Dalalat Shakl
دلالة الشكل: دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
Genres
يقول نيتشه «ما من فنان يتحمل الواقع.» أما فان جوخ فقد كتب: «أزداد اقتناعا يوما بعد يوم أن هذا العالم الأرضي هو مخطط دراسي غير ناجح.» وما من فنان حق إلا جعل شغله الأول أن يعيد رسم هذا المخطط الدراسي، وأن يمنحه الأسلوب الذي إليه يفتقر، وما من روائي حق إلا جعل عالمه الروائي تصحيحا دائما لهذا العالم وفق رغبة الإنسان الصميمية، فهو يستخدم الواقع ولكنه يضيف إليه ما يبدله، «ودائما بانحراف طفيف هو علامة الفن والاحتجاج.» على حد قول كامي؛ «فالخلق وعطاء التمرد هما في هذا الانحراف الذي يمثل أسلوب عمل ما ولهجته.» وما من شاعر حق إلا جعل همه الأكبر أن ينفصل عما استنفدته الكلمات واستهلكته، وأن يعلم الألفاظ أن تنسى ماضيها وتقول ما لم تتعود أن تقوله، وتتمرد على سجن النموذج الذهني القديم، وهو إذ يفعل ذلك إنما يخلخل الفكر أيضا ويخلصه ويلهمه، ويجعله حريا بالكشف جديرا بالنور.
كان نيتشه يحلم بمجتمع مستقبلي يوجهه الفنانون، ورغم تهافت هذه الفكرة واستحالة أن يدير شكسبير مجتمع الحذائين على كل حال، فمن الوبال أيضا على مجتمع الحذائين أن يدعي الاستغناء عن شكسبير، فشكسبير بلا إسكاف، يتخذ ذريعة للطغيان، والإسكاف بلا شكسبير، يبتلعه الطغيان، هذا إذا لم يسهم في توسيعه! إن كل إبداع هو بطبيعته رفض لعالم السادة والعبيد، ومجتمع الطغاة والعبيد الفظيع الذي ما يزال جاثما علينا لن يزول ولن يحول إلا عند مستوى الإبداع. (6) خلق الضمير
وللفن تأثير اجتماعي أبعد من كل ما ذكرناه، ولعله أسماها جميعا وأهولها، إنه ... خلق الضمير! «إن الفنان الحقيقي كائن تنتظم علاقته بمجتمعه الخاص في صورة تعارض واختلاف، يصحبه الشعور بالحاجة إلى إنهاء هذا الخلاف وإقناع الآخرين بالحقيقة التي يراها.»
8
والفن الحقيقي جدل مع الثوابت، وتمرد على الوضع القائم لا سدانة له وتزيين. الفن الحقيقي هو إضافة «ذوات» جديدة إلى الوجود، هي الأعمال الفنية. الفن الحقيقي يتحدى القيم القديمة، ويخالف المدونة الأخلاقية السائدة في سبيل أخلاق أسمى وأرفع، أي في سبيل مثل أعلى لم يسد بعد ولكنه حقيق أن يسود، يقول روبرتو متى الرسام التشيلي المعروف في كلمة ألقاها في مؤتمر هافانا إلى مثقفي العالم: «الشعر سلاح خفي، حرب عصابات داخل النفس على الأعراف والمصالح الذاتية المصطنعة، والرياء في النقد الذاتي، حرب على الأفكار الاتفاقية المبتذلة، في سبيل الذكاء المبدع.»
الفن لا يقلد الحياة، الحياة هي التي تقلد الفن وتستلهمه، الفن يخلق أبطالا جددا في الحياة، ولنا أن ندعو الفنانين رواد التطور الإنساني الواعي، «أولم يكن هوميروس بطلا أعظم من هكتور، بله أخيل العديم الشفقة؟ لقد كان بطلا لا ليجزر أبطالا آخرين بل ليخلقهم، ويهبهم الخلود، والأبطال الذين من خلقه يظهرون لنا المدى العجيب لما يستطيع الإنسان أن يستشعره ويفعله، وبهذا يخلقون أبطالا جددا في الحياة. لقد كان هوميروس أستاذ الإسكندر، بقدر ما كان أرسطو؛ فالنماذج التي فرض الإسكندر على نفسه تقليدها والعيش على غرارها كانت هرقل وأبطال هوميروس.»
9
في قصة جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه»، وهي سيرة ذاتية ترجم فيها لنفسه أيام كان شابا يتلقى العلم، يصور جويس الصراع العنيف الذي نشب بين شخصيته وشخصية مجتمعه، بين ما يريده لنفسه وما يريده له النظام القائم، فيتمرد على ثقافة مجتمعه وقيمه، ويلتمس آفاقا أرحب وثقافة لا تحد بلغة أو وطن أو جيل، فيتعلم ما يقرب من عشرين لغة، ويتمثل ثقافات وحضارات بائدة وحية، وينذر نفسه للفن ويضحي في سبيله برضا والديه وإخوته، ويطلق على نفسه اسم ديدالوس اعتزازا بصنعته وفنه، فقد كان ديدالوس في الميثولوجيا اليونانية سيد الحرفيين الصناع ومعلمهم، وهو الذي بنى قصر التيه (اللابرنت) الشهير لملك كريت، وهو قصر لا يعرف من يدخله كيف يخرج منه، وقد بناه للملك ليستعمله عند الخطر، فسجنه الملك فيه هو وابنه إيكاروس، واستطاعا الطيران والهروب (وبقية القصة معروفة، إذ يصعد إيكاروس مقتربا من الشمس في نشوة الطيران والوثوب، ويسقط هالكا على صخرة في البحر، تبكيه من حولها حوريات الماء).
لعل هذا هو تأويل قول جويس في ختام «صورة الفنان»: «مرحبا أيتها الحياة ... ها أنا ذا أخرج للمرة بعد المليون، لأواجه واقع التجربة، ولأصوغ لقومي في مصهر (ورشة الحدادة) روحي ضميرا لم يخلق بعد (ما زال خاما).
الضمير إذن ليس إرثا تسلمناه عن أسلافنا كاملا مكتملا، ليس شيئا جاهزا نمنحه ونؤتمن عليه، ليس الوضع القائم
Unknown page