القهوة إلى نظريات، ولا يعني ذلك أنه تعلم قط إعداد القهوة أو أيا من المهام اليومية العديدة الأخرى، مثل الطهي والقيادة، التي ينظر إليها عامة البشر الأقل شأنا كأمور بسيطة تماما، لكن فيما يتعلق بالرياضيات، اتسم إيردوس بقوته الشديدة، فنشر نحو ألف وخمسمائة بحث على مدار حياته (بل نشر بعضها بعد وفاته أيضا)، وهو ما يتجاوز ما نشره أي عالم رياضيات في التاريخ، ربما باستثناء أويلر العظيم.
ابتكر إيردوس أيضا، بالاشتراك مع معاونه ألفريد ريني، النظرية الأساسية للرسوم البيانية العشوائية، و«الرسم البياني العشوائي»، كما يوحي اسمه، هو شبكة من نقاط التلاقي تصل بينها روابط على نحو عشوائي تماما. حسب تشبيه عالم الأحياء ستيوارت كوفمان، تخيل إلقاء ملء صندوق من الأزرار على الأرض، ثم اختيار أزواج منها عشوائيا وربطها معا بخيوط ذات أطوال مناسبة (الشكل
2-1 ). إذا كانت لدينا أرضية كبيرة للغاية، وصندوق أزرار ضخم، ووقت فراغ طويل، فما الشكل الذي ستئول إليه هذه الشبكات؟ وتحديدا، ما السمات التي يمكننا إثبات أن كل هذه الشبكات لا بد أن تتسم بها؟ إن كلمة «إثبات» هي ما يجعل نظرية الرسم البياني العشوائي صعبة، بل شديدة الصعوبة، فليس كافيا تجربة بضعة أمثلة فحسب، وملاحظة ما سيحدث، بل يحتاج المرء إلى التفكير فيما يمكن أن يحدث وما لا يمكن أن يحدث في كل ظرف محتمل الحدوث، وما الشروط التي يجب التمسك بها للتأكد. لحسن الحظ، كان إيردوس أستاذا في الإثبات، وفيما يلي إحدى النتائج العميقة التي توصل إلى إثباتها مع ريني.
شكل 2-1: رسم بياني عشوائي متخيل يصور مجموعة من الأزرار المربوطة معا بخيوط. تتصل أزواج من نقاط التلاقي (الأزرار) معا عشوائيا عن طريق روابط أو صلات.
بالعودة إلى تشبيه الأزرار، تخيل أننا ربطنا عددا من الخيوط بأزرار - أي عدد نشاء - ثم التقطنا زرا عشوائيا، على أن نعد جميع الأزرار الأخرى التي ترتفع معه من على الأرض. تعد كل هذه الأزرار الثانوية جزءا من «المكون المتصل» للزر المختار. وإذا كررنا هذا التمرين بالتقاط واحد من الأزرار المتبقية، فسنجد مكونا متصلا آخر، ويمكننا الاستمرار على هذا النحو حتى لا يتبقى أي زر على الأرض. ما الحجم الذي سيكون عليه أكبر هذه المكونات؟ سيعتمد ذلك على عدد الخيوط التي ربطتها، لكن كيف سيعتمد على ذلك «بالضبط»؟
إذا كان لديك ألف زر، وربطت خيطا واحدا فقط بين زرين، فسيحتوي أكبر مكون على زرين فحسب، وهو ما تقترب قيمته من الصفر نسبة إلى الشبكة الكاملة. على الجانب الآخر، إذا ربطت كل زر بكل زر آخر، فمن الواضح أيضا أن أكبر مكون سيتضمن الأزرار الألف جميعها، أو الشبكة بأكملها. لكن ماذا عن جميع الحالات الممكنة بين هاتين الحالتين؟ يعرض الشكل
Unknown page
2-2
مخططا لجزء من الشبكة، أو رسما بيانيا عشوائيا يشغله أكبر مكون متصل في مقابل عدد الروابط الموجودة. كما هو متوقع، عندما يكون عدد الروابط قليلا للغاية، لا يرتبط أي شيء بأي شيء آخر، ونظرا لأننا أضفنا الخيوط على نحو عشوائي تماما، فدائما ما سنربط كل زر منفصل بآخر، وإن كان أحد هذه الأزرار متصلا بخيط بالفعل، فمن المرجح ألا يؤدي هذا الخيط إلا إلى مجموعة صغيرة من الأزرار الأخرى.
شكل 2-2: اتصالية الرسم البياني العشوائي. يتغير عدد نقاط التلاقي المتصلة في مكون واحد فجأة عندما يتجاوز متوسط عدد الروابط لكل نقطة تلاقيا واحدا.
لكن شيئا غريبا يحدث بعد ذلك، عندما نضيف عددا كافيا من الخيوط بحيث يتصل بكل زر خيط واحد في المتوسط، تصعد نسبة الرسم البياني التي يشغلها المكون الأكبر مما يقترب من الصفر إلى حوالي واحد على نحو مفاجئ وسريع. وبلغة الفيزياء، يعرف هذا التغير السريع باسم «التحول الطوري»؛ نظرا لحدوث تحول من مرحلة مفككة إلى مرحلة متصلة، والنقطة التي يبدأ فيها حدوث ذلك (حيث يصعد الخط لأول مرة في الشكل
2-2 ) تسمى «النقطة الحرجة». وتحدث التحولات الطورية، مثلما سنرى بعد ذلك، في الكثير من الأنظمة المعقدة، وقد استخدمت لتفسير شتى الظواهر؛ مثل المغنطة، وتفشي الأوبئة، وانتشار الصيحات الثقافية الحديثة. في هذه الحالة بالتحديد، يحدث التحول الطوري عن طريق إضافة عدد صغير من الروابط بالقرب من النقطة الحرجة بما يعمل على الربط بين الكثير من التكتلات شديدة الصغر في مكون واحد ضخم يمتد بعد ذلك ليشمل جميع نقاط التلاقي الأخرى حتى يصير كل شيء متصلا. فسر إيردوس وريني وجود هذا التحول الطوري وطبيعته في عام 1959.
