Dadaiyya Wa Siryaliyya Muqaddima Qasira
الدادائية والسريالية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
بينما سعى الدادائيون إلى التشكيك في الفن أو إعادة تعريفه، وابتكروا أثناء ذلك - من قبيل المفارقة - أشكالا فنية جديدة (مثل الأعمال الجاهزة)؛ أولى السرياليون اهتماما أقل بالوسائط الفنية في حد ذاتها؛ حيث اقتنعوا بأن المحتوى الشعري سيجعل من قضايا الشكل أمورا غير ذات صلة، وقد سعوا إلى المزج بين الفن والحياة بالمعنى «الطليعي»، بالشكل المميز الذي تم تحديده في بداية الفصل الأول.
ومن سبل التأكيد على هذا التمايز الالتفات أخيرا إلى الطرق التي استغلت بها الحركتان الفيلم السينمائي. كوسط لم يظهر على مسرح الأحداث إلا في عامي 1895 و1896، عندما استعرض الأخوان لوميير اختراعهما، كان الفيلم، لا شك، «أحدث» وسيلة إعلام وظفوها. وقد كانت الأفلام الدادائية التي أنتجها هانز ريشتر وفاكينج إيجلينج في زيوريخ، أو رينيه كلير ومان راي في باريس، أو الأفلام السريالية لدالي وبونويل؛ جزءا من موجة مهولة من التجريب السينمائي في العقود الأولى من القرن العشرين، اعتمدت بشكل كبير على إنجازات حركات الفن الطليعي.
يتسم الفيلم الدادائي تحديدا بوعي ذاتي بخصوص طبيعته المادية كفيلم، وباهتمام بحمل جمهوره على تقدير هذه الحقيقة. إن ريشتر الألماني المولد وإيجلينج السويدي المولد، اللذين كانا عضوين متأخرين وثانويين نسبيا بجماعة دادائية زيوريخ، قد عملا معا من أجل احتلال ريادة الأفلام التجريدية خلال الفترة بين عامي 1919 و1921. أنتج إيجلينج، الذي وافته المنية عام 1925، بكد واجتهاد عملا كبيرا وحيدا، تحت عنوان «السيمفونية القطرية»، استدعت فيه أشكال تجريدية أنماطا ونوتات موسيقية. واستجاب عمل ريشتر بالمثل للموسيقى، لكنه كان أكثر ابتكارا من الناحية البصرية؛ ففي عمله «الإيقاع 23» (1923)، على سبيل المثال، تمتزج سلسلة من الأشكال المستطيلة معا، ثم ينفصل بعضها عن بعض؛ حيث تتمدد وتتراجع أثناء تلك العملية.
وكما في حالة الانقسامات الداخلية للدادائية عموما، تتناقض النزعات التجريدية لصناع الأفلام في زيوريخ، الذين ستفضي بهم في نهاية المطاف إلى التحالف مع البنائية العالمية، مع التأكيد الأكبر على المحتوى المناوئ للبرجوازية في الأفلام الدادائية التي أنتجت في باريس. ربما كان أبرز تلك الأفلام - وهو فيلم «فاصل» لرينيه كلير عام 1924 - يستغل تقاليد السرد، لكن مسار أحداثه يكاد لا يكون «متصلا» على غرار أفلام هوليوود المعاصرة الصامتة. تتعثر آثار السرد لفيلم كلير دوما بفعل اللقطات ذات الزوايا الحادة للغاية، والصور المتراكبة والتصوير السينمائي البطيء والسريع. تم توظيف تحرير المونتاج أيضا، وهو تقنية تنطوي على التجاور الصارخ بين اللقطات؛ بغية خلق آثار شعورية أو فكرية قوية لدى المشاهد، ولكنها لا تتم على غرار الطريقة العقائدية للأيديولوجيات الروسية المعاصرة لأفلام سيرجي آيزنشتاين على سبيل المثال. كانت المشاغل السينمائية الرسمية لكلير مكبوتة دوما بسبب زميله فرانسيس بيكابيا. إبان تلك الفترة، أمست الدادائية الباريسية منهكة تماما، وكان بريتون بصدد تدشين السريالية، ومن ثم كان إسهام الدادائي السابق بيكابيا في الفيلم يتمثل في مقاطعة الأجزاء التجريبية الصريحة لكلير بتتابعات هزلية حافلة بتوقير دادائي مبالغ فيه؛ على سبيل المثال: ينتهي تتابع مطول شبه تجريدي ، يتقاطع فيه بالتبادل انتفاخ تنورات راقصة باليه أثناء دورانها، مع صور كالخطوط الهندسية للبنايات، عندما يكشف أن راقصة الباليه هي في واقع الأمر رجل ملتح.
