Dadaiyya Wa Siryaliyya Muqaddima Qasira
الدادائية والسريالية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
شكر وتقدير
مقدمة
1 - الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
2 - «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
3 - الفن ونقيض الفن
4 - «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
5 - السياسات
6 - إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
المراجع
قراءات إضافية
Unknown page
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة
1 - الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
2 - «الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
3 - الفن ونقيض الفن
4 - «من أنا؟» عقل أم روح أم جسد؟
5 - السياسات
6 - إعادة النظر إلى الدادائية والسريالية
المراجع
Unknown page
قراءات إضافية
مصادر الصور
الدادائية والسريالية
الدادائية والسريالية
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
ديفيد هوبكنز
ترجمة
أحمد محمد الروبي
Unknown page
مراجعة
محمد فتحي خضر
شكر وتقدير
أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى بول ستيرتون لتشجيعه لي على تأليف هذا الكتاب في المقام الأول. أيضا، أقر بامتناني الشديد لكيت تريجاسكي، وكاثرين ريف، ونيل كوكس من أجل تعليقاتهم على المخطوطة الأولية للكتاب.
إلى بنجامين
مقدمة
سؤال:
كم عدد السرياليين الذين تقتضي الضرورة تغييرهم مصباحا كهربائيا؟
الجواب:
سمكة.
Unknown page
كل إنسان على دراية بمعلومة ما عن الدادائية والسريالية. ولدت الدادائية عام 1916، وبحلول أوائل العشرينيات أضحت ظاهرة فنية دولية سعت إلى قلب الأفكار البرجوازية التقليدية في الفن. في الغالب، كانت تلك الحركة مناوئة بشكل جريء للفن، والأهم من ذلك كله أن المشاركين فيها - أمثال: مارسيل دوشامب، وفرانسيس بيكابيا، وتريستان تزارا، وهانز آرب، وكورت شفيترز، وراءول هاوسمن - وضعوا حبهم للمفارقة والوقاحة في مقابل جنون العالم الذي جن جنونه، وذلك بينما كانت الحرب العالمية الأولى تستعر في أوروبا.
نشأت السريالية، الوريث الفني للدادائية، رسميا عام 1924، وأمست فعليا ظاهرة عالمية بحلول الفترة التي تداعت فيها في أربعينيات القرن العشرين. التزم الفنانون السرياليون - أمثال: ماكس إرنست، وسلفادور دالي، وخوان ميرو، وأندريه ماسون - بوجهة النظر القائلة بأن الطبيعة البشرية غير عقلانية في جوهرها، ودخلوا في علاقة حب للتحليل النفساني، شابها الاضطراب كثيرا، بغية الكشف عن أسرار العقل البشري.
بالنسبة إلى كثيرين، لم تكن الدادائية والسريالية حركتين قائمتين بذاتيهما في تاريخ الفن خلال القرن العشرين بقدر ما كانت كل منهما «فنا حديثا» متجسدا. فالدادائية ترى بوصفها متمردة وميالة للمواجهة والصدام؛ أما السريالية فاعتبرت بالمثل مناوئة للبرجوازية في جوهرها، لكنها كانت أكثر انغماسا فيما هو غريب وعجيب. ولكن، لماذا الدادائية والسريالية؟ ما السر وراء ارتباط كل منهما بالأخرى؟ إنهما حركتان منفصلتان، ومع ذلك دائما ما يخلط الناس بينهما. وجد مؤرخو الفن أنه من الملائم تبني التعميم القائل بأن الدادائية «مهدت الطريق» أمام السريالية، ولو أن هذا المفهوم لم يكن ينطبق إلا على مكان واحد حقا من الأماكن التي شاعت فيها الدادائية، ألا وهو باريس. لا شك أن هذا الكتاب سيتناول هذه المسألة مجددا، لكنه سيعرض هاتين الحركتين على اعتبار أنهما مختلفتان بشكل متمايز بحيث يمكن وضع الواحدة منهما في مواجهة الأخرى؛ على سبيل المثال: عادة ما استمتعت الدادائية بفوضى الحياة العصرية وتشظيها، بينما أخذت السريالية على عاتقها مهمة أكثر إصلاحا؛ حيث حاولت خلق منهجية جديدة، وجعلت الإنسان العصري يتواصل مجددا مع قوى اللاوعي. ومثل هذه الاختلافات تتصل بتمايزات مهمة سعيت إلى إيضاحها قدر الإمكان.
تشيع الدادائية والسريالية الآن أكثر من أي حركة أخرى من الحركات الفنية المنتمية إلى القرن الماضي في ثقافتنا إجمالا، والسريالية تحديدا دخلت إلى لغتنا اليومية؛ فنحن نتكلم عن «الدعابة السريالية» أو «الحبكة السريالية» لفيلم ما؛ وتعني هذه الاستمرارية تحديدا أنه من الصعب وضعهما على مسافة واحدة منا في «التاريخ». لقد أصبحت الروايات النقدية والتاريخية للحركتين أكثر تعقيدا بلا شك؛ فالدادائية، التي ربما ينظر إليها على اعتبار أنها مناهضة للفكر الأكاديمي، تدرس الآن بالجامعات على نطاق واسع. وبالمثل، أمست الدراسات المعنية بالفنانين المشاهير السيئي السمعة، مثل دالي ورينيه ماجريت، موجودة في كل مكان؛ لكن كثيرا ما تكون وفرة المعلومات مثيرة للحيرة، فنفقد المسافة الحرجة الفاصلة.
ولما كنت على دراية بهذه المشكلة، فقد أقمت بنية هذا الكتاب استنادا إلى قضايا موضوعية أساسية. يرسم الفصل الأول التطور التاريخي للدادائية والسريالية، ويتعامل مع الفرضيات المتعلقة بالتعامل معهما معا. أما الفصل الثاني فيبحث بتفصيل الطريقة التي نشرت بها الحركتان أفكارهما، لا سيما فيما يتعلق بالأحداث العامة والمنشورات؛ وخلال هذه العملية، يتضح أن الحركتين أقامتا حوارا بين الفن والحياة. يمحص الفصل الثالث عن كثب مسائل جمالية، مع التركيز على الشعر وتجميعات الصور (الكولاج) ومونتاج الصور الفوتوغرافية، والرسم، والتصوير، وصنع الأشياء، والأفلام. إن القضايا المتعلقة بمعاداة الفن السائد ووضع كل حركة منهما في سياق النقاشات الجمالية الحداثية مهمة جدا هنا. ويسلط الفصلان الأخيران الضوء على الأبحاث الأخيرة التي أجريتها أنا وغيري بما يتسق مع المنظورات التاريخية الحالية الخاصة بالحركتين، وسوف أفحص التوجهات الدادائية والسريالية نحو مجموعة من الموضوعات الرئيسية، بداية من اللاعقلانية وحتى الغريزة الجنسية، وسينصب تركيزي على جوانبهما السياسية. ويختتم الكتاب ببعض التأملات الخاصة بالحياة الآخرة للحركتين، لا سيما في سياق علاقتهما بالفن الحديث.
كان اهتمامي الرئيس ينصب على طرح الأسئلة الخاصة بالدادائية والسريالية المتوافقة مع انشغالاتنا الثقافية المعاصرة؛ على سبيل المثال: تعتبر الهوية - سواء أكانت العرقية أم الجنسية - مسألة ذات أهمية محورية لكثير منا، وكان الفنانون السرياليون، أمثال المصور الفرنسي كلود كاهون والرسام الكوبي ويفريدو لام، رائدين في تعاطيها، لكن من أجل تقدير قوة اهتمامهم، من الضروري إعادة خلق السياقات التي استجاب هؤلاء الفنانون لها. وبالمثل، بالنظر إلى الشهرة الحالية للسريالية في الثقافة عموما (على سبيل المثال: الانتشار الشاسع لأعمال دالي على الملصقات)، من الآمن الافتراض أن الجوانب الأكثر «ظلمة» اللاواعية لحيواتنا النفسية التي احتفت بها الدادائية والسريالية؛ تعتبر حاليا على نطاق واسع أشياء «إيجابية». ولكن، في الثقافات التي كانت الفاشية فيها قوية في فترة من الفترات، يشكك كثيرون في فضائل الاستسلام للاعقلانية، بينما ذهب النقاد الحداثيون إلى أنه مهما اعتبر أتباع الدادائية والسريالية أنفسهم معادين للبرجوازية، فقد ساعدوا ببساطة في بسط نطاق الخبرة، التي استطاعت الثقافة البرجوازية استيعابها، على منظومة القيم الخاصة بهما. في «ثقافتنا ما بعد الحداثية»، نسارع جميعا بإضفاء طابع جمالي على دوافعنا ونوازعنا الأكثر إظلاما، ويمحص هذا الكتاب الجذور التاريخية لمثل هذه التوجهات، ويوضح السبب في أنها كانت «راديكالية» في فترة من الفترات، كما يوضح السياقات التي كانت فيها كذلك. وخلال هذه العملية، ستثار أسئلة عن دوافعنا الشخصية لا محالة .
إن هذا الضرب من الاستقصاء الذي لا يضفي المثالية على الدادائية والسريالية بضرورة الحال، لكنه يسعى إلى بيان علة كونهما إلى الآن قوتين فاعلتين في ثقافتنا؛ يبدو ملحا تحديدا بالنظر إلى مدى التأثر البالغ للفن المعاصر بهاتين الحركتين. ومن الممكن بيان ذلك بالنظر إلى أي عمل من أعمال سارة لوكاس، واحدة من أبرز الفنانين البريطانيين في تسعينيات القرن العشرين.