لم نهتم بذلك؟ ببساطة لأنه إذا لم تشكل نقطتا تلاق جزءا من المكون نفسه، فلن يمكنهما الاتصال أو التفاعل أو التأثير إحداهما على الأخرى، يمكن أيضا أن تكونا في نظامين مختلفين، بحيث لا يمكن لسلوك إحداهما التأثير بأي شكل على سلوك الأخرى، من ثم، فإن وجود مكون ضخم يعني أن أي شيء يحدث في موقع واحد من الشبكة لديه القدرة على التأثير على أي موقع آخر، وعلى النقيض، فإن غيابه يقتضي ضمنا أن الأحداث المحلية لا يمكن الشعور بها سوى محليا. استهل إيردوس وريني عملهما المبدئي عن طريق التفكير في شبكات الاتصالات، وتساءلا عن عدد الروابط التي يجب أن توجد بين مجموعة من الأجهزة قبل أن يتمكن واحد منها، اختير عشوائيا، من الاتصال بالجزء الأكبر من النظام، ومن ثم يعد الخط الفاصل بين الانعزال والاتصال حدا مهما لتدفق المعلومات والأمراض والأموال والابتكارات والصيحات الثقافية والأعراف الاجتماعية وكل شيء آخر نهتم به في المجتمع المعاصر. إن حدوث الاتصال العالمي، لا على نحو متزايد تدريجيا، بل بقفزة فجائية مثيرة، يعني وجود شيء عميق وغامض بشأن هذا العالم، على الأقل إذا صدقنا أن الرسوم البيانية العشوائية تمثل العالم تمثيلا جيدا.
هذه، بالطبع، هي المشكلة؛ فمع ما تتسم به نظرية الرسوم البيانية العشوائية من تعقيد (وهي معقدة على نحو محير)، فإن كل شيء نعرفه تقريبا عن الشبكات الحقيقية، بدءا من الشبكات الاجتماعية وصولا إلى شبكات الخلايا العصبية، يشير إلى أنها ليست عشوائية ، أو على الأقل ليست كالرسوم البيانية العشوائية التي وضعها إيردوس وريني. لماذا؟ حسنا، تخيل أنك اخترت أصدقاءك عشوائيا بالفعل من بين سكان العالم الذين يزيد عددهم عن الستة مليارات، إن احتمالية مصادقتك شخصا بقارة أخرى أكبر من احتمالية مصادقتك شخصا بمدينتك أو مكان عملك أو مدرستك. تبدو هذه فكرة سخيفة، حتى في عالم تطغى عليه الاتصالات الإلكترونية والرحلات الدولية، لكن بالتمادي في هذه الفكرة، فإنه إن كان لديك نحو ألف صديق، وكل منهم لديه ألف صديق بدوره، ففرصة معرفة أي من أصدقائك بالآخر لن تتجاوز نسبتها واحدا في الستة ملايين! ومع ذلك، فإننا نعرف من واقع خبرتنا اليومية أن أصدقاءنا يمكن أن يكونوا على معرفة ببعضهم البعض بالفعل، ومن ثم لا يمكن أن تكون الرسوم البيانية العشوائية تمثيلا جيدا للعالم الاجتماعي الحقيقي. ومع الأسف، كما سنرى لاحقا، ما إن نبتعد عن الافتراضات شديدة المثالية عن العشوائية التامة التي يعتمد عليها واضعو نظريات الرسوم البيانية، حتى يصير من الصعب للغاية إثبات أي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، إذا أردنا فهم سمات شبكات العالم الواقعي وسلوكها، فسوف نواجه في النهاية قضية البنية غير العشوائية. (2) الشبكات الاجتماعية
من الظلم إلى حد ما وصف علم الاجتماع بأنه فرع المعرفة الذي يحاول تفسير السلوك البشري، وليس البشر؛ ففي حين يهتم علم النفس للغاية بفهم ما يفعله الناس وفقا لسماتهم وخبراتهم الشخصية، بل وفقا لفسيولوجيا أجسامهم أيضا، ينظر علم الاجتماع إلى السلوك - أو الفعل - البشري على أنه مدفوع، بل محدد، بالأدوار التي يلعبها الناس داخل المؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تحدد بيئتهم الاجتماعية، أو كما قال ماركس: «يصنع البشر تاريخهم، لكنهم ... لا يصنعونه في ظل ظروف من اختيارهم.» ومن ثم فإن الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع هو البنية، وعليه، فقد لا يكون من المدهش أن نظرية تحليل الشبكات، التي انبثقت من علم الاجتماع (وفرع المعرفة المرتبط به، ألا وهو علم الإنسان)، كان لها دائما طابع بنيوي قوي.
إذا ما اختصرنا خمسة عقود من الفكر في بضع صفحات ، فسنجد أن محللي الشبكات الاجتماعية طوروا أسلوبين شاملين للتفكير في الشبكات؛ يتناول الأسلوب الأول العلاقة بين «بنية الشبكة» - مجموعة الروابط الواضحة التي تربط أعضاء مجموعة بشرية معينة، مثل شركة أو مدرسة أو منظمة سياسية - و«البنية الاجتماعية» المناظرة التي يمكن على أساسها التفريق بين الأفراد وفقا لانتمائهم إلى أدوار أو مجموعات مختلفة اجتماعيا. ظهرت مجموعة كبيرة من التعريفات والأساليب على مدار الأعوام تحمل أسماء من قبيل: نماذج الكتل، والتكتل الهرمي، والتدرج متعدد الأبعاد، لكن جميعها وضع أساسا لاستخلاص المعلومات عن المجموعات المختلفة اجتماعيا من بيانات شبكية ارتباطية تماما، سواء عن طريق قياس مباشر «للمسافة الاجتماعية» بين الفاعلين، أو تجميع الفاعلين في مجموعات حسب مدى تشابه علاقاتهم مع الفاعلين الآخرين في الشبكة، ووفقا لهذه الرؤية، تعد الشبكات العلامة المميزة للهوية الاجتماعية، فيمثل نموذج العلاقات بين الأفراد مخططا لسمات الأفراد أنفسهم وتفضيلاتهم.
