بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الشيخ الإمام الأستاذ العالم العلامة، فريد دهره، ووحيد عصره، أبو الحسن علي بن مؤمن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي، ﵀:
الحمد لله ملء القلوب والضمائر، وفوق وسع الحامد والشاكر. أحمده سبحانه كما يجب لجلاله، وأصلي على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله.
أما بعد، فإن أئمة النحويين كانوا يستدلون على ما يجوز في الكلام، بما يوجد في النظام. والاستدلال بذلك لا يصح إلا بعد معرفة الأحكام التي يختص بها الشعر، وتمييزها عن الأحكام التي يشركها فيها النثر.
أشار من الإصابة تقدم لفظته، والمهابة تخدم لحظته، معلى منار العلوم، ورافع أربابها من التخوم إلى النجوم. سيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله المنصور بفضل الله أمير المؤمنين، أبو عبد الله ابن الراشدين الهادين المهتدين. إلى وضع تأليف مشتمل على أصناف الضرائر، محتو على ما يحسن للناظم دون الناثر. فوضع العبد في ذلك كتابًا صغير الحجم، حاصرًا لضروب الأحكام المختصة بالنظم، وحين أحزر غاية تمامه، وأبرز ثمره من كمامه. أناله من بركتهم، ما يرفعه إلى حضرتهم. أبقاها الله كعبة للقاضي والداني، وغاية الآمال والأماني، وجعل تراب أرضها رثمًا في الشفاه، غررًا في الجباه. بمنه وكرمه.
1 / 11
ذكر ما يحتمله الشعر
أعلم أن الشعر لما كان كلامًا موزونًا يخرجه الزيادة فيه والنقص منه عن صحة الوزن، ويحيله عن طريق الشعر، أجازت العرب (فيه) ما لا يجوز في الكلام، اضطروا إلى ذلك أو لم يضطروا إليه، لأنه موضع ألفت فيه الضرائر.
دليل ذلك قوله:
كم بجود مقرف نال العُلي ... وكريمٍ بخُله قد وضَعه
في رواية من خفض (مقرفا). ألا ترى أنه فصل بين (كم) وما أضيفت إليه بالمجرور، والفصل بينهما من قبيل ما يختص بجوازه الشعر، مع أنه لم يضطر إلى ذلك، إذ يزول عن الفصل بينهما برفع مقرف أو نصبه.
وألحقوا الكلام المسجوع في ذلك بالشعر، لما كانت ضرورة في النثر أيضًا هي ضرورة النظم. دليل ذلك قولهم: (شهر ثري، وشهر ترى، وشهر
1 / 13
مرعى)، فحذفوا التنوين من (ثرى) ومن (مرعى) اتباعًا لقولهم ترى، لأنه فعل فلم ينون لذلك.
وكذلك قالوا: الضيح والريح، فأبدلوا الحاء ياء اتباعًا للريح، والأصل الضح. حكى ذلك الخليل وأبو حنيفة الدينوري.
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (ارجعن مأزورات غير مأجورات). والأصل موزورات، لأنه من الوزر، فأبدلوا الواو ألفًا اتباعًا لمأجورات.
وقد جاء مثل ذلك أيضًا في فواصل القرآن لتتفق. قال الله تعالى: (فأضلونا السبيلا)، وقال سبحانه: (وتظنون بالله الظنونا). فزيادة الألف في (الظنونا) والسبيلا) بمنزلة الألف في الشعر على جهة الإطلاق.
1 / 14
ولكن السجع يجري مجرى الشعر ساغ لأبي محمد الحريري أن يقول: (فألفيت فيها أبا زيد السروجي يتقلب في قوالب الانتساب، ويخبط في أساليب الاكتساب).
فأشبع الكسرة في قواليب اتباعًا لأساليب.
1 / 15
ذكر أنواع الضرائر
اعلم أنها منحصرة في: الزيادة، والنقص، والتأخير، والبدل.