تكشف أعمال لوكاس استمرار الرغبة في الإذهال، التي كانت في فترة من الفترات سمة مميزة للدادائية. في الوقت نفسه، تستخدم لوكاس بدائل أو إزاحات للصور الجسمانية التي كانت من قبل عملة للسريالية. تعول أعمالها ضمنا على إنجازات أتباع الدادائية والسريالية أمثال مارسيل دوشامب ومان راي ورينيه ماجريت. ولكن، أتؤكد أعمال لوكاس ببساطة على أن الصدمة المميزة للدادائية أمست راسخة؟ أم إن أعمالها تبنى على هذا التقليد بطريقة مهمة من المنظور الثقافي؟
يبدو لي أن هذا هو نوع الأسئلة الذي يمكن أن يثيره الانخراط المعاصر في تداعيات الدادائية والسريالية. وفي نهاية هذا الكتاب، من المفترض أن نكون قادرين على الإجابة عنها. وعلى الرغم من ذلك، فالمهمة المحورية للفصول التالية هي بيان الخطوط التاريخية والموضوعية الأساسية للدادائية والسريالية.
الفصل الأول
Unknown page
الدادائية والسريالية: نبذة تاريخية
كانت بدايات القرن العشرين فترة تغير عنيف؛ إذ غيرت الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية فهم الناس لعوالمهم على نحو جذري، وحولت اكتشافات فرويد وأينشتاين والابتكارات التكنولوجية لعصر الآلة الوعي البشري بشكل عميق. ومن وجهة نظر ثقافية، سجلت روايات جيمس جويس وأشعار تي إس إليوت - وأقصد تحديدا رواية «عوليس» للأول، وقصيدة «الأرض الخراب» للثاني، اللتين نشرتا عام 1922 - أنماطا «حداثية» جديدة بشكل مميز للشعور والإدراك، تتسم بإحساس واضح بالانقطاع؛ ولذا يرى المنظر مارشال بيرمان أن الإحساس المتزامن بالبهجة والكارثة الوشيكة، الذي يعكس الظروف المضطربة للحياة آنذاك، هو المحدد للوعي الحداثي.
تعكس الحركات الفنية في أوائل القرن العشرين بقوة هذه العقلية الجديدة. وإذ كانت حركات مثل التكعيبية والمستقبلية - اللتين بلغتا ذروتهما خلال الفترة ما بين عامي 1910 و1913 - مبتكرة بجرأة نادرة من الناحية الفنية ، فقد انتقلت إلى ما وراء المظهر الساكن للرسم التقليدي، وصولا إلى استكشاف بنية الوعي نفسها. ولكن، يشاع أننا يجب أن ننظر إلى الدادائية والسريالية بحثا عن الاستكشافات الأكثر أثرا للنفس الحداثية، لا سيما أن الحركتين شددتا بقوة على الاستقصاء العقلي. لقد رأت الدادائية نفسها تحديدا معنية بإعادة تمثيل الاضطراب النفسي الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بينما يمكن النظر إلى اللاعقلانية التي تحتفي بها السريالية كقبول تام للقوى الفاعلة وراء كواليس الحضارة. يوجز هذا الفصل السجلات التاريخية المتضاربة لكلتا الحركتين، ولكن لنطرح السؤال التالي أولا: ما التوجه الذي يربط بينهما وبين الحركات الفنية الأخرى التي ظهرت في أوائل القرن العشرين؟
الطليعية
كانت الدادائية والسريالية حركتين فنيتين «طليعيتين» بالأساس، وكان لاصطلاح «الطليعية» - الذي وظفه أول مرة الاشتراكي الفرنسي اليوتوبي هنري دي سان سيمون في عشرينيات القرن التاسع عشر - دلالات عسكرية، لكنه ما لبث أن دلل على الوضع الاجتماعي-السياسي وكذلك الجمالي الذي ينبغي أن يصبو إليه الفنان الحداثي. بصفة عامة، كان الفن في القرن التاسع عشر مرادفا للفردية البرجوازية، وإذ كانت الطبقة البرجوازية تملكه، أو كان يعرض في مؤسسات برجوازية؛ كان الفن وسيلة يستطيع بها المنتمون إلى تلك الطبقة الفرار مؤقتا من القيود والتناقضات المادية للحياة اليومية. لكن في خمسينيات القرن التاسع عشر تحدت واقعية الرسام الفرنسي جوستاف كوربيه هذا الوضع؛ ويقال إن جوستاف كوربيه بمزجه بين الأجندة الاشتراكية والعقيدة الجمالية المضاهية لها يمثل أول اتجاه طليعي واع لذاته في الفن. بحلول بداية القرن العشرين، التزم العديد من الحركات الفنية الرئيسية - كالمستقبلية في إيطاليا، والبنائية في روسيا، أو الفن التشكيلي الجديد (دي ستايل) في هولندا، علاوة على الدادائية والسريالية - بالطعن في أي فصل بين الفن والتجربة العارضة للعالم الحداثي؛ وكانت الأسباب التي دعتها إلى ذلك سياسية من عدة أوجه؛ على سبيل المثال: كان البنائيون يستجيبون مباشرة للثورة البلشفية في روسيا، لكنهم نزعوا إلى التشارك في الاعتقاد بأن الفن الحديث بحاجة إلى إقامة علاقة جديدة بجمهوره؛ بحيث ينتج أشكالا جديدة راسخة لموازاة التحولات في التجربة الاجتماعية. بالنسبة إلى المنظر الثقافي بيتر بيرجر، فقد كتب في سبعينيات القرن العشرين أن مهمة الطليعية الأوروبية في أوائل القرن العشرين كانت تتمحور في مجملها حول تقويض فكرة «استقلالية» الفن (الفن لأجل الفن)، لصالح إدراج جديد للفن فيما يطلق عليه اسم «التطبيق العملي للحياة».
وبهذا تشترك الدادائية والسريالية في المعتنق الطليعي المحدد القائل بأن الراديكالية الاجتماعية والسياسية ينبغي أن ترتبط بالابتكار الفني. كانت مهمة الفنان أن يتجاوز المتعة الجمالية ويؤثر على حياة الناس، وأن يحملهم على رؤية وتجربة الأشياء بشكل مختلف؛ إن غاية السريالية مثلا لم تكن تقل عن دعوة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو ل «تغيير الحياة».
وكما ذكرنا آنفا، مثل الفن الحديث في أوائل القرن العشرين - التشظي التصويري لتكعيبية بيكاسو وبراك على سبيل المثال - خروجا مذهلا على التقاليد الفنية التقليدية. والطريقة الفنية-التاريخية القياسية لفهم هذا الخروج تنحصر في رؤيته على اعتبار أنه يمثل إرث فناني المدرسة «الفرنسية» في أواخر القرن التاسع عشر، أمثال جوجان وسورا وفان جوخ وسيزان، كما يمثل تحولا عاما في الوعي تأثر بالرمزية الأوروبية في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته. في رسوم سيزان وجوجان مثلا نجد أن الفضاء منبسط والألوان مشوهة، في خروج جذري عن المذهب الطبيعي؛ ولقد مهدت تلك الظروف الطريق أمام التخلي عن التقاليد التصويرية المنتمية لعصر النهضة، كالمنظور الخطي المتجلي في لوحة بيكاسو «آنسات أفينيون» التكعيبية النموذجية عام 1907، التي تمثل منعطفا في تاريخ الفن. في الوقت نفسه، جربت التعبيرية الألمانية والوحشية الفرنسية الاستخدامات المعبرة وغير الطبيعية للألوان بدرجة أكبر.
لا شك أن الدادائية والسريالية كانتا مدينتين بلغتهما التصويرية للحركات التكعيبية والتعبيرية، وكذلك المستقبلية؛ فالكولاج التكعيبي، على سبيل المثال، أفضى مباشرة إلى ابتكار أتباع الدادائية «تجميع الصور». لكن أتباع الدادائية والسريالية كانوا سيضيقون كثيرا بالفكرة الضمنية في الكثير من الأعمال التكعيبية، القائلة بأن الابتكار الرسمي وحده يوفر أساسا منطقيا للفن. فبقدر ما كان الفن التكعيبي يهدف إلى أن يصدم المشاهد أو يربكه فيعيد النظر في علاقاته بالواقع، كان فنا «مستقلا » في نهاية المطاف؛ أي فنا لأجل الفن. بالنسبة إلى الدادائية والسريالية، كان الفن يتعلق بما هو أكبر من ذلك بكثير. وشأنهما شأن غيرهما من الحركات الفنية بالقرن العشرين، كالمستقبلية التي عكست العالم المتسارع الوتيرة المتعدد الحواس الذي كان الناس يعيشونه في العقد الأول من القرن العشرين؛ كانت الدادائية والسريالية ملتزمتين باستكشاف التجربة نفسها.
كان الالتزام بالتجربة المعيشة يعني أن الدادائية والسريالية تحملان رأيا متضاربا بخصوص فكرة الفن باعتباره شيئا مقدسا أو منفصلا عن الحياة؛ وهذه نقطة محورية، وهي السبب في أنه من غير الملائم التعامل مع الدادائية والسريالية باعتبارهما «منهجين» أسلوبيين مميزين في تاريخ الفن. في الواقع، كان هناك تشابه أسلوبي محدود نسبيا بين الفنانين المنتسبين لهاتين الحركتين، وكان الأدب مهما بالنسبة إليهم أهمية الفن البصري. من الأدق أن نصف هاتين الحركتين بأنهما توجهان مشكلان للحياة مدفوعان بالأفكار، بدلا من كونهما مدرستين للرسم أو النحت؛ فأي شكل - بداية من النصوص، ومرورا بالأعمال الفنية «الجاهزة» وحتى الصور الفوتوغرافية - يجوز استخدامه لتجسيد الأفكار الدادائية والسريالية. في الدادائية، يترجم الشك الأساسي في ضيق أفق الفن كثيرا إلى عداء صريح تجاه قيمه ومؤسساته؛ ولذا ينبغي علينا عند هذه النقطة أن نطرح التعميمات جانبا، ونفحص الخطوط العريضة التاريخية الكلية للدادائية، ومن ذلك الفحص سينشأ بعد ذلك النقاش الخاص بالسريالية.