أما الأسلوب الثاني، فيحمل طابعا أكثر آلية؛ إذ ينظر هنا إلى الشبكة كوسيلة لنشر المعلومات أو إحداث تأثير، وموقع الفرد في النموذج الكلي للعلاقات يحدد المعلومات التي يمكن لهذا الفرد الوصول إليها، أو الأشخاص الذين يمكنه التأثير عليهم. لا يعتمد، إذن، دور الشخص الاجتماعي على المجموعات التي ينتمي إليها فحسب، بل يتوقف أيضا على موقعه داخل هذه المجموعات، وكما هو الحال مع الأسلوب الأول، وضع عدد من المقاييس لتحديد المواقع التي يحتلها الأفراد داخل الشبكة، والربط بين قيمها الرقمية والاختلافات المرصودة في الأداء الفردي.
Unknown page
يستثنى من هاتين الفئتين العامتين المفهوم المعروف باسم «الرابط الضعيف»، الذي قدمه عالم الاجتماع مارك جرانوفتر، وهو يشكل تمهيدا لبعض النماذج التي سنتناولها في مشكلة العالم الصغير. بعد إتمام جرانوفتر لدراسة مكثفة لمجتمعين في بوسطن أثمرت محاولتهما لحشد الرأي ضد تهديد التنمية الحضرية إلى نتائج مختلفة تمام الاختلاف، توصل جرانوفتر إلى نتيجة مدهشة، وهي أن التنسيق الاجتماعي الفعال لا ينشأ من روابط «قوية» شديدة التشابك، بل من وجود روابط ضعيفة عرضية بين الأفراد الذين لا يمتون في أغلب الأحيان بصلة قوية بعضهم لبعض، أو ليس لديهم الكثير من الأمور المشتركة فيما بينهم، وقد أطلق جرانوفتر على هذا التأثير في بحثه الهام، الذي أصدره عام 1973، «قوة الروابط الضعيفة»، وهي عبارة جميلة ومنمقة دخلت منذ ذلك الحين في قاموس علم الاجتماع.
أوضح جرانوفتر فيما بعد أن ثمة علاقة ارتباط مماثلة بين الروابط الضعيفة من ناحية، وتوقعات الأفراد بالحصول على وظيفة من ناحية أخرى؛ فالبحث عن وظيفة، حسبما اتضح، لا يتعلق فحسب بوجود صديق يمهد لك الطريق، لكن طبيعة هذا الصديق لها أهمية كبيرة. لكن المفارقة هنا هي أن من ستجني من ورائهم أقصى فائدة لن يكونوا الأصدقاء المقربين! فنظرا لأن هؤلاء الأصدقاء يعرفون الكثير من معارفك، ويمكن أن يحصلوا على المعلومات نفسها، نادرا ما يكونون هم من يمكنهم مساعدتك في الانتقال إلى بيئة جديدة مهما كانت رغبتهم في ذلك، لكن غالبا ما يكون المعارف غير المقربين هم من يفيدونك؛ نظرا لقدرتهم على منحك معلومات ما كان بإمكانك أبدا الحصول عليها بطريقة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار الروابط الضعيفة حلقة وصل بين التحليل على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجموعات؛ إذ إن الأفراد هم من ينشئونها، لكن وجودها يؤثر على حالة وأداء ليس فقط الأفراد الذين «يملكونها»، بل أيضا المجموعة الكاملة التي ينتمون إليها، ومن ثم، زعم جرانوفتر أنه يمكن تحديد هل الروابط قوية أم ضعيفة عن طريق النظر إلى البنية على مستوى المجموعات فقط؛ أي ملاحظة البنية التي ينتمي إليها الأفراد. ومع أننا سنرى أن العلاقة بين ما هو خاص (الأفراد) وما هو عام (المجموعات والمجتمعات والتجمعات وما إلى ذلك) أكثر دقة إلى حد ما مما وصفه جرانوفتر منذ ثلاثين عاما، فإن عمله يمثل تنبؤا ملفتا للنظر بعلم الشبكات الحديث الآن. (3) للديناميكيات أهمية
إن فهم محللي الشبكات الاجتماعية العميق للبنية يفتح الباب أمام مجموعة كاملة من الأسئلة البعيدة تماما في جوهرها عن النظرية المجردة للرسوم البيانية، لكن لا تزال ثمة مشكلة رئيسية فيما يتعلق بتحليل الشبكات الاجتماعية، ألا وهي «غياب الديناميكيات»؛ فبدلا من التفكير في الشبكات ككيانات تتطور تحت تأثير القوى الاجتماعية، تعامل معها محللو الشبكات غالبا كتجسيد جامد لتلك القوى، وبدلا من النظر إلى الشبكات كقنوات ينتشر من خلالها التأثير حسب قواعدها الخاصة، نظر إلى الشبكات نفسها كتمثيل صريح للتأثير. ووفق أسلوب التفكير هذا، يعتقد أن بنية الشبكة، التي ينظر إليها كمجموعة ثابتة من المقاييس، تجسد جميع المعلومات المتعلقة بالبنية الاجتماعية؛ تلك المعلومات ذات الصلة بسلوك الأفراد وقدرتهم على التأثير على سلوك النظام. كل ما يتطلبه الأمر هو جمع البيانات الخاصة بالشبكة، ثم قياس السمات الصحيحة، وسيتضح كل شيء على نحو مذهل.