فصل الزيادة
وهي منحصرة في: زيادة حركة، وزيادة حرف، وزيادة كلمة، وزيادة جملة. فأما زيادة الحركة فنحو قول رؤبة:
وقاتمِ الأعماقِ ... خاوي المخترق
مشتبه الأعلامِ ... لماع الخَفَق
1 / 17
يريد: الخفق، فحرك الفاء لما اضطر إلى حركتها بالفتح، اتباعًا لحركة الخاء. ومثل ذلك قوله:
صوادق العقبِ ... مهاذيب الوَلَق
يريد: الولق، وقول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن منزلكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أوركك
وإنما اسم الماء رك، وقوله أيضًا في هذه القصيدة:
كما استغاث بسيئ فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
يريد: الحشك، وهو امتلاء الضرع: حشك يحشك حشكا، وقول الهذلي:
1 / 18
إذا تجرد نوح قامتا معه ... ضريًا أليمًا بسبت يلعج الجلدا
وقول طرفة:
أيها الفتيان في مجلسنا ... جردوا منها ورادًا وشُقُر
يريد: شقرا، فحرك القاف بحركة الشين ووقف على المنصوب بحذف التنوين، وقول الآخر:
قضين حجا وحاجات على عجلِ ... ثم استدرن إلينا ليلة النّفرِ
يريد: النفر.
فأما قول الآخر:
تقول عِرسي إذ ... رأتني كالنَّسِرْ
أسود كالقفة محروم الصَّدر
وقول الآخر:
أنا ابن ماوية ... إذ جد النَّقُر
1 / 19
فليس من هذا النوع، إنما هو من باب إلقاء حركة الحرف الآخر على الساكن الذي قبله في الوقف. وهو جيد في الكلام والشعر.
ومن زيادة الحركة أيضًا قول قعنب ابن أم صاحب
مهلًا أعاذلَ قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
يريد: ضنوا، وقول الآخر:
وإن رأيت ... الحِججَ الرواددا
قواصرا بالعمر ... أو مواددا
يريد: الرواد، والمواد.
فأما قول العجاج:
يشكو الوجا ... من أظللِ وأظْلَلِ
1 / 20
وقوله:
(تعبدًا لذي) ... الجلال الأجْللِ
يريد: من أظلّ، والأجلّ، و(قول) الآخر:
قد علمت ذاك ... بمنات ألْببِه
يريد: ألبه، وقول الآخر:
حتى إذا الليل ... عليه ادلهمما
وقول الآخر:
إن بني ... للئام زَهَده
ما لي من ... صدورهم من مَوْدده
يريد: مودة، فليس في شيء من ذلك زيادة حركة، بل (ردت) فيه الحركة التي كانت قبل الحرف المضعف إلى الأول من المثلين، رجوعًا إلى الأصل عند الاضطرار إلى ذلك.
1 / 21
وربما حرك الساكن بحركة غير مجانسة لحركة الحرف الذي قبله. إلا أن ذلك من الندور بحيث لا يجوز القياس عليه. أنشد أبو زيد:
علام قتل ... مسلم تعبدا
مذ سنة ... وخَمسون عددا
يريد: وخمسون.
وأما زيادة الحرف فمنها: الحاقك التنوين فيما لا ينصرف، ردًا إلى أصله من الصرف، وذلك نحو قول النابغة:
فلتأتينك قصائدُ ولتدفعن ... جيشًا إليك قوادم الأكوار
وقوله:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائبِ
1 / 22
فصرف قصائد، وعصائب التي في آخر البيت. ونحو قول أبي كبير الهذلي
ممن حملن به وهنَّ عواقد ... حبك النطاقِ فعاش غير مُهبَّل
فصرف عواقد، ونحو قول أمية بن أبي الصلت:
فأتاها أُحَيمرُ كأخي السه ... م بِعضْبِ فقال كوني عقيرا
فصرف أحيمر، وقول امرئ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مُرجلي
وقوله:
رب رام من بني ثُعَل ... مثلجُ كفيه في قتره
1 / 23
فصرف عنيزة، وثعل، وحكمه أن لا ينصرف، للعدل والتعريف، بدليل قول حاتم:
فليت شعري وليتُ غير مدركة ... بأي حال ترى أضحى بنو ثُعَلا
والبيت من قصيدته التي أولها:
مهلا نَوادر أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فُعلا
وصرف ما لا ينصرف في الشعر أكثر من أن يحصى. وزعم الكسائي والفراء أنه جائز في كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك، نحو أفضل من زيد. وزعما أن (من) هي التي منعته الصرف. وذلك باطل، بدليل أنهم صرفوا: خيرًا من عمرو، وشرا من بكر، مع وجود (من) فيهما. فثبت بذلك أن المانع لصرفه كونه صفة على وزن (أفعل) بمنزلة (أحمر). فكما أن (أحمر) يجوز صرفه في الضرورة، فكذلك (أفعل من).