أصول الدادائية: زيوريخ ونيويورك
Unknown page
تتمحور «أسطورة أصول» الدادائية حول رجل واحد، ألا وهو الشاعر والمنظر هوجو بال، والملهى الليلي المعروف باسم «كباريه فولتير»، الذي افتتح في شبيجل جلاسيه بزيوريخ في فبراير 1916.
شكل 1-1: مارسيل يانكو، «كباريه فولتير»، زيت على قماش، (صورة فوتوغرافية لعمل مفقود)، 1916.
صمم الملهى الليلي بداية اقتداء بنماذج مبدئية في المدن التي عاش فيها الرحالة بال من قبل، وتحديدا مدينتي ميونيخ وبرلين. وشأنه شأن الملاهي الليلية هناك، قدم كباريه فولتير برنامجا متنوعا من الفقرات التي تتراوح ما بين إنشاد الأغاني الشعبية وإلقاء الشعر بالأسلوب التعبيري السائد، ومن بين معارف بال الأوائل بالملهى الليلي - وكانوا جميعا وافدين مثله - صديقته إيمي هنينجز التي كانت تؤدي فقرة في الملهى ، والرومانيان الشاعر تريستان تزارا والفنان مارسيل يانكو، والشاعر والفنان الألزاسي هانز/جان آرب (ويعكس اسمه جنسيته الفرنسية/الألمانية المزدوجة)، وشريكة آرب، مصممة الأزياء السويدية المولد والراقصة صوفي تاوبر، وسرعان ما انضم إليهم الشاعر الألماني ريتشارد هيولسنبك، ومن بعده انضم إليهم آخرون أمثال الكاتب الألماني فالتر سيرنر وصانعي الأفلام التجريبيين هانز ريشتر من ألمانيا وفايكنج إيجلينج من السويد.
وعلى الرغم من أن العروض التي قدمتها المجموعة في كباريه فولتير كانت في بداية الأمر تقليدية إلى حد كبير، فإنه سرعان ما تحولت إلى عروض استفزازية. استرجع تزارا عرضا سيئ السمعة تحديدا قدموه في يوليو 1916 قائلا:
في حضور عدد محدود من المشاهدين ... طلبنا أن نعطى الحق بأن نبول بعدة ألوان مختلفة ... صرخ بويم - صراخ وعراك في القاعة، ووافق الصف الأول على منح الحق، وأعلن الصف الثاني عجزه، وصاح البقية الباقية: من الأقوى؟ وجيء بالطبلة الكبيرة، هيولسنبك في مواجهة 200.
إلى حد ما، جاءت تلك الإجراءات الصدامية في أعقاب سلسلة من العروض التي قدمها في إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية أتباع المستقبلية الإيطاليون، في الفترة بين عامي 1909 و1913. وعلى الرغم من أن معرفتهم بالمستقبلية كانت جزئية، فإن مقدمي عروض كباريه فولتير أمثال بال وهيولسنبك كانوا على دراية بالأشعار التجريبية لقائد تلك الحركة مارينيتي، أو «الشعر الحر»، وباستخدام المؤدين المستقبليين الصدامي لسيل متنافر أو «وحشي» من الضوضاء. طور بال شكلا من الشعر «الصوتي» زاحمت فيه كلمات مختلقة أجزاء لغوية بدائية؛ فقصيدته التي سماها «كاراوان» (القافلة) عام 1916، والتي يبدو أنها تحاكي الأصوات الصاخبة والحركات الوئيدة لقطيع من الأفيال، تبدأ بالبيت التالي:
Jolifanto bambla ô falli bambla.
تضافرت جهود شعراء ومؤدين آخرين تابعين للدادائية بغية إلقاء «أشعار متزامنة»؛ إما تقرأ نصوصها بصوت عال، وإما تنشد بشكل متزامن. إلى حد ما، كانت مثل هذه الأساليب استقراءات من نماذج أولية مستقبلية. ولكن، كان الشعر الصوتي الدادائي عادة أكثر «تجريدا» بشكل واضح من سوابقه الإيطالية، ولم يكن لدى أتباع الدادائية أنفسهم سوى القليل من إيمان المستقبليين بالتقدم التكنولوجي، ولم يكن لديهم أي من حماس المستقبليين المؤيد للأعمال العسكرية.
استعارت العروض الدادائية أيضا عناصر من التعبيرية، وتحديدا الأسلوب الذي ساد في الفن الألماني حتى تلك الفترة، وهو نفسه الأسلوب الذي بادر المشاركون الألمان المولد في كباريه فولتير تدريجيا بالانحراف عنه. كانت هناك طائفة مناصرة للفن الأفريقي في أوساط التعبيريين، وكانت هناك طائفة مماثلة في أوساط التكعيبيين الفرنسيين والمؤدين في كباريه فولتير، ممن يشاركون بين الحين والآخر في «رقصات للسود». ويمكن العثور على خلفيات بدائية في قرع الطبول المتواصل، الذي شاع أن هيولسنبك كان يزعج به الجمهور بالملهى الليلي.
كانت الأنشطة الفنية بكباريه فولتير متنوعة؛ فقد تجاوزت الإلقاء الشعري والرقص، وامتدت إلى رسوم الكولاج الهندسية المبسطة بشكل جذري لهانز آرب، التي عادة ما كانت تتخلل العروض؛ ويدلل ذلك على المساواة التي منحها الدادائيون للإنتاج البصري والأدبي، وهو التوجه الذي كان في جوهره إرثا من الحركات الثقافية بالقرن التاسع عشر مثل الرومانسية والرمزية، وكذلك المستقبلية والتعبيرية. لكن عدم التزام المجموعة بأي حس فني محدد، وروح تابعيها الصدامية، تحددا في نهاية المطاف بالوقائع الاجتماعية والسياسية أكثر من أي شيء آخر. كان سبب وجودهم نفسه في زيوريخ موقفها الحيادي في الفترة التي كانت فيها أوطانهم منخرطة في معترك الحرب العالمية الأولى. وهناك طريقة مهمة ساوى بها أتباع الدادائية في زيوريخ بين الحرب التي كانت رحاها تدور في مكان آخر، وبين قناعة مفادها أن القيم المرتبطة بفن ما قبل الحرب كانت إلى حد كبير قيما فاسدة. إذا كان الرسم بالزيت والنحت بصب النحاس مرادفين لبيوت أبهاء الطبقة الأرستقراطية من الداخل، فسيجمع أتباع الدادائية بنى جديدة من قصاصات ورقية أو أغراض موجودة سلفا. وإذا كان الشعر مرادفا للوعي المصقول، فسيلوون ذراعه ويفككونه ويعيدون توجيهه إلى شكل من أشكال الثرثرة والتعاويذ. لقد كانوا كمجموعة متحدين في كرههم إضفاء الصبغة الاحترافية على الفن، فكانوا ينظرون لأنفسهم باعتبارهم مخربين ثقافيين، لكنهم لم يكونوا يرفضون الفن بحد ذاته بالضرورة، بل يرفضون الطريقة التي خدم بها الفن تصورا بعينه للطبيعة البشرية. في كتابات آرب، كان يساوي تحديدا بين الفن قبل الحرب والغرور والتقييم المبالغ فيه بشدة للبشرية، وكتب آرب لاحقا معبرا عن مشاعر دادائية شائعة:
Unknown page
لما شعرنا بالاشمئزاز من وحشية الحرب العالمية التي اندلعت عام 1914، كرسنا أنفسنا في زيوريخ للفنون. وبينما كانت أصوات المدافع تدوي بعيدة، طفقنا ننشد ونرسم ونصنع لوحات من الكولاج ونكتب الشعر بكل ما أوتينا من قوة؛ كنا نبحث عن فن يستند إلى الأسس لنداوي به جنون هذا العصر، كنا نبحث عن نظام جديد للأشياء من شأنه أن يعيد لنا التوازن ما بين الجنة والنار.
من المثير أن ثمة ملاحظة بناءة جوهرية أعرب عنها آرب في حديثه عن الدور الشافي للفن، وعن «النظام الجديد للأشياء» هنا؛ فغيره من أتباع الدادائية كانوا أكثر سلبية بمراحل؛ حيث إنهم سعوا إلى هدم الفن كمبدأ من الأساس. كان لدى آرب نفسه إحساس مسيحي تقريبا بأنه يمكن إعادة ابتكار الفن من جديد. ولكن، ماذا يمكن أن يمثل مجيء الدادائية؟ بالالتفات إلى أصول كلمة «دادا» - وهي أصول مربكة جدا؛ حيث زعم الكثير من أعضاء الحركة أنهم اكتشفوها في ظروف مختلفة - يبدو أن قابلية الكلمة المحضة للتوسع جذبتهم إليها. سجل هوجو بال في مذكراته عن سنوات الدادائية المعنونة «الفرار من الزمن» - التي تعد حاليا أحد أبرز مصادر المعرفة عن حركة زيوريخ - أنه بعد أشهر قليلة من الأنشطة في كباريه فولتير، بدأت المجموعة ترى أن ثمة حاجة ماسة إلى إصدار منشور جمعي، ومن ثم دعت الحاجة إلى شكل من أشكال العلامات المميزة:
لا ينفك تزارا يعرب عن قلقه بشأن النشرة الدورية. قبل اقتراحي بتسميتها «دادا» ... والكلمة تعني بالرومانية «نعم، نعم»، وبالفرنسية «الحصان الخشبي الهزاز». وبالنسبة إلى الألمان، تعتبر الكلمة علامة على السذاجة الشديدة ومتعة التناسل، والانشغال بعربة الأطفال.