لكن ما الذي يجب قياسه؟ وما الذي سيتم استيضاحه بالضبط؟ يمكن أن تعتمد الإجابات هنا اعتمادا كبيرا على نوع التطبيق المحدد الذي يتعامل معه المرء؛ على سبيل المثال، لا يتشابه بالضرورة تفشي مرض ما مع انتشار أزمة مالية أو ابتكار تكنولوجي. إن السمات البنائية للشبكة التي تمكن أي مؤسسة من جمع المعلومات بفعالية يمكن أن تختلف عن تلك التي تمكنها من معالجة المعلومات التي تمتلكها بالفعل أو التغلب على كارثة غير متوقعة. إن الدرجات الست التي تفصل المرء عن رئيس الولايات المتحدة يمكن أن تمثل مسافة قصيرة أو طويلة، ويعتمد ذلك على ما يبتغي المرء فعله. أوضح جون كلاينبيرج (الذي سنتعرض لعمله الملهم في مسألة العالم الصغير في الفصل
الخامس ) ذلك ذات مرة لأحد الصحفيين، فقال له إنه اشترك مع أحد الباحثين بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، في كتابة بعض الأبحاث، وكان ذلك الباحث قد سبق له التعاون مع من أصبح بعد ذلك الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وعلق كلاينبيرج على ذلك قائلا: «للأسف، لا يجعل لي ذلك تأثيرا كبيرا على بيل جيتس.»
نظرا لأن القياسات الثابتة والبنيوية الخالصة لبنية الشبكات لا تفسر أي نشاط يحدث في الشبكة، فإن تلك الأساليب لا توفر أي وسيلة منهجية لترجمة مردودها إلى عبارات ذات معنى حول النتائج. مثال على ذلك، تدبر ادعاء إحدى كليات الإدارة بأن القيادة مهارة عامة بكل ما تحمله الكلمة من معان وتنطبق قواعدها في أي سياق؛ فإن ما تدعو إليه هذه الكلية واضح، وهو: تعلم كيفية «الإدارة» وسيمكنك إدارة أي شيء، بدءا من شركة ناشئة، مرورا بمنظمة غير ربحية، وصولا إلى فصيلة عسكرية، لكن من الناحية العملية لا تسير الأمور بهذه البساطة؛ فالقيادة اللازمة في وحدة مشاة مقاتلة - على سبيل المثال - مختلفة تماما عن تلك اللازمة في مكتب حكومي، والقائد الذي يحسن البلاء في إحدى البيئات يمكن أن يكون أداؤه ضعيفا للغاية في غيرها. ولا يعني ذلك أنه لا توجد مبادئ مشتركة على الإطلاق، لكن لا بد من تفسير هذه المبادئ في ضوء ما تحاول المؤسسة على وجه التحديد تحقيقه، وفي ضوء أنماط البشر الذين يعملون فيها. يسري الأمر نفسه على التحليل البنيوي؛ فبدون نظرية مماثلة عن السلوك - الديناميكيات - لن يمكن تفسير نظرية بنية الشبكات على الإطلاق، ومن ثم لن تكون ذات فائدة عملية تذكر.
تعد «المركزية» أحد الأمثلة الهامة على ما يسفر عنه تناول الشبكات بمنهج بنيوي خالص من تبني كثير من المحللين لنظرة مطمئنة - لكنها مضللة تماما - عن العالم. يتمثل أحد أكبر الألغاز المتعلقة بالنظم الكبيرة الموزعة - بدءا من المجتمعات والمؤسسات وصولا إلى العقول والنظم البيئية - في الكيفية التي يمكن أن يظهر بها نشاط متسق على نحو كلي في غياب رقابة أو سلطة مركزية. عادة ما يتم تجنب مشكلة التنسيق اللامركزي عن طريق إدماج مركز تحكم واضح، وذلك في النظم التي صممت وأعدت خاصة لفرض التحكم؛ كالنظم الديكتاتورية وشبكات أجهزة الاستدعاء التي تعمل بالقمر الصناعي، لكن في كثير من الأنظمة - عادة تلك التي تطورت أو ظهرت طبيعيا - يكون مصدر التحكم غير واضح على الإطلاق. تحظى المركزية بقدر كبير من الجاذبية بطبيعتها، وهو ما دفع محللي الشبكات إلى التركيز بشدة على ابتكار تدابير لها، سواء للأفراد داخل الشبكة أو للشبكة بالكامل.
يقتضي هذا المنهج ضمنا أن الشبكات التي تبدو لامركزية هي في حقيقة الأمر ليست كذلك على الإطلاق، فإذا تأملنا بإمعان بيانات الشبكات، فسيتضح لنا أنه حتى الشبكات الكبيرة المعقدة تعتمد على مجموعة ثانوية صغيرة من الفاعلين المؤثرين، ووسطاء المعلومات، والموارد الهامة، وتمثل هذه العناصر مجتمعة المركز الفعال الذي يعتمد عليه أي شخص آخر. قد لا يكون هؤلاء الفاعلون الرئيسيون واضحين - وقد يبدون غير مهمين بالمقاييس التقليدية للمكانة أو السلطة - لكنهم موجودون دائما، وما إن يحددوا حتى تتضح الأمور، ويصير أمامنا نظام له مركز. شاعت مفاهيم المركزية شيوعا كبيرا في دراسات الشبكات، ومن السهل إدراك السبب وراء ذلك؛ فالنظرية قابلة للاختبار والتحليل، وتؤدي إلى نتائج قابلة للقياس، بل مدهشة في بعض الأحيان (مثل أن يكتشف أن أكثر مجموعات النفوذ تماسكا في أي شركة هم المدخنون الذين يتجمعون بالخارج عدة مرات في اليوم، أو أن مساعد المدير، وليس المدير نفسه، هو وسيط المعلومات الرئيسي)، لكنها في الوقت نفسه لا تجبرنا على استيعاب أي مفاهيم شديدة الصعوبة أو منافية للبديهة. للعالم دائما مركز، ويعالج هذا المركز المعلومات ويوزعها، ويحدث الفاعلون المركزيون أثرا أكبر من الفاعلين الهامشيين.