وذهب بعض البصريين إلى أن كل ما لا ينصرف يجوز صرفه، إلا أن يكون آخره ألفًا، فإن ذلك لا يجوز فيه، لأن صرفه لا يقام به قافية ولا يصحح به وزن.
والصحيح أن صرفه جائز لما بيناه، قبل، من أن الشعر قد يسوغ فيه
1 / 24
ما لا يسوغ في الكلام، وإن لم يضطر إلى ذلك الشاعر. وأيضًا فإن السماع قد ورد بصرف ما في آخره ألف: قال المثلم بن رياح المري:
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجرًا لآخرة ودنيا تنفع
رواه ابن الأعرابي بصرف دميا.
فإن قلت كيف جعلت صرف ما لا ينصرف من قبيل الضرائر، وقد زعم أبو الحسن الأخفش في الكبير له أنه سمع من العرب من يصرف في الكلام جميع ما لا ينصرف؟ وحكى الزجاجي أيضًا في نوادره مثل ذلك. فالجواب أن صرف ما
لا ينصرف في الكلام إنما هو لغة لبعض العرب. قال أبو الحسن: فكان ذلك لغة الشعراء، لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك.
وأما سائر العرب فلا يجبرون صرف شيء منه في الكلام، فلذلك جعل من قبيل ما يختص به الشعر.
ومنها: تنوين الاسم المبني للنداء، إجراء له مجراه قبل النداء. وإذا نون جاز فيه وجهان: أحدهما إبقاؤه على بنائه، والآخر نصبه ردًا إلى أصله
1 / 25
من الإعراب. وذلك محو قول الأحوص:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطُر السلام
وقول لبيد:
قدَّموا إذ قيل فيسُ قدموا ... واحفظوا المجد بأطراف الأسَلْ
يريد: يا قيس، وقول الآخر:
فطر خالدُ إن كنت تستطيع طيرة ... ولا تقعن إلا وقلبك خافق
يريد: يا خالد، قول الآخر:
يا هرمُ وأنت ... أهلُ عَدْل
إن ولد الأحوص ... يومًا قَبلِ
وقول الآخر:
ضربت صدرها إليَّ وقالت ... يا عدُي لقد وقتك الأواقي
1 / 26
وقال آخر:
يا عديُ لقلبك المهتاج. . .
والنصب في جميع ذلك جائز.
ومنها: إثبات التنوين والنون في اسم الفاعل في حال اتصال الضمير به، إجراء للمضمر مجرى الظاهر أو لاسم الفاعل مجرى الفعل المضارع، نحو قول
الشاعر:
وليس بمُعْييني وفي الناس ممتع ... رفيقُ إذا أعيى على رفيق
وقوله:
وما أدري وظني كل ظن ... أمُسْلمُني إلى قومي شَراحي
وقوله:
هل الله من سَرْو الفَلاة مُريُحني ... ولمّا تَقَسّمني النهارُ الكوانسُ
كان الوجه أن يقال: بمعيي، ومريحي، ومسلمي، لولا الضرورة، ونحو قول الشاعر:
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من مُحدثِ الأمر مُعظَما
1 / 27
وقول الآخر:
ولم يرتفق والناس مُحضرونهُ ... جميعًا وأيدي المعتفين رواهقه
كان الوجه أن يقال: محتضروه، والآمروه، لولا الضرورة.
وزعم بعضهم أن الهاء للسكت. وذلك ضعيف، لما يلزم من إدخالها على معرب، وبابه أن لا يدخل إلا على مبني، ومن تحريكها وحكمها أن تكون ساكنة، ومن إثباتها في الوصل وبابها ألا تلحق إلا في الوقف.