أنتج مان راي أيضا فيلما دادائيا مدته خمس دقائق في باريس العام السابق. كان فيلم «العودة إلى المنطق» أكثر تقيدا بشكل رسمي من فيلم كلير وبيكابيا «فاصل»، لكنه لم يكن أقل منه فوضوية؛ فقد بعثر الفنان أغراضا مثل الدبابيس ومسامير الخرائط على السيلولويد، ثم عرضها على غرار ما فعله مع «صوره المساحية الضوئية» الفوتوغرافية، وتجلت تلك اللقطات الثابتة في طباق مع غيرها من اللقطات التي عرضت فيها أشياء مثل جذع امرأة ودوامة خيل خشبية وهي تدور ببطء.
تقاوم كل الأفلام الدادائية المذكورة آنفا أي تدخل خيالي مباشر من المشاهد، لكن ثمة منطقا مختلفا تقوم عليه المجموعة الصغيرة من الأفلام السريالية التي أنتجها خلال الفترة ما بين عامي 1927 و1930 زوجان من المتعاونين: الكاتب الدرامي الفرنسي والشاعر أنطونين أرتو والمخرجة جيرمان دولاك من ناحية، والفنان الإسباني سلفادور دالي والمخرج لويس بونويل من ناحية أخرى. وفي تلك الأفلام، تستثير عناصر السرد والتأكيد على مشاعر الممثلين بحيوية الانخراط النفساني للجمهور، ولو أن ذلك ما برح يعترض كثيرا من قبل صور مزعجة أو صادمة أو تحرير المونتاج السريع المستلهم بالقدر نفسه من باستر كيتون في حالة بونويل، وكذلك من الأسلاف الطليعيين. كان الفيلم الذي أخرجه للنور أرتو/دولاك «صدفة ورجل دين» عام 1927 - وهو عبارة عن دراسة فرويدية للمنافسة الأوديبية بين رجل عجوز وآخر شاب على امرأة غامضة - أول فيلم سريالي تحديدا، لكن الأجواء «الشعرية» الأكثر رقة للفيلم طغت عليها العروض البصرية الصاخبة التي اتسمت بها أعمال دالي وبونويل.
كان أول هذه الأعمال فيلم «كلب أندلسي»، ومدته 17 دقيقة، الذي تم تصويره في أسبوع واحد في مارس 1929؛ أي قبل أن ينضم دالي مباشرة للسرياليين. في المشهد الافتتاحي الشهير، يظهر رجل (بونويل نفسه) وهو يشحذ موساه إلى جوار نافذة، وبينما يراقب خيطا من السحب يمرق من أمام القمر، إذا بالرجل يشق عين امرأة تجلس دون حراك إلى جواره (والواقع أن العين لثور لا لامرأة) (شكل
3-8 ).
فسرت هذه الافتتاحية بعدة طرق؛ فقد يكون إفقاد البصر هجوما مجازيا على رؤية الجمهور، وبناء عليه يكون هجوما على التقاليد السينمائية بحد ذاتها، ويمكن أيضا أن تفسر على اعتبار أنها «قطع» للفيلم ذاته. لكن مؤرخي الأفلام أمثال ليندا ويليامز فسروا المشهد تفسيرا فرويديا باعتباره إزاحة رمزية لقلق الخصاء؛ قال بونويل نفسه ذات مرة إن الطريقة الوحيدة لتفسير الفيلم هي التحليل النفساني، وتثبت ويليامز وجهة نظر مقنعة بالإشارة إلى مشاهد أخرى في الفيلم حيث يستثار قلق الخصاء لدى البطل عبر أجزاء مبتورة من الجسد. وفي واحد من تلك المشاهد، نتحرك عبر سلسلة دراماتيكية من اللقطات المقربة المربكة من صورة ليد يحاصرها باب، وثمة جرح شبيه بالندبة في كف اليد تتدفق منه أسراب من النمل؛ إلى صورة لامرأة من عل تلكز يدا مبتورة بعصا.
شكل 3-8: لويس بونويل وسلفادور دالي، مشاهد من فيلم «كلب أندلسي»، 1929.
Unknown page