لكن ماذا إذا لم يكن هناك أي مركز؟ أو ماذا إذا كان هناك الكثير من «المراكز» التي ليس من الضروري أن تكون متسقة أو حتى متفقة؟ ماذا إذا لم تنشأ الابتكارات المهمة في قلب الشبكة، بل في أطرافها التي ينشغل وسطاء المعلومات عن الانتباه إليها؟ ماذا إذا انتشرت الأحداث البسيطة في أماكن غير واضحة عن طريق الظروف العرضية والمصادفات العشوائية، لتؤثر بذلك على عدد كبير من قرارات الأفراد، التي يتخذونها في غياب أي خطة كبرى، لكنها تتجمع على نحو ما في صورة حدث بالغ الأهمية لا يتوقعه أحد، بما في ذلك الفاعلون أنفسهم؟
Unknown page
في مثل هذه الحالات، فإن مركزية الأفراد في الشبكة، أو أي مركزية من أي نوع، لن تخبرنا بالكثير أو بأي شيء على الإطلاق بشأن النتيجة؛ وذلك لأن «المركز لا يظهر إلا كنتيجة للحدث نفسه». لهذه العبارة تبعات مهولة فيما يخص فهمنا للشبكات. في عدد وافر من النظم، من الاقتصاد إلى الأحياء، لا تنبع الأحداث من أي مركز موجود من قبل، بل من التفاعلات بين الأنداد، فلتتذكر آخر مرة كنت فيها وسط جمهور كبير بإحدى الحفلات الموسيقية، ووسط التهليل الفوضوي بدأ الجمهور بأكمله في التصفيق بإيقاع واحد معا، هل فكرت من قبل كيف يتمكن الجميع من الاتفاق على إيقاع واحد؟ ففي نهاية الأمر، يصفق الكثير من الناس طبيعيا بإيقاعات مختلفة، ولا يبدءون جميعا في اللحظة ذاتها بالضبط. فمن الذي يختار لحظة التصفيق؟ في بعض الأحيان يكون الأمر سهلا؛ تتوقف الموسيقى، ويصفق الجميع مع إيقاع الطبلة الجهير، أو يبدأ المغني الرئيسي تصفيقا بطيئا من فوق المسرح ليحث الجمهور على البدء في التصفيق، لكن عادة لا توجد مثل هذه الإشارة المركزية، وفي هذه الحالات لا يلتقط أحد أي إشارة على الإطلاق.
ما يحدث هو أنه عندما يقترب الجمهور من المزامنة، يمكن أن يبدأ بعض الناس، بالمصادفة العشوائية، في التصفيق معا، وهم لا يفعلون ذلك على نحو متعمد ومنعزل، ويمكن أن يستمر ذلك بضع لحظات فحسب، لكنها تكون كافية؛ فنظرا لأن هؤلاء الأفراد يتكتلون معا، يكون صوت تصفيقهم أعلى مؤقتا من أي شخص آخر على مرمى السمع، ومن ثم تزيد احتمالية جذبهم آخرين للمزامنة معهم مقارنة باحتمالية حيادهم بعيدا عن المزامنة، ومن ثم ينضم آخرون إليهم على الأرجح، ومن ثم يعززون إشارتهم ويجذبون آخرين إليهم أيضا، وفي غضون ثوان يصبحون المركز الذي ينتظم حوله الجمهور بأكمله. لكن إذا سأل مراقب من الخارج: من بدءوا تلك المزامنة كيف فعلوا ذلك؟ فالاحتمال الأقوى هو أن يندهشوا مثل أي شخص آخر لاكتشافهم وضعهم الخاص هذا. علاوة على ذلك، إذا كرر ذلك المراقب التجربة مع الأفراد أنفسهم في الاستاد، فسيكتشف أن الجمهور سيتآزر حول مركز اعتباطي مختلف آخر.
يمكن أن ينطبق ذلك إلى حد بعيد على العمليات الاجتماعية الأكثر تعقيدا؛ كالثورات، ففي النهاية، لم تأت الإطاحة بالرئيس الصربي الديكتاتور، سلوبودان ميلوسيفيتش، على يد قائد سياسي آخر، أو حتى جيشه، لكن تمثلت القوة الدافعة لسقوطه في حركة طلابية مجهولة ضعيفة التنظيم عرفت باسم أوتبور (وهي كلمة صربية تعني المقاومة)، ولم تحظ هذه الحركة بقيادة مركزية متماسكة إلا بعد نجاحها في حشد دعم شعبي. إن أي تحليل تقليدي للشبكات الاجتماعية لتلك الحركة الطلابية من شأنه ملاحظة أصحاب الأدوار الرئيسية في الحركة، وتتبع ارتباطهم بعضهم ببعض، وبتابعيهم، وبالمنظمات الخارجية أيضا، ومحاولة تحديد الآليات التي أصبحوا من خلالها العناصر التنظيمية المركزية، لكن كما سنرى في الفصل
الثامن ، عندما يتعلق الأمر بالعمل الاجتماعي المنسق واسع النطاق، لا يكون تدارس الحدث بعد وقوعه سليما تماما، بل يمكن أن يكون في الواقع مضللا للغاية، فبدلا من أن يرسم القادة الأحداث، يمكن أن يحدث العكس تماما؛ فيحدد تسلسل الأحداث وتفاصيل توقيتها من يظهرون كقادة. وفي ظل السخط الذي جاش بصربيا في صيف عام 2000، لم يتطلب الأمر سوى بضعة أحداث بسيطة وعشوائية تماما لتثور الحركة الطلابية والشعب. عمل الكثير من الأفراد على الإطاحة بميلوسيفيتش، لكن بعضهم وحسب هم من صاروا قادة، وليس بالضرورة أن يكون سبب ذلك أنهم كانوا أكثر تميزا من الآخرين، أو كانوا يتمتعون بوضع متميز للغاية، لكن تتابع أحداث الثورة نفسها هو الذي حدد مركزها، كما هو الحال بالضبط في حالة الجمهور المصفق أو المكون الكبير في الرسم البياني العشوائي لإيردوس وريني.