ومنها: تنوين الاسم العلم الموصوف بابن المضاف إلى العلم أو ما جرى مجراه ردًا إلى أصله، نحو قوله:
فإن لا يكن مال يثاب فإنه ... سيأتي ثنائي (زيدًا) بن مهلهل
وقوله:
جارية من قيس ... بن ثعلبة
كأنها حِلْيَةُ ... سيفِ مُذْهبه
1 / 28
فإن قال قائل: هلا جعلت ابنا وابنة بدلين مما قبلهما، لا وصفين حتى لا يكون
ثبات التنوين ضرورة. فالجواب أن ابنا وابنة إنما تأتي العرب بهما على طريق الوصف، لا على طريق البدل، بدليل أنهم لا يثبتون التنوين في قولك: قام زيد بن عمرو، وقامت هند بنت بكر، وأمثالهما، إلا في ضرورة شعر. ولو كانا بدلين لكثر تنوين مثل ذلك في الكلام.
ومنها: إلحاقهم النون الثقيلة أو الخفيفة في الفعل المضارع إذا كان منفيًا، أو مقللًا، أو موجبًا لم تدخل عليه لام قسم، أو جواب شرط أو فعل شرط غير مفصول بينه وبين أداة الشرط بما الزائدة، نحو قول أبي حناء الفقعسي:
يحسبه الجاهل ما ... لم يَعْلما
شيخًا على ... كرسيه معمما
يريد: يعلمن، فأبدل النون ألفًا في الوقف، وقول جذيمة الأبرش:
ربما أوفيتُ في علم ... تَرْفعنْ ثوبي شِمالاتُ
وقول ابن الخَرع:
1 / 29
فمهما تشأ منه فزارةُ تعطكم ... ومهما تشأ منه فزارة تَمنعا
وقول الآخر:
نبتم نبات الخيزراني في الثرى ... حديثًا متى ما يأتك الخير يَنْفعا
الأصل: يمنعن، وينفعن، فأبدلت النون ألفًا في الوقف، وقوله:
من تثْقَفَن منكم فليس بآئب ... أبدًا وقتل بني (قتيبة) شافي
وقوله:
قليلًا به ما يحمدنك وارثُ ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما
وقوله:
وأبوك بشر ما يفند عمره ... وإلى بلى ما يرجِعنَّ جديد
أجرى الفعل المضارع في جميع ذلك مجراه في المواضع التي تلحقه النون فيها
في فصيح الكلام.
ومنها: زيادتهم هذه النون في اسم الفاعل، أجرى في ذلك مجرى الفعل المضارع، لكونه في معناه وجاريًا عليه في قوله:
1 / 30
أريت إن جئت ... به أملودا
ملففًا ويلبس ... البرودا
أقائلَنّ أحضري ... الشهودا
يريد: أتقولن، وقول الآخر:
أشاهرنّ بعدنا ... السيوفا
وأبعد من ذلك زيادتهم لها في آخر الاسم الذي ليس في المعنى الفعلي ولا جاريًا عليه، تشبيهًا له بالاسم الذي هو في معناه نحو قول الراجز:
أحب منك ... موضع الوِشْحَني
وموضع الإزار ... والقَفَنَّي
فزاد نونًا مشددة في (الوشح) و(القفا)، وفتح ما قبلها، تشبيهًا بالنون المشددة في نحو (أتفعلن).
وأما قول الآخر:
كأن مجرى ... دمعها المُسْنَنَّ
قطننة من جيد ... القُطْنُنَّ
1 / 31
فأشبه ما يحمل عليه أن يكون زاد على القطن نونًا ليلحقه ببرثن، فقال: قطنن، ثم شدد النون الآخرة، على حد قول الآخر:
ببازل وجناء ... أو عَيْنهَلَّ
ويروي من جيد القطن، بتشديد النون، إلحاقًا لقطن بمثل عتل.
ومنها: إثبات الزيادة اللاحقة لـ (من) في الاستثبات في باب الحكاية وصلا،
إجراء له مجرى الوقف، وهو قليل لم يسمع منه إلا قول الشاعر:
أتوا ناري فقلتُ مَنُونَ أنتم ... فقالوا الجن قلتُ عموا ظلاما
كان الوجه أن يقول: من أنتم، إلا أن الضرورة منعته من ذلك.
ومنها: إشباع الحركة فينشأ عنها حرف من جنسها. فمن إنشاء الألف عن الفتحة قول ابن هَرمة:
فأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمُنْتَزاح
1 / 32