في المقابل، تذكر هيولسنبك أنه اكتشف الكلمة بينما كان هو وبال يتصفحان قاموسا، ووجد نفسه يعلن أن «أول صوت يصدر عن الطفل يعبر عن البدائية، والبداية من الصفر، وكل ما هو جديد في فننا.» المهم هنا أن بال يشدد على الشيوع العالمي للمبدأ؛ حيث يراه ضربا من اللغات الثقافية العالمية، بينما يشدد هيولسنبك على أفكار الهدم والتجديد. كان التوجهان مكونين أساسيين للدادائية. وبخلاف ذلك، نجد أن الكلمة تمثل - بشكل يشي بالمفارقة - كل شيء ولا شيء في آن واحد؛ لقد ارتقت إلى مزيج عبثي من التأكيد والنفي، وضرب من الصوفية الزائفة. كان الفن عقيدة ميتة، وولدت الدادائية.
ولكن، من الأمور المعقدة هنا أن الدادائية ولدت في مكان آخر في الوقت نفسه؛ ففي عام 1915، بلغ وافدان فرنسيان - مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا - مكانة شبيهة على مسافة أكبر بعض الشيء من الحرب الأوروبية، وتحديدا في نيويورك. كان الفنانان بارزين في الدوائر الفنية الفرنسية قبل الحرب، لكنهما انجذبا إلى أمريكا؛ إذ أحسا أنها ستكون أكثر تقبلا للأفكار الجديدة. لم تلق لوحة دوشامب «عارية تهبط الدرج رقم 2» المتأثرة بالتكعيبية نجاحا كبيرا لدى طليعية باريس، لكنها نقلت إلى نيويورك وحققت نجاحا مدويا بمعرض الأسلحة عام 1913. بحلول عام 1915، كان دوشامب قد صاغ ما وصفه بأنه موقف معاد للبصر فيما يتعلق بالابتكارات البصرية التي استحدثها في الفن الفرنسي ماتيس من ناحية، والتكعيبية من ناحية أخرى. وقد لازمت كراهية دوشامب للفن الذي يستميل العين وحدها دون العقل، سخرية من الآثار التي تركها عصر الآلة على النفس البشرية. ظل الخطاب الإنساني يدعم أفكار الروح والحب الرومانسي، ولكن بعد أن رأى دوشامب وبيكابيا في هذا التوجه خداعا للذات في مواجهة الميكنة المتزايدة للمجتمع، بدآ حوالي عامي 1915 و1916 في ابتكار لغة ساخرة من مزيج من الأصوات الآلية/البشرية، وتجلت أكثر من أي شيء آخر في لوحة دوشامب على الزجاج المسماة «عروس جردها خطابها من ثيابها» (أو «الزجاجة الكبيرة»)، وهو العمل الذي هجر باعتباره «غير مكتمل بشكل حاسم» عام 1923.
إن نفور دوشامب من ارتباط «الصنعة» بالفن البصري، وإيمانه الملازم بأن الأفكار ينبغي أن تحل محل المهارة اليدوية باعتبارها المكونات الأساسية للأعمال الفنية؛ هما اللذان أفضيا إلى اختياره عناصر «جاهزة» باعتبارها أغراضا فنية بداية من عام 1913 فصاعدا؛ ومن أشهر أغراضه السيئة السمعة تلك المبولة التي سلمها - ووقع عليها مازحا باسم «آر مات »، وأطلق عليها اسم «النافورة» - لمعرض جمعية الفنانين المستقلين بنيويورك في أبريل 1917.
شكل 1-2: مارسيل دوشامب، «النافورة»، عمل فني جاهز، تصوير ألفريد شتيجليتس كما ظهرت في دورية «الأعمى»، العدد الثاني (مارس، 1917).
وإن رفض هذا العمل من قبل لجنة اختيار اللوحات الفنية بحد ذاته، على الرغم من السياسة التي تفيد بأن سداد العضو لرسومه يضمن له حقوق العرض؛ قد أمسى بيانا للدادائية.
في هذه المرحلة، بدا أن هناك معرفة ما بأنشطة الدادائية من جانب دوشامب وبيكابيا، لكن العلامة نفسها لم تستخدم إلا بالكاد في نيويورك حتى أوائل عشرينيات القرن العشرين؛ ولهذا السبب نجد أن أنشطة دوشامب وبيكابيا خلال الفترة بين عامي 1915 و1917 تصنف عادة تحت اسم «الدادائية البدائية». لا شك أن ثمة شبكة طليعية كبيرة سرعان ما تطورت وأحاطت بالأوروبيين، وتضمنت أعضاء من «دائرة شتيجليتس» المزعومة، كانوا شركاء للمصور الأمريكي ألفريد شتيجليتس المؤيد المهم للفن الطليعي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال معرضه 291 في نيويورك، وأعضاء من «دائرة أرنسبرج» التي سميت تيمنا بجامعي القطع الفنية الثريين وولتر ولويز أرنسبرج اللذين تعهدا دوشامب بالرعاية. وعلى الرغم من ذلك، كانت الشخصيات الرئيسية هي المصور الأمريكي مان راي، الذي شارك دوشامب في عدد من المشروعات اللاحقة، وآخرين قدر لهما أن يصبحا جالبي الحظ للدادائية نظرا لغرابتهما الفطرية؛ وهما: آرثر كرافان المتقلب المزاج، والكاتبة الألمانية المنشأ البارونة إلسا فون فريتاج-لورينجهوفن.
الدادائية الألمانية
Unknown page
في عام 1918، امتدت الدادائية إلى برلين نتيجة للحماس الجدلي لريتشارد هيولسنبك الذي وصل إلى برلين من زيوريخ العام المنصرم. في برلين، فت في عضد صحة توجهات الفن لأجل الفن بشكل واضح، الوقائع الاجتماعية الصارخة التي تمكنت من المدينة. كانت ألمانيا في تلك المرحلة قد خسرت الحرب، وكانت تشهد انهيارا اقتصاديا نتيجة للتعويضات التي طالبت بها فرنسا وبلجيكا. وعلاوة على اختلال توازناتها الاقتصادية، كانت ألمانيا تتأرجح على شفير ثورة اجتماعية في أعقاب الثورة البلشفية في روسيا عام 1917. واجهت الحكومة الاشتراكية المحافظة نسبيا معارضة قوية من الشيوعيين، وخاصة مجموعة سبارتاكوس، واستجابت بعمليات قمع وحشية؛ وليس من العجب إذن أن أتباع الدادائية في برلين تم تسييسهم بقدر كبير. وعلى الرغم من أنهم اجتمعوا جميعا تحت اسم «نادي الدادائية»، فإنهم انقسموا إلى مجموعتين من الأصدقاء. كانت واحدة من المجموعتين - تضمنت فالتر ميرنج وفيلاند وهيلموت (عرف لاحقا باسم جون) هارتفيلد، وجورج جروز - تتألف من المتعاطفين مع الشيوعية (وكان آخر ثلاثة ممن سبق ذكرهم أعضاء رسميين بالحزب). أما المجموعة الثانية - وقد تضمنت راءول هاوسمن، وهانا هوخ، ويوهانس بادر - فكانت أكثر نزوعا للاسلطوية (الأناركية).
تجلت مناوأة الفن في برلين في المعارضة الصارخة للاتجاه الجمالي الأساسي في ألمانيا، ألا وهو التعبيرية؛ فلقد تحول النفور الدوشامبي (نسبة إلى دوشامب) من فن الصور الإنسانية والانغماس الحسي ل «الفني البصري» في برلين، إلى تأفف من «الاستبطان» واللمحة التعبيرية المصبوغة بصبغة روحانية. وعلى الرغم من أن فناني برلين أمثال جروتس وهاوسمن عملوا آنفا بأساليب تصويرية متناغمة مع التعبيرية، فإن ريتشارد هيولسنبك قد انتقد الجيل الفني السابق في بيان جوهري عام 1920، مشددا على أنه: «تذرعا بتنفيذ دعاوى للروح، وجد أبناء هذا الجيل، في صراعهم مع المذهب الطبيعي، طريقهم مجددا إلى اللمحات التجريدية والمثيرة للشفقة التي تفترض مسبقا حياة مريحة خالية من المحتوى أو الصراع.» ذهب هيولسنبك، في المقابل، إلى أن ثمة فنا جديدا - ألا وهو فن دادائيي برلين - «سيتصدع بشكل واضح بفعل تفجيرات الأسبوع الماضي ... وسيحاول إلى الأبد أن يجمع شتات نفسه بعد صدمة الأمس.»
ليس من العجب أن مجموعة دادائية برلين رفضت الرسم التقليدي وفضلت عليه الشعر الصوتي لهاوسمن، أو التوزيع الأصلي جدا لتقنيات المونتاج الصوري لهاوسمن وهوخ وجروتس وهارتفيلد. إن الشظايا المفتتة للصور الفوتوغرافية في توليفاتها الصورية المبكرة، التي تصور الآلات بطريقة شبيهة عموما بأتباع الدادائية في نيويورك، مهدت الطريق في نهاية المطاف للسطوح السلسة ظاهريا التي تخصص فيها جون هارتفيلد. استغلت التوليفات الصورية البارعة تقنيات سريالية أساسا من التجاور لأغراض ساخرة بشكل وحشي. بعد زوال دادائية برلين مباشرة في أعقاب ظهورها العام في «معرض الدادائية» ببرلين، الذي أقيم في يونيو 1920، أمسى هارتفيلد معلقا قاسيا على صعود نجم النازية في ألمانيا، وظهرت توليفاته الصورية بانتظام على أغلفة الدوريات الشيوعية مثل صحيفة العمال المصورة.