كيف ينشأ إذن النشاط العام المترابط من التفاعلات بين الأنداد، دون وجود أي رقابة أو سلطة مركزية؟ تعد بنية الشبكة - كما سنرى في الصفحات التالية - أمرا محوريا في هذا الشأن، وكذلك الديناميكيات. على الرغم من استخدامنا السابق لمصطلح الديناميكيات، فهو في الحقيقة يحمل معنيين يلزم التمييز بينهما، لأن كلا منهما تمخض عنه فرع كامل لعلم الشبكات الحديث؛ المعنى الأول، الذي سيطغى على مناقشتنا في الفصلين
الثالث
و
الرابع ، هو ما يمكن أن نطلق عليه «ديناميكيات الشبكة»، ووفقا لهذا المعنى، تشير الديناميكيات إلى البنية المتطورة للشبكة نفسها؛ أي عملية تكون روابط الشبكة وتفككها. على سبيل المثال، نقابل على مدار الزمان أصدقاء جددا ونفقد اتصالنا بأصدقاء قدامى، ومن ثم تتغير شبكاتنا الشخصية، وأيضا البنية العامة للشبكة الاجتماعية التي ننتمي إليها. يمكن النظر إلى البنى الثابتة لتحليل الشبكات التقليدي كلقطات فوتوغرافية التقطت أثناء عملية التطور المتواصلة هذه، لكن عند النظر إلى الشبكات من الناحية الديناميكية، يمكن القول إن البنية القائمة لا يمكن فهمها جيدا إلا من واقع طبيعة العمليات التي أدت إلى ظهورها.
أما المعنى الثاني، الذي سيشغلنا على مدار الفصول من الخامس إلى التاسع، فهو ما يمكن أن نطلق عليه «الديناميكيات القائمة على الشبكة». من هذا المنظور، يمكننا تخيل الشبكة كركيزة ثابتة تربط مجموعة من الأفراد، ويتشابه ذلك مع النظرة التقليدية للشبكات. لكن الأفراد يفعلون أمرا ما الآن - يبحثون عن معلومات، أو ينشرون شائعة، أو يتخذون قرارات - تتأثر نتيجته بما يفعله جيرانهم، ومن ثم ببنية الشبكة. هذه هي الديناميكيات بالضبط التي كنت أفكر فيها مع ستيف ستروجاتس عندما غيرنا مشروعنا عن صراصير الليل منذ عدة أعوام، والتي لا تزال تسيطر على تفكيرنا بشأن العمليات الاجتماعية بصفة دائمة.
يحدث كلا نوعي الديناميكيات طوال الوقت على أرض الواقع، وعلى الفاعلين الاجتماعيين - بدءا من الثوار وصولا إلى المديرين التنفيذيين - الاختيار مرارا وتكرارا، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية استجابتهم للأحداث حسب إدراكهم لها، بل أيضا فيما يتعلق بمن يرتبطون به. إذا كان سلوك أحد أصدقائك لا يروق لك، يمكنك أن تحاول تغيير سلوكه أو تقضي وقتك مع شخص آخر. يمكن أن تتغير «بنية الشبكة» استجابة لسيناريو واحد، لكن يمكن أيضا أن تتغير التفاعلات التي تجري «على الشبكة». بالإضافة إلى ذلك، يساعد كل قرار - أي كل صورة من صور الديناميكيات - في إرساء السياق الذي يجب صنع القرارات التالية في إطاره. تؤثر سعادتك على شبكتك، وتؤثر شبكتك على سعادتك. إنه أمر معقد، ومن ثم، لتحقيق بعض التقدم، نحتاج أولا إلى فهم كل نوع من الديناميكيات على حدة، ولحسن الحظ، لدينا ركائز قوية نستند إليها في معالجة هذه المهام. (4) الابتعاد عن العشوائية
Unknown page
أناتول رابوبورت عالم رياضيات، لكن ليس بالمعنى التقليدي؛ فعلى مدار مسيرته المهنية المتميزة التي امتدت لأكثر من نصف قرن، قدم إسهامات عظيمة في علم النفس ونظرية الألعاب وتطور التعاون، بالإضافة إلى علم الأوبئة ودراسة الشبكات الاجتماعية. كان رابوبورت يدرس في الخمسينيات من القرن العشرين انتشار الأمراض في التجمعات البشرية باعتباره عضوا في مجموعة بحثية بجامعة شيكاغو عرفت باسم «لجنة الفيزياء الحيوية الرياضية». وفي الوقت الذي كان معظم علماء الأوبئة يركزون على نماذج الأمراض التي تجاهلت الجوانب الاجتماعية للتفاعلات البشرية، أدركت مجموعة شيكاغو البحثية أنه في حالة بعض الأمراض تمثل الشبكة الفعلية عاملا محوريا، وفي أغلب الظروف، يمكن تحديد مدى خطورة انتشار مرض ما من خلال توضيح من يتفاعل مع من.
سنعود لهذا الموضوع في فصول لاحقة نظرا لارتباطه ليس فقط بانتشار الأمراض، بل أيضا بانتشار المعلومات كالشائعات وفيروسات الكمبيوتر. ما يجب ذكره الآن بشأن عمل رابوبورت المبكر أنه مع تناوله مشكلة بنية الشبكات من منظور عالم الرياضيات، فقد تأثر تأثرا شديدا بالأفكار المستمدة من علم الاجتماع وعلم النفس والأحياء، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان كبير السن نسبيا - في الثلاثينيات من عمره - حين بدأ دراساته العليا، وذلك نظرا لخدمته السابقة في الجيش ومشاركته في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم عندما عزم على أن يصبح عالم رياضيات، كان قد شهد بالفعل الكثير من تقلبات الحياة، وربما قرر تضمينها في عمله.
فيما يتعلق بانتشار مرض ما في شبكة اجتماعية محددة، أراد رابوبورت معرفة مدى السوء الذي يمكن أن يبلغه الموقف. بعبارة أخرى، تخيل أن المرض شديد العدوى لدرجة أن كل من يتصل بشخص مريض تنتقل إليه العدوى فعليا. كم سيبلغ عدد المصابين في النهاية؟ حسنا، يعتمد ذلك جوهريا على مدى قوة ارتباط المجموعة البشرية. فإذا كنا نتحدث عن إحدى المناطق الريفية في وسط أفريقيا على أطراف غابة مطيرة، حيث يعيش الناس في قرى صغيرة منعزلة نسبيا، فقد نتصور أن انتشار المرض في قرية واحدة، مع تأثيره المدمر على هذه القرية، سيظل متمركزا في مكان واحد، لكن إذا كنا نتحدث عن قارة أمريكا الشمالية التي تحتوي على تجمعات سكانية ضخمة كثيفة ترتبط معا بشبكة متعددة المستويات من وسائل المواصلات الجوية والبرية والسكك الحديدية، فمن الجلي أن أي شيء خبيث بهذه الدرجة يبدأ في أي مكان سيتفشى تفشيا بالغا. ويتساءل رابوبورت: هل هناك مستوى حرج من الاتصالية بين هذين الحدين يتحول عنده البشر من مجموعة من التجمعات المنعزلة الصغيرة إلى كتلة واحدة متصلة؟ ينبغي أن يبدو هذا السؤال مألوفا؛ فهو السؤال نفسه الذي طرحه إيردوس وريني عن شبكات الاتصالات وأدى إلى نشأة نظرية الرسوم البيانية العشوائية.
وبالفعل، بدأ رابوبورت ومعاونوه عملهم من خلال فحص الشبكات المتصلة عشوائيا للأسباب نفسها تقريبا التي استند إليها عالما الرياضيات المجريان، ومع استخدامهم لأساليب أقل دقة، فقد توصلوا إلى نتائج مشابهة إلى حد ما (قبل إيردوس وريني بعشر سنوات تقريبا!) لكن نظرا لنزعة رابوبورت التطبيقية، فقد أدرك سريعا الحقيقة الكامنة وراء الجمال التحليلي لنموذج الرسم البياني العشوائي، وحاول معالجة ما رآه عيوبا فيه. لكن ماذا هناك غير الشبكات العشوائية؟ في الجملة الافتتاحية لرواية «آنا كارنينا»، كتب تولستوي متفجعا: «الأسر السعيدة كلها متشابهة؛ أما الأسر التعيسة، فلكل منها قصتها.» من هذا المنطلق نفسه، فإن الرسوم البيانية العشوائية جميعها متشابهة في جوهرها، لكن غير العشوائية أصعب بكثير في تحديدها. على سبيل المثال، هل أثارت اهتمامك من قبل فكرة أن بعض الصداقات غير متكافئة، بل غير متبادلة أيضا؟ هل يجب اعتبار بعض العلاقات أهم من غيرها؟ كيف يمكن تفسير تفضيل الناس الواضح للارتباط بمن يشبهونهم؟ هل يمتلك معظم الناس العدد نفسه تقريبا من الأصدقاء؟ أم هل يمتلك بعضهم عددا من الأصدقاء أكبر من المتوسط؟ وكيف يمكن تفسير ظهور مجموعات تكون روابط الصداقة داخلها كثيفة، في حين أن العلاقات بين المجموعات نفسها قليلة نسبيا؟
أجرت مجموعة رابوبورت عدة محاولات جادة لمعالجة هذه القضية، مع التوسع في دراسة الرسوم البيانية العشوائية لتشمل خصائص بشرية مثل «الانجذاب إلى المثيل»، وهو ما يعبر عنه القول المأثور: «الطيور على أشكالها تقع»، الذي لا يصف مجموعات الأخوية في الجامعات فحسب، بل أيضا هياكل الموظفين في الشركات، وقواعد الزبائن في المحلات والمطاعم، والطبيعة العرقية للأحياء السكنية. تساعد خاصية «الانجذاب إلى المثيل» في تفسير سبب معرفتك لمعارفك - نظرا لاشتراككم جميعا في أمر ما - لكن يمكن أن يتساءل المرء أيضا كيف يمكن للأشخاص الذين يعرفهم الآن أن يحددوا من سيعرفهم في المستقبل، فكر رابوبورت في ذلك أيضا، وقدم مفهوم «الإقفال الثلاثي». في الشبكات الاجتماعية، تكون وحدة التحليل الأساسية هي «الزوج»؛ أي العلاقة بين شخصين. لكن أكثر مستويات التحليل التالية بساطة، والأساس لكل بنية المجموعات، هو مثلث، أو ثالوث، يظهر كلما كان للفرد صديقان بينهما علاقة صداقة أيضا. لم يكن رابوبورت أول من فكر في الثالوث كوحدة أساسية لبنية المجموعة؛ فقد قدم عالم الاجتماع الألماني جيورج سيميل الفكرة منذ ما يزيد عن نصف قرن، لكن الجديد في عمل رابوبورت هو تضمين الديناميكيات. من المرجح أن يتعرف غريبان، لديهما صديق مشترك، أحدهما على الآخر بمرور الوقت؛ بمعنى أن الشبكات الاجتماعية (على عكس الشبكات العشوائية) تتطور على نحو تميل فيه البنى الثلاثية إلى الانغلاق على نفسها.
نظر رابوبورت بوجه عام إلى الخصائص التي كان يعرفها كنزعات؛ لأن كلا منها أبعد نماذجه خطوة عن افتراض العشوائية الخالصة دون إغفالها تماما. إن العشوائية سمة قوية وراقية تمثل في كثير من الأحيان بديلا مناسبا تماما للأمور المعقدة والفوضوية وغير المتوقعة التي تحدث في الحياة الواقعية، لكنها تفشل على نحو جلي في إيضاح بعض المبادئ التنظيمية الأكثر قوة التي تتحكم أيضا في القرارات التي يتخذها الناس. لذا، فكر رابوبورت لماذا لا تكون هناك موازنة بين هاتين القوتين في نموذج ما؟ عليك أن تقرر أي المبادئ التنظيمية هي الأهم من وجهة نظرك، ثم تخيل بناء شبكات تستجيب لهذه الخصائص، لكنها دون ذلك تكون عشوائية. وقد أطلق رابوبورت على الفئة الجديدة التي وضعها من النماذج اسم «الشبكات المائلة للعشوائية».
تتمثل قوة هذا المنهج في أنه من خلال تعامله مع الشبكات باعتبارها نظما متطورة ديناميكيا، تجنب العيب الرئيسي في التحليل القياسي الثابت للشبكات، لكن للأسف، أثناء فعل ذلك، واجه هذا المنهج عقبتين لم يمكن تخطيهما؛ إحداهما نظرية والأخرى تجريبية. تتمثل العقبة الأولى في البيانات، ففي عصرنا الحالي ، وفي أعقاب ثورة الإنترنت، اعتدنا رؤية بيانات عن الشبكات الضخمة وصور لها، ويشمل ذلك شبكة الإنترنت ذاتها. بل الأكثر أهمية أن التكنولوجيا القادرة على تسجيل التفاعلات الاجتماعية إلكترونيا، بدءا من المكالمات الهاتفية وصولا إلى الرسائل الفورية وغرف الدردشة على الإنترنت، زادت من حجم بيانات الشبكة أضعافا مضاعفة في السنوات القليلة الماضية وحدها.
لكن لم يكن هذا هو الحال دائما في جمع البيانات، فحتى وقت قريب كمنتصف التسعينيات، وبالتأكيد في الخمسينيات، كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على بيانات الشبكات الاجتماعية هي الخروج إلى الشارع وجمعها يدويا؛ يعني ذلك توزيع نماذج استقصاء يطلب فيها من الخاضعين للدراسة تذكر معارفهم، وذكر طبيعة علاقتهم بهم. ليس هذا بالمنهج الذي يعول عليه تعويلا كاملا في الحصول على بيانات عالية الجودة، ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن الناس يواجهون صعوبة في تذكر معارفهم دون حثهم على ذلك على نحو مناسب، لكن أيضا لأن وجهة نظر أي اثنين يعرف أحدهما الآخر تجاه علاقتهما يمكن أن تختلف تماما من أحدهما للآخر، ومن ثم يمكن أن يكون من الصعب التعبير عن الأمر بالفعل. يتطلب هذا المنهج أيضا الكثير من الجهد من جانب الخاضعين للدراسة، والباحث بوجه خاص. هناك أسلوب أفضل بكثير، ألا وهو تسجيل ما يفعله هؤلاء الناس بالفعل، ومع من يتفاعلون، وكيفية تفاعلهم معهم. لكن في غياب وسيلة جمع إلكترونية للبيانات، يعد هذا الأسلوب أصعب في تنفيذه عمليا من الاستقصاء، ومن ثم فإن بيانات الشبكات الاجتماعية، أينما وجدت، تتناول مجموعات صغيرة من الناس، وغالبا ما تكون قاصرة على عدد معين من الأسئلة التي يفكر الباحث في طرحها مسبقا، ومن ثم، لم يكن لدى رابوبورت هدف لنماذجه، وإذا لم يكن المرء يعلم كيف يبدو العالم، فمن الصعوبة بمكان معرفة هل نجح في الوصول إلى أي شيء ذي مغزى بشأنه.
لكن رابوبورت واجه أيضا مشكلة أكثر صعوبة من ذلك، فمع فهمه للمشكلة التي كان «يحاول» حلها، فإنه لم يستطع الهروب من حقيقة أنه في خمسينيات القرن العشرين لم يكن لديه بالفعل سوى قلم رصاص وورقة لأداء عمله، وحتى في عصرنا الحالي أيضا، مع وجود أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، يعد تحليل الشبكات المائلة للعشوائية مسألة صعبة، أما حينذاك، فكان الأمر مستحيلا فعليا. تتمثل الصعوبة الأساسية هنا في أنه عند دحض افتراض إيردوس وريني الذي ينص على أن كل اتصال بالشبكة ينشأ مستقلا عن أي اتصال آخر، يصبح من غير الواضح ما الذي يعتمد على ماذا. على سبيل المثال، من المفترض أن يؤثر الإقفال الثلاثي على الشبكة على نحو خاص للغاية، عن طريق جعل الدورات الثلاثية (الثلاثيات) أكثر ترجيحا. يعني ذلك أنه إذا كان (أ) يعرف (ب)، و(ب) يعرف (ج)، فمن المرجح أن (ج) يعرف (أ) أكثر من أي شخص آخر يختار عشوائيا.
لكن ما إن نبدأ في استكمال الثلاثيات حتى نفاجأ بشيء آخر لم نتوقعه، ألا وهو ظهور دورات بأطوال أخرى أيضا. يوضح الشكل
Unknown page