كان يضرب به المثل في زهده وعبادته، غزير الدمعة، كثير الإشفاق والخشية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، توفي سنة 172ه، فازدحم الناس يوم جنازته على نعشه، فقال العالم يزيد بن حاتم: ازدحموا على عمله، ولا تزدحموا على نعشه. وصلى عليه يزيد، ودفن بباب سلم بمقبرة الجناح الأخضر، وقبره مشهور يزار، رضي الله عنه.
البهلول بن راشد
روى عن مالك بن أنس، والثوري، والليث بن سعد، وكان من علماء الدين المشهورين بالصلاح والتقوى، من قوله: «والله إني لأستحي من الله عز وجل أن تكون الملائكة أطوع له مني.» قرأ عليه سحنون وغيره. قال سعيد بن الحداد رحمه الله: ما كان بهذا البلد - يعني القيروان - أقوم بالسنة من رجلين؛ البهلول بن راشد في وقته، وسحنون في زمنه.
امتحن البهلول في آخر عمره بمحنة كانت سبب موته؛ وصورة ذلك أن العكي أمير إفريقية كان يلاطف «الطاغية» كبير البرابرة، فكتب إليه الطاغية «أن ابعث إلي بالنحاس والحديد والسلاح» فلما عزم العكي على ذلك وعظه البهلول لتزول عنه الحجة، وقال له: إن في إرسالك ما ذكر إلى ذاك العدو إثما كبيرا. وألح عليه البهلول في الموعظة، فبعث إليه العكي وضربه أسواطا دون العشرين، فبرئت كلها إلا أثر سوط واحد تنغل فكان سبب موته. وقبل جلده غلل فدخل عليه عبد الله بن فروخ العالم الشهير، وجعل يبكي بكاء كثيرا، فقال له البهلول: سبحان الله يا أبا محمد، ما يبكيك؟ فقال: أبكي لضرب ظهرك وتقييدك بدون حق. فقال البهلول: يا أبا محمد «قضاء وقدر». ثم ندم الأمير العكي على ما فعل، فأرسل إليه بكسوة وكيس، فأبى البهلول قبول ذلك، فقال الرسول: يقول لك العكي إذا كنت لم تقبل ذلك فاجعلني في حل. فقال البهلول: قل له ما حللت يدي من العقالين حتى جعلتك في حل. وقد مات من أثر ذلك السوط الذي تنغل كما قدمنا في سنة 183ه، ودفن بمقبرة الجناح الأخضر. وهكذا كان السلف الصالح، وعلماء الدين يقولون الحق ويموتون عليه، وقبر البهلول مشهور يزار متصل بقبر جبلة بن حمود، رضي الله عنهما.
جبلة بن حمود
هو أبو يوسف جبلة بن حمود بن عبد الرحمن بن مسلمة الصدفي، أسلم جده على يد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، سمع جلبة العلم من سحنون، ومحمد بن رزين، ومحمد بن عبد الحكم وغيره، وأخذ عن سحنون المدونة والمختلطة والموطأ. قال سحنون: لو تفاخر علينا بنو إسرائيل بعبادهم فاخرناهم بجبلة بن حمود. وقال القاضي موسى القطان: من أراد أن يدخل إلى دار عمر بن الخطاب فليدخل دار جبلة بن حمود؛ لزهده وتقلله. وقال أبو بكر ابن أبي عقبة: ما أوقد جبلة نارا أربعين سنة، إنما كان له دقيق شعير، إذا كان عند إفطاره أخذ قبضة فحركها في قدح بماء فأفطر عليها. وكان يصدع بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ولما دخل عبيد الله الشيعي إفريقية، وكان هو وجماعته من الظالمين المفسدين صار جبلة رضي الله عنه يخرج إلى جهة رقادة، وهو المحل الذي يقصده هذا الشيعي الظالم يبعد عن القيروان بنحو سبعة كيلومترات، فيركب جبلة فرسه، ومعه سيفه وترسه وسهامه، فيجلس هناك من ضحوة النهار إلى غروب الشمس ويقول: أحرس عورات المسلمين من هذا الظالم وقومه. وكانت لجبلة أملاك كثيرة تصدق بها كلها حتى تجرد من ثيابه وبقي عريانا فكساه سحنون. وكان جبلة لا يهاب الملوك ولا يخشى بأسهم. توفي سنة 297ه؛ وذلك يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من صفر، وهو ابن سبع وثمانين سنة، وصلى عليه أبو سعيد محمد بن محمد بن سحنون في مصلى العيد، ودفن بالجناح الأخضر، وقبره متصل بقبر البهلول بن راشد مشهور يزار، رضي الله عنهما. (2) مشاهير رجال مقبرة باب نافع، وهي التي بها قبر سحنون
ابن أنعم التابعي
هو زيادة بن أنعم الشعباني، من عظماء علماء التابعين، يروي عن عبد الله بن عمر، وأبي أيوب الأنصاري، وروى عنه ابنه عبد الرحمن. سكن القيروان واختط بها دارا في ناحية باب نافع بجوار دار سحنون. شهد الغزو مع أبي أيوب الأنصاري. حكى أنه لما كان في الغزو مع أبي أيوب قال حضر غداؤنا، فأرسلنا إلى أبي أيوب، وإلى أهل موكبه فأبى، وبعد أن تغذينا قال أبو أيوب: دعوتموني وأنا صائم وكان علي أن أجيبكم، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تسليما يقول: «للمسلم على المسلم ست خصال واجبات، فمن ترك شيئا منها فقد ترك حقا واجبا لأخيه: عليه إذا دعاه أن يجيبه، وإذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا عطس أن يشمته، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يحظره، وإذا استنصحه أن ينصحه.» توفي ابن أنعم بالقيروان في المائة الأولى، ودفن بمقبرة باب نافع، وهي المقبرة التي بها ضريح سحنون، وقبره في حوطة بسيطة قرب ضريح ابن غانم، مشهور يزار، رضي الله عنه.
Unknown page