في أماكن أخرى بألمانيا، كان هناك المزيد من مراكز الدادائية؛ فكانت مدينة هانوفر - الأكثر تحفظا ورصانة بشدة من برلين - موطنا لكورت شفيترز. كان شفيترز صديقا لفناني برلين أمثال هاوسمن وهوخ، لكنه رفض عضوية «نادي الدادائية» التي قدمها له هيولسنبك نظرا لافتقاره للالتزامات السياسية، وسلوكه «البرجوازي» المفترض، وشق شفيترز طريقه المميز بنفسه؛ حيث كان رائدا لشكل من أشكال الكولاج أعيد فيه ضمنا تقييم بقايا المناطق الحضرية (كتذاكر الحافلات المهملة، وأغلفة الحلويات ... إلخ) بواسطة حشدها في بنى بصرية تجريدية. تبنى شفيترز التسمية (ميرتس)
Mertz
المأخوذة من كلمة
Commerzbank (بمعنى «البنك التجاري») في واحدة من تجميعاته الصورية لوصف أنشطته وتمييزها، تلك الأنشطة التي توسعت بحلول منتصف عشرينيات القرن العشرين، وصولا إلى خلق تجميعة مبدئية ضخمة تعرف باسم
Merzbau
طورت أساسا في العديد من غرف بيته. في أوائل عشرينيات القرن العشرين، أقام شفيترز علاقات وطيدة بفنانين منخرطين في الحركة البنائية الدولية؛ حيث نفذت مبادئ التجريد الهندسي الخاصة بها إلى ألمانيا وهولندا. وشارك المؤسس المشارك لحركة ستيل الهولندية؛ ثيو فان دويسبورج، بشكل غير مباشر إلى حد ما في الدادائية خلال تلك الفترة تحت الاسم المستعار «آي كيه بونسيت»، وحضر هو وشفيترز وآرب وريشتر وهاوسمن وتزارا «مؤتمر الدادائية-البنائية» في فايمار في سبتمبر 1922؛ حيث أقاموا علاقات مع أتباع بارزين للبنائية في ألمانيا أمثال لازلو موهولي-ناجي وإل ليسيتزكي. وعلى مدار سنوات قليلة، تآزر أعضاء كل جماعة فيما بينهم من ناحية، وبينهم وبين غيرهم من أعضاء الجماعات الأخرى بشكل متفرق. بصورة ما، تقع تلك الحقبة خارج طقوس الدادائية، على الأقل بقدر ما كانت الدادائية معارضة للتجريب الجمالي المحض؛ لكن آرب وشفيترز، في ظل اهتماماتهما التجريدية، كانا استثناءين لهذه القاعدة، وتضمن خطاب دادائية زيوريخ على أي حال دعوات ل «نظام جديد».
مثلت كولونيا، المدينة الأقل اضطرابا من برلين، التي وقعت تحت الاحتلال البريطاني بعد الحرب مباشرة؛ البيئة المثالية لشعبة جديدة من الدادائية خلال فترة ما بين عامي 1918 و1920. هنا كان أبرز رجالات الدادائية ماكس إرنست ويوهانس بارجلد، وهو الاسم المستعار الذي تبناه ألفريد جرونيفالد، وتعني كنيته «حقائب المال»، في إشارة غير مباشرة إلى المصرفي والد جرونيفالد. وامتدت عضوية دادائية كولونيا إلى مجموعة مسيسة بقدر أكبر، من بينهم فرانس سايفيرت وهاينريتش وأنجيليكا هويرل، لكن هذه المجموعة تجمعت في واقع الأمر حول حدث وحيد فحسب، ألا وهو «معرض دادائية كولونيا» اللاسلطوي المقام في أبريل 1920 (انظر الفصل الثاني). وخلاف ذلك، نجد أن التجميعات الصورية اللاسياسية في جوهرها ولكن العبثية جدا لإرنست، والمتسمة بتصادمات مذهلة للصور، مهدت الطريق لتشكل الدادائية. وكما هو الحال بالنسبة إلى أعمال دوشامب وبيكابيا في أماكن أخرى، يمكن العثور على إدانة وحشية للفنون السابقة في إعادة صياغات إرنست للأيقونات الدينية التقليدية.
Unknown page
الدادائية الفرنسية
كانت كولونيا تقع من الناحية الثقافية بين ألمانيا وفرنسا، ومن ثم مال إرنست إلى التطلع إلى باريس بدرجة أكبر بكثير من غيره من الدادائيين الألمان، وفي نهاية المطاف، انتقل إلى باريس عام 1922. إن الدادائية في باريس مسألة معقدة من حيث روادها المتحولون وانتماءاتهم المتبدلة. ولدت الدادائية الفرنسية في أوائل عام 1919 مع وصول بيكابيا، سفير العدمية لدى الدادائية الذي نصب نفسه في هذا المنصب، وكان قد أمضى لتوه فترة في سويسرا، ظهر خلالها في زيوريخ حيث مثل بالنسبة إلى مؤرخ الدادائية هانس ريشتر «تجربة احتضار». كانت دادائية زيوريخ في مرحلتها الأخيرة عدمية على أي حال؛ حيث ألقى فالتر سيرنر على أسماع الناس «بيانا محررا أخيرا» كئيبا أثناء المسيرة العامة الأخيرة للحركة في أبريل 1919. وفي باريس، استضاف بيكابيا دوشامب الذي كان في زيارة جديدة لبلده الأم، وسرعان ما لاقت شخصية دوشامب الغامضة - والمتجلية في لمحات مثل العمل الفني المتمرد
LHOOQ ، الذي يتكون من تلك الأحرف (وتعني في الفرنسية «إنها تتمتع بمؤخرة رائعة» عندما تقرأ بصوت عال)، المكتوبة أسفل نسخة للوحة الموناليزا ذات شارب ولحية مرسومين بقلم رصاص - إعجاب مجموعة من الشعراء الباريسيين المجتمعين حول دورية «الأدب». وكان «قائد» تلك المجموعة باقتدار أندريه بريتون، وأبرز أعضائها : لويس أراجون، وثيودور فرانكل، وبول إيلوار، وفيليب سوبو.
كان بريتون ذو الشخصية الجذابة يتأثر بشدة بالآخرين، وكان الشاعر الفرنسي جيوم أبولينير - شريك بيكاسو والمؤيد الشديد للتكعيبية، الذي توفي عام 1918 - مهما لبريتون بشكل محوري؛ فمن أوجه عدة، قدر لبريتون أن يرث دور أبولينير كمحفز طليعي. وثمة أثر آخر كان يتمثل في صديق بريتون، ويدعى جاك فاشيه؛ وكان شخصا متأنقا أفضى به حسه الفكاهي اللاذع (حتى إنه أطلق على نفسه اسم «الفكاهي») وإحساسه بالعبثية، إلى الانتحار بجرعة أفيون زائدة بعد توقيع الهدنة عام 1919. في ظل تلك السوابق في ذهنه، علاوة على دوشامب، قام بريتون بابتكار نسخته الذهنية الخاصة من الدادائية.
في أوائل عام 1919، درس بريتون نموذج تريستان تزارا الذي ظهر بيانه القوي عام 1918 في الطبعة الثالثة من مجلة «الدادائية» التي نشرتها مجموعة زيوريخ. «إن مبدأ «حب جارك» محض نفاق، و«اعرف نفسك» مبدأ مثالي، لكنه مقبول بقدر أكبر؛ لأنه ينطوي على شيء من الدهاء. لا للشفقة. بعد المذبحة، لا يبقى لدينا سوى الأمل في إنسانية مطهرة.» هكذا كتب تزارا متحولا من خطاب العدمية إلى خطاب الفداء بأسلوب زيوريخ المألوف. وصل تزارا نفسه إلى باريس في يناير 1920، ولكن على مدار العامين التاليين، تولى بريتون - الذي أدى به نزوعه إلى البحث عن انسجام النظرة الاستشرافية إلى الاغتراب عن بيكابيا اللاسلطوي وكذلك عن تزارا - ريادة الطليعية في نهاية المطاف.
كانت الدادائية الباريسية سلبية صراحة في نبرتها، وعلى الرغم من أنها كانت معارضة للحكومة اليمينية التي تولت مقاليد الأمور في فرنسا إثر الحرب، فإنه نادرا ما كانت سياسية علنا كالدادائية في برلين، كما كانت بعيدة جدا عن الروح البنائية البدائية التي اتسمت بها المرحلة الأولى للدادائية في زيوريخ. وكانت تجلياتها الأساسية سلسلة من الاستفزازات العلنية التي قرأ بيكابيا واحدة منها على الملأ في مارس 1920، في بيانه المسمى «البيان الوحشي»:
ما الذي تفعلونه هنا، وأنتم جالسون على مؤخراتكم كمجموعة من الحمقى؟ ... ... أنتم أيها الجادون، تفوح منكم رائحة أسوأ من رائحة روث الأبقار .
أما بالنسبة إلى الدادائية، فلا تفوح منها أي رائحة؛ فهي لا شيء، لا شيء، لا شيء.
إنها مثل آمالكم: لا شيء.
مثل فردوسكم: لا شيء ...
Unknown page
مثل ساستكم: لا شيء ...
مثل فنانيكم: لا شيء ...
أساسا، شنت الدادائية الباريسية، شأنها شأن تجليات الدادائية في أي مكان آخر، حربا على الخطاب الفني المهترئ. وفي الحدث نفسه، قدم بيكابيا لوحة من القماش تحوي دمية على شكل قرد وتحيط به الكلمات التالية: «صورة لسيزان، صورة لرامبرانت، صورة لرينوار ...»
السريالية: البدايات
بحلول منتصف عام 1922، أمست الدادائية الباريسية، في شكلها النهائي المتجسد بالكامل، موصومة بسلبيتها الشخصية، ومن مؤشرات زوالها تنظيم بريتون ل «مؤتمر باريس» الذي أكد ضمنا، في مسعاه إلى تحديد الاتجاه الكلي للنشاط الطليعي، على أن ما كانت الدادائية تسعى لتفاديه بالضبط هو: مجرد حركة فنية في تاريخ الفن. يتجلى هنا ولع بريتون بالسياسة الثقافية؛ فإذ اتهم الدادائية ب «النفي المتغطرس» والميل إلى «الفضيحة من أجل الفضيحة»، فقد استغل الفرصة وأعاد ترتيب أولويات الطليعية؛ وكان الطريق ممهدا أمام السريالية.
وصل ماكس إرنست من كولونيا في نهاية عام 1922؛ حيث كان حلقة الوصل مع أنشطة الدادائية الألمانية، على الرغم من أنه لم يكن حلقة الوصل مع أكثر تلك الأنشطة تسيسا. لعامين كاملين، وتحديدا في الفترة بين عامي 1922 و1924، كانت هناك فجوة نوعا ما بين الدادائية والسريالية، وهي المرحلة التي أطلق عليها أعضاء تلك الحركة «الحركة الغامضة». وخلال تلك الفترة، انخرط بريتون وأراجون وإيلوار، إضافة إلى مستجدين أحدث عهدا بحركة الأدب مثل روبرت ديسنوس ورينيه سريفيل، في مجموعة متنوعة من الأنشطة التجريبية. من أكثر تلك الأنشطة إثارة «جلسات تحضير الأرواح» التي أجابت فيها مجموعة من أعضاء الحركة، وأبرزهم ديسنوس، بشكل غريب الأطوار عن أسئلة طرحت عليهم أثناء انغماسهم في حالات غيبوبة ذاتية التحريض؛ جرى آنذاك بشكل منظم استكشاف الاهتمام بكل ما هو غير عقلاني، الذي تجلى في حد ذاته في الدادائية باعتبارها حركة حرة روحية مناوئة للبرجوازية. بينما كان بريتون يخدم كممرض في صفوف الجيش الفرنسي خلال فترة الحرب ، تعرف على نظريات سيجموند فرويد الخاصة باللاوعي. ترجمت أعمال ذلك المحلل النفسي لأول مرة للفرنسية خلال أوائل عشرينيات القرن العشرين، وسرعان ما استوعب بريتون وأصدقاؤه الفكرة العلمية للاوعي ودمجوها بما يخدم مصالحهم الشعرية؛ حيث قاموا بتطوير تقنيات «الكتابة التلقائية» التي بموجبها - نوعا ما على غرار نموذج فرويد ل «التداعي الحر للمعاني» - أسهبوا في الكتابة السريعة دون وجود أي فكرة سابقة التصور. ولكن، أثبت اجتماع تم بين بريتون وفرويد في فيينا عام 1921 بما لا يدع مجالا للشك، أن فرويد لم يتعاطف كثيرا مع مثل هذه المواءمات الفنية لتقنياته العلاجية.
بحلول عام 1924، رأى بريتون أنه من الملائم أن يوحد تلك النزعات تحت اسم واحد، وبعد فترة ولادة طويلة خرجت السريالية إلى النور بنشر بريتون أول بيان عام للسريالية.
كان أبولينير، المثل الأعلى لبريتون، هو أول من سك كلمة السريالية عام 1917، لكن محاولة أبولينير الغامضة نوعا ما لتمييز روح جديدة متجاوزة للمنطق في الفنون، اتسمت بدقة أكبر في «البيان العام» لبريتون عام 1924؛ حيث وصفت السريالية بأنها «قائمة على الإيمان بالحقيقة الأسمى لارتباطات مهملة مسبقا بعينها، وبالقدرة الكلية للأحلام، وبالتلاعب العقلي بالأشياء بلا مبالاة.» كان البيان العام بالأساس ميثاقا لشاعر؛ فلم تكن فيه عناية بالفنون البصرية في هذه المرحلة، ومنحت الأولوية ل «التلقائية النفسية ... بواسطة الكلمة المكتوبة، أو بأي طريقة أخرى.» وحقيقة أن ممارسة هذا البيان «في غياب أي نوع من رقابة العقل، وبعيدا عن أي هموم جمالية»، أوضحت أن السريالية ورثت واحدا من المبادئ المحورية للدادائية، الأمر الذي يرجع بنا إلى قلب النقاش السابق؛ نقد الفن المستقل الذاتي الإحالة. كانت السريالية شأنها شأن الدادائية مكرسة لمحو الفروق بين مزاعم «الفن» ومزاعم «الحياة»، وإذ وصف بريتون فرويد بالنور الهادي للمشروع السريالي، لم يتكلم بريتون كثيرا عن المنتج الجمالي بقدر ما تحدث عن «الإنسان المستكشف» الذي يجري «تمحيصاته». رأى الناس فيها ثورة جديدة، لا أقل، وأكد أحدهم أنه: «لعل الخيال على وشك أن ... يسترجع حقوقه.»
بدأت السريالية كحركة أدبية، وكان أوائل طلائعها شعراء وكتابا فرنسيين ، أمثال: آرثر رامبو، وإيزيدور دوكاس (الكونت لوتريامون)، وريمون روسيل، وألفريد جاري. وبمرور عشرينيات القرن العشرين، دار تدريجيا الفنانون البصريون، لا سيما الرسامون، في مدار السريالية منجذبين بنموذج «رسم الشعر»، وكان ماكس إرنست رائدا - بأسلوبه الفني الذي تأثر بلا شك بمصادفته نسخا لأعمال الرسام الإيطالي جورجيو دي شيريكو - لما يمكن أن نصفه جوازا ب «الرسم الحالم».
على الرغم من كون الأحلام محورية كموضوع أساسي للفنانين السرياليين، فإن عملية تدوينها بصريا قد كانت تستوجب تمهلا واعيا جدا. وكما أوضح كثير من المعلقين، كانت تلك الفكرة مناقضة لنموذج تجاوز رقابة العقل. إن تدخلات نقدية كهذه، التي تتطلب إعادة تقييم مستمرة للمبادئ، أمست القاعدة المعمول بها إلى حد كبير في السريالية. وحقيقة الأمر أن الهجوم على «الرسم الحالم» حمل الفنانين آندريه ماسون وخوان ميرو على إنتاج معادلات بصرية للعفوية التي لطالما مارسها شعراء الحركة. ومن بين جوانب النقص الأخرى ل «الرسم الحالم» أنه كان بالإمكان استيعابه مرة واحدة، في الوقت الذي تتكشف فيه الأحلام بطبيعة الحال في الوقت المناسب؛ ولذا، كان الطريق ممهدا للأفلام للاستجابة إلى المتطلبات السريالية، وفي أواخر عشرينيات القرن العشرين، تم إنتاج فيلمين غاية في الأهمية: «كلب أندلسي» و«العصر الذهبي»، وكان الفيلمان ثمرة تعاون بين الإسبانيين اللذين استقطبتهما باريس؛ لويس بونويل وسلفادور دالي.
Unknown page
إن انجذاب دالي نحو السريالية في عام 1929 يثبت كيف نجحت الحركة في استقطاب مواهب جديدة. وفي الوقت نفسه، قدمت شخصيات بارزة بالفعل دعمها بين الحين والآخر؛ فقد سمح بيكاسو بنسخ العديد من الأعمال الحديثة في الدورية السريالية «ثورة السريالية» في منتصف عشرينيات القرن العشرين، دون أن ينضم رسميا للمجموعة قط، وأمست شخصيات بعينها دعامات أساسية للحركة، كالرسامين إرنست وإيف تانجي مثلا. ومن الدعامات الرئيسية للحركة أيضا المصور مان راي الذي أمسى المصور الرسمي إلى حد كبير للسريالية الرسمية، بعد أن كان مساعدا لدوشامب أيام دادائية نيويورك، بينما أنتج في الوقت نفسه «صوره الفوتوغرافية من دون كاميرا» (صورة تنتج من دون كاميرا عن طريق وضع جسم بشكل مباشر على ورق خاص وتعريضه للضوء)، ودراسته للعرايا في الاستوديو. حصل أشخاص آخرون على مباركة بريتون المتفاقم استبداده، بينما سقط آخرون من حساباته، واستبعد كثيرون سريعا لإخفاقهم في الوفاء بتوقعات النقاء المذهبي أو الأيديولوجي. كان العام 1929 حدا فاصلا في هذا الصدد؛ إذ استنكر بريتون علانية في «البيان العام الثاني» للسريالية شخصيات مثل: جورج ريبيمون-دوسينييه، وروبرت ديسنوس، وروجر فيتراك، وآندريه ماسون، وفيليب سوبو، وأنطونين أرتو، والكاتب المتمرس في علم الأعراق ميشيل ليريس؛ في أعقاب اجتماع خاص اتهموا فيه بالإخفاق في الالتزام ببروتوكولات الجماعة.
شكل 1-3: ماكس إرنست، «الرأفة/الثورة ليلا»، زيت على قماش، 1923، معرض تيت، لندن.
والواقع أن ثمة جفوة حدثت لبعض الوقت بين سرياليي «شارع فونتين»، الذين تمت تسميتهم بهذا الاسم تيمنا بالشارع الذي قطن فيه بريتون وعقد اجتماعات المجموعة فيه، وسرياليي «شارع بليمو»، الذين كان من بينهم ماسون وميرو وليريس وغيرهم. ولطالما أبعد ميل المجموعة الثانية لفلسفة نيتشه أفرادها عن بريتون، وعندما شرع جورج باتاي - الإثنوغرافي والكاتب الذي بزغ نجمه كمنافس فكري أساسي لبريتون في أواخر عشرينيات القرن العشرين - في التودد إليهم أساسا من خلال دوريته «وثائق»، أحس بريتون بالحاجة إلى التصرف بحسم، وكان بيانه العام الثاني يهدف في جزء منه إلى تقويض جاذبية جورج باتاي. من وجهة نظر باتاي، تعيب فكر بريتون فرضياته المثالية المسبقة. إن جماليات بريتون، التي كانت متجذرة في الجدلية الهيليجية، ارتدت دوما إلى فكرة الواقع الجديد الذي ينشأ نتيجة لتصادم صورتين متنافرتين، وكان التمثيل المقتبس كثيرا لتلك الظاهرة بالنسبة إلى السرياليين هو تشبيه لوتريامون الممتد «جميلة كفرصة لقاء عارض على طاولة تشريح لآلة حياكة ومظلة.» وفي مقابل مثل هذا الكشف الجمالي، أيد باتاي ما أسماه «مادية أساسية»، الذي بواسطته سعى الفن إلى مواجهة أحط جوانب البشرية أو أكثر تلك الجوانب بهيمية؛ ولذا مال الفنانون، أمثال ماسون، تعاطفا مع باتاي إلى إنتاج صور مجازية يمكن أن تبدو لبريتون مسيئة دون مبرر. وثمة هجوم مباشر بقدر أكبر نشره معسكر باتاي عام 1930 على هيئة منشور تحت عنوان «جثمان »، وقد تعرض بريتون، إذ تم تصويره على أنه مسيح شهيد، لسخرية شديدة من أحكامه الميالة للنقد واغتراره بذاته.
كان «البيان العام الثاني» لبريتون على أي حال بمثابة تحول في الاتجاه الفلسفي للسريالية؛ ففي السابق كان التركيز داخل الحركة ينزع إلى محتويات العقل، أو ما أسماه بريتون «النموذج الباطني»، أما الآن فقد تحول التركيز إلى التفاعل ما بين عالم الباطن والواقع الخارجي في علاقة جدلية. وقد كان لهذا التوجه الجديد تداعياته فيما يختص بالإنتاج البصري؛ فمن عدة طرق، استند صعود نجم دالي بسرعة البرق إلى إحياء «الرسم الحالم»، لكن دالي، الذي لطالما كان يحدد خيارات حياته المهنية على نحو استراتيجي، أحال ركيزة أعماله ببراعة وعبقرية بعيدا عن حلم اليقظة الباطني، وانتقل بها إلى ما وصفه ب «هذيان التفسير» الشبيه بجنون الاضطهاد بالنسبة إلى الواقع الخارجي. وفي الوقت نفسه، ظهرت طائفة حقيقية للغاية السريالية حوالي عام 1930، بقيادة دالي والفنانين السويسريي المولد ألبرتو جياكوميتي وميريت أوبنهايم؛ هناك كان التشديد على عثور الفنان على غرض في العالم الخارجي ينسجم مع المتطلبات اللاواعية، ومن ثم كانت إعادة العلاقات بين الواقع الداخلي والخارجي. وظهرت بالتزامن مع تلك الفرقة طائفة «اللقاء» التي ارتدت إلى الأيام الأولى للسريالية. وإذ يسيح السريالي الهائم على وجهه في باريس التي تكتنفها شبكة خفية من المعاني، فإنه يجعل نفسه متاحا لإملاءات «المصادفة الموضوعية»، وعلى الرغم من أن هذا الانشغال الجديد بالعالم الخارجي كان مخلصا للروح الطليعية الأساسية للسريالية، فإنه تجسد - بقدر أكبر من الحرفية - في السياسة.
السريالية: السياسة والنزعة الدولية
بدأ انشغال السرياليين بالسياسة في عام 1925، عندما عارضوا الحرب الفرنسية الاستعمارية في المغرب، وبحلول عام 1927 أفضت معارضتهم الشديدة ليس لحكومة اليمين الفرنسية فحسب، بل وللرأسمالية عموما؛ إلى انضمامهم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكن ثبت لهم من البداية أنه من الصعب التوفيق بين ميولهم السياسية وغاياتهم الفنية. كيف للروح الجماعية السياسية، حسبما تساءل نقاد النزعة الباطنية أمثال بيار نافيل، أن تنسجم مع الفردية المتطرفة للشعر والفن السرياليين؟ هل ينبغي أن تسبق ثورة العقل الثورة الاجتماعية؟ أم العكس هو الصحيح ؟ بعد عمليات التطهير التي شهدتها جماعة بريتون عام 1929، والتي كانت عينها تستند جزئيا إلى المزاعم النسبية المتعلقة بتضامن الجماعة وفرديتها، أمست تلك الأسئلة تحديدا ملحة. لقد صار السرياليون الآن مجبرين على الاستجابة لمتطلبات نظام ستاليني جديد في روسيا، وتأزمت الأوضاع عام 1932 عندما تخلى لويس أراجون رسميا عن السريالية مفضلا عليها الحزب الشيوعي، وبمرور الوقت في ثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت «الواقعية الاشتراكية» - وهو فن واقعي مقروء للعامة - الفن المعترف به رسميا لدى الشيوعية، وقد أدى التزام بريتون التروتسكي (نسبة إلى ليون تروتسكي) بثورة ثقافية-سياسية، إلى إبعاد السرياليين بشكل حاسم عن التقليد السوفيتي المتشدد.
بالرغم من هذا الاضطراب الأيديولوجي، استقطبت السريالية في الثلاثينيات عددا من الوافدين الجدد؛ كثير منهم كانوا نساء، بداية من الرسامة والكاتبة الإنجليزية ليونورا كارينجتون التي استكشفت أفكارا أسطورية على نطاق واسع، وانتهاء بالكاتبة والمصورة الفرنسية كلود كاهون التي أنتجت صورا ذاتية تتشكك بها في هويتها الجنسية. في سياق الفن السريالي الذكوري، كانت اليد العليا دوما للتعبير عن الرغبة الجنسية التي تم تصويرها عادة بطرق مغايرة للجنس، وشهدت ثلاثينيات القرن العشرين صعود نجم الأعمال المثيرة جنسيا للألماني هانز بيلمر. وثمة طائفة في السريالية التفت حول أعمال الروائي الإباحي الفرنسي ماركيز دو ساد بالقرن الثامن عشر، باعتباره رائدا للحرية، رخصت لخيالات عنيفة ومحرمة أخلاقيا.
شهدت السنوات التالية من الثلاثينيات انتشار السريالية، كمجموعة من المذاهب، في دول أوروبية أخرى وقارات أخرى أيضا. في العشرينيات، اجتذبت السريالية شخصيات بارزة من دول مثل إسبانيا وألمانيا وباريس، وبينما أمسى العالم أكثر اضطرابا من الناحية السياسية في الثلاثينيات - حيث تأثرت عدة دول بدرجات متفاوتة بالاستقطابات السياسية للشيوعية والفاشية - راقت مبادئ الحركة وقيمها لفنانين وكتاب يساريين ومناوئين للفاشية في مجموعة من السياقات الجديدة. من هذا الجانب، عادة ما حققت الحركة في أماكن أخرى قوة سياسية لم تستطع تحقيقها في فرنسا. تألفت المجموعة الفرعية الكبيرة الأولى في بلجيكا عام 1926 بمعرفة الكاتب بول نوج، وشملت فنانين أمثال إيه إل تي ميسينز ، ورينيه ماجريت، ولاحقا بول ديلفو والمصور الفوتوغرافي راءول أوباك، وبحلول منتصف الثلاثينيات، كانت السريالية قد أمسى لها موطئ قدم في شرق أوروبا. وكان الرومانيان فيكتور برونر وجاك هيرولد إضافتين عظيمتين لمجموعة باريس في أوائل الثلاثينيات، لكن الأهم تحديدا في تلك المرحلة كان تشكل مجموعة براغ في عام 1934، وأبرز رجالاتها كاريل تيج، ورسام الكولاج جيندريش ستيرسكي، والرسامان جوزيف سيما وتوين (ماري سيرنونوفا). وكانت علاقات الجماعتين، البلجيكية والتشيكوسلوفاكية، أكثر ودا بحزبيهما الشيوعيين الوطنيين من علاقاتهما بجماعة باريس.
في عام 1936، انعقد «المعرض الدولي للسريالية» المهم في لندن؛ حيث كان نقطة التقاء مجموعة متباينة من المواهب الإنجليزية، أمثال الكاتب ديفيد جاسكوين والرسامين رولاند بنروز وإيلين آجر، والمخرج همفري جينينجز. لقد وفرت المعارض الدولية الكبرى إلى حد كبير الموقع الرمزي للسريالية بحلول تلك الفترة، وكانت العروض الدراماتيكية دوما جانبا مميزا للسريالية (على سبيل المثال: أقيم عرض صغير، ولكنه مذهل، لبعض الأغراض بمعرض باريس لتشارلز راتون عام 1936)، ولكن العام 1938 شهد أقوى عروض السريالية وأكثرها صراحة على الإطلاق في «المعرض الدولي للسريالية»، الذي أقيم في معرض الفنون الجميلة في باريس؛ حيث تم تعليق سقف الغرفة بأكياس فحم محشوة بالصحف.
في العام نفسه، سافر بريتون إلى المكسيك ليوطد علاقاته الأيديولوجية بتروتسكي والرسام الجداري دييجو ريفيرا، وقد أرست تلك الزيارة أسس الوجود السريالي في أمريكا اللاتينية برعاية رموز كالمصور الفوتوغرافي مانويل ألفاريز برافو، والرسامة فريدا كاهلو، اللذين نالا حفاوة عظيمة باعتبارهما سرياليين، ولو أن كثيرا من أعمالهما تناولت التقاليد والمشاغل «المحلية». كان السرياليون دوما نهمين للارتباط ب «آخرين» على المستويين الثقافي والاجتماعي، ورأوا أن أعمالهم موازية لفن الجنون، وغالبا ما وضعوا أعمالهم في مكانة موازية لأغراض كالأقنعة المحيطية، وأحيانا ارتقى ذلك إلى استحواذ تعوزه الحساسية لأنماط للفهم متباينة تمام التباين، ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية والتشرذم الحتمي للنواة الباريسية للجماعة، اضطرت السريالية كظاهرة فرنسية الهوية إلى التأقلم مع معطيات ثقافية قهرية.
Unknown page
في عام 1941، ترك بريتون وفنانون أمثال ماسون وإرنست، فرنسا التي احتلتها ألمانيا عبر مارسيليا، على الرغم من أن بعض حلفائه القدامى مثل إيلوار اختاروا البقاء في باريس. اتضح أن منفى بريتون كان حافزا من عدة أوجه؛ فمن ناحية، أتاحت له زيارته إلى جزيرة مارتينيك، في طريقه إلى الولايات المتحدة، فرصة التعرف إلى حركة «الزنوجة» التي كانت لبناتها تتشكل في المستعمرات الفرنسية، وأتاحت له بشكل أكثر تحديدا أن يلتقي بالشاعر إيمي سيزير؛ ومن ثم، أمست السريالية حقا لغة للمهمشين ثقافيا. ومن ناحية أخرى، كان وجود بريتون في نيويورك من عام 1942 وحتى نهاية الحرب، يعني إرساء أسس استجابة أمريكية للسريالية، على الرغم من حقيقة أن بريتون نفسه ظل فرنسيا بشكل واضح، ورفض أن يتعلم الإنجليزية.
قبل الحرب، انحصر تبني أمريكا للسريالية في أحداث منفصلة، مثل أعمال جوزيف كورنيل الذي أنتج لوحة موحية بشكل شعري في صناديق خشبية مفتوحة من الأمام، بداية من أواخر الثلاثينيات وما بعدها. ومع وجود بريتون والكثير من الرسامين الرواد في الولايات المتحدة، بدأت السريالية الآن تصب في الرسم التجريدي الذي كان سائدا في نيويورك، وبدأ العديد من الرسامين الأكبر سنا في نيويورك، وعلى رأسهم روبرتو ماتا المولود في شيلي وأرشيل جوركي الأرميني المنشأ، في أن يدمجوا عناصر من رسم السرياليين أمثال ميرو وماسون (على غرار استخدام الأشكال العضوية نصف المجردة) والعفوية في أعمالهم؛ وثبت في نهاية المطاف أن تلك التجارب محورية في تطور تنويعة جاكسون بولوك للتعبيرية التجريدية. ساد التجريد، الذي أكده الإيمان السريالي في إملاءات اللاوعي أو البدائي من الأشياء، فترة ما بعد الحرب العالمية مباشرة في الولايات المتحدة، ولكن بحلول الخمسينيات، بدأ الفنانون في إعادة اكتشاف تبعات الدادائية. آنذاك اعتبر دوشامب - الذي انتقل من فرنسا إلى نيويورك بعد بريتون، ولكن كان أثره في بداية الأمر أكثر «سرية» - شخصية بارزة وحاسمة، وبدا أن مفهومه المتعلق بالأغراض «الجاهزة الصنع»، واهتمامه بثقافة العامة، يتماشيان مع الوعي الأمريكي بقدر أكثر انسجاما بكثير، ويمثلان واحدة من نقاط المرجعية للفن الشعبي. وبالنظر إلى أن مفهوم الأغراض الجاهزة كان اختراعا خاصا بالدادائية، من السهل الزعم بأن الدادائية، لا السريالية، هي التي مهدت الطريق للفن فيما بعد عام 1945 في أمريكا.
عاد بريتون إلى فرنسا بعد الحرب، لكن السريالية لم يعد باستطاعتها فرض الهيمنة الفكرية التي كانت تتمتع بها في فترة من الفترات، وبدت الوجودية أكثر اتساقا مع الأزمنة المتغيرة. ويزعم أن السريالية لم تظهر مجددا كأثر ثقافي حتى الستينيات، ومرة أخرى كانت عناية الدادائية بالأعمال الفنية الجاهزة أو بعمليات التجميع، هي التي داعبت خيال أغلب الفنانين الفرنسيين المرموقين في الخمسينيات، أمثال إيف كلاين أو أرمان. لا شك أن السريالية كحركة استمرت حتى بعد وفاة بريتون عام 1966، وخرجت علينا بشكل دوري بطفرات دراماتيكية؛ ففي معرض إيروس الذي عقد في باريس عام 1959 على سبيل المثال، كان سقف النفق، المعروف باسم «مختلى العشاق»، «يتنفس» بفعل أنابيب هواء خفية. لكن الأدوات المميزة للحركة الآن يزعم أنها تكاد تميل إلى «الفن الهابط»، ولا تمت بصلة للمكانة التي كانت تحتلها من قبل. ولكن، من المفارقة أن أثرها أمسى نافذا في العالم ككل. وإذا كانت اتفقت في فترة من الفترات مع الشيوعية، فقد كانت تقنياتها الفنية الخاصة بالتجاور واضطراب التوجه محورية للاستراتيجيات الدعائية للرأسمالية المتأخرة.
الدادائية والسريالية
الغرض من ملخصات الدادائية والسريالية المذكورة أعلاه، هو تقديم «خريطة» للقارئ يمكن الرجوع إليها أثناء قراءته بقية الكتاب، والسرد الوارد هنا يستند إلى فكرة أن الدادائية والسريالية «مقترنتان» نوعا ما. لقد تكرر نموذج الدادائية-السريالية هذا على نحو متوقع في الثقافات الناطقة بالإنجليزية خلال القرن الماضي، وقد استخدم ليكون أساسا للدراسة التاريخية الكبيرة الأولى للحركتين الممثلة في معرض ألفريد بار، تحت عنوان «الفن الخيالي والدادائية والسريالية» بمتحف الفن الحديث، نيويورك، عام 1936. ولاحقا، استرشد بذلك النموذج كتاب مهم ألفه أمين آخر لمتحف الفن الحديث يدعى ويليام روبن بعنوان «فن الدادائية والسريالية» عام 1968. وتم ترسيخ ذلك النموذج بقدر أكبر في إعادة التقييم البحثية المهمة للحركتين المسماة «إعادة النظر في الدادائية والسريالية» بمعرض هايوورد، لندن عام 1978. ولكن، كيف تنسجم هاتان الحركتان معا بطبيعة الحال؟
قد يذهب البعض إلى أن «الدادائية والسريالية» كمفهوم مقترن ينم في حقيقته عن تحيز تاريخي للفرنسيين ، وحقيقة الأمر أنه من وجهة نظر أنصار الثقافة الألمانية الملتزمين، قد يبدو هذا المفهوم مضللا. وكما سنرى لاحقا، ربما تعد «التعبيرية والدادائية» وصفا تاريخيا صحيحا لأي شخص معني في المقام الأول بالثقافات الناطقة بالألمانية.
وللتصدي لهذا الاعتراض، علينا الإقرار بأن الحركتين كانتا دوليتين صراحة. وهناك شخصيات بعينها انتقلت حرفيا من الدادائية إلى السريالية، مثل بيكابيا وتزارا وإرنست وآرب، وتنقلت أيضا بحرية من ثقافة أوروبية إلى أخرى، وكانت ثنائية أو متعددة الألسنة. لأسباب سياسية، مقتت الدادائية والسريالية المشاعر القومية، ونزعتا إلى النظر إلى أنفسهما على اعتبار أنهما تخاطبان البشرية عموما، ولو أنه ينبغي ملاحظة أن الخطاب «التعميمي» للطليعية في أوائل القرن العشرين مشكوك فيه إلى حد كبير في أيامنا هذه، خاصة بسبب الاعتقاد بكون فرضيات أوروبية محددة «عالمية». ولكن، حقيقة الأمر أنه بسبب وجود نقلة واضحة وضوح الشمس - وإن كانت تدريجية - من الدادائية للسريالية حدثت في باريس؛ أمسى من المعتاد إنتاج نموذج للدادائية- السريالية استنادا لما حدث في باريس وحدها؛ حيث نشأت السريالية بشكل حتمي ك «مصير» للدادائية.
الواقع أن الدادائية لم تفض إلى أي شيء قريب من السريالية في ألمانيا نفسها؛ فتمشيا مع مدن ألمانية كبرى أخرى، كان هناك ميل نحو «الموضوعية الجديدة» في برلين وكولونيا في بداية العشرينيات. يمكننا أن نرى الفنان جورج جروتس قد استخدم عناصر من الواقعية المكثفة في الأعمال الدادائية الأخيرة، مثل «يوم رمادي» عام 1921؛ حيث نزع إلى هذا التوجه الجديد، لكن الموضوعية الجديدة لم تتقاطع مع السريالية إلا فيما ندر؛ فتوجهها خارجي لا «باطني» حيث تميل إلى السخرية الاجتماعية. والسمات التي تشترك فيها مع السريالية تتمثل في العناية بالواقعية المتصاعدة (استخدم النقاد الألمان اصطلاح «الواقعية السحرية»)، كما في أعمال بعينها لدالي وماجريت، وإعادة تقييم الرسم نفسه كنشاط. وإذا تعين علينا البحث عن شريك للدادائية في برلين، أو زيوريخ في هذا السياق، فسيتعين علينا أن نرتد على أعقابنا، إذا جاز التعبير، لا أن نمضي قدما وأن ندرس كيف تحالفت الدادائية عن قرب في هاتين المدينتين في بداية الأمر مع التعبيرية. باعتراف الجميع، كان هذا التحالف أغلب الظن سلبيا بالنسبة إلى كثير من أبناء برلين، لكن الأقنعة التعبيرية الأسلوب مثلا تجلت بشكل بارز في عروض دادائية زيوريخ، وعلى الرغم من أن عروض الأشعار المتزامنة وما شابهها بكباريه فولتير كانت إيذانا بانحراف واضح عن السوابق التعبيرية، فقد كانت عادة تلازم إنشادا للأغاني أو سردا للأشعار يستدعي الأسلوب الأقدم.
ثمة نقاط شبيهة متعلقة بالدادائية في نيويورك يمكن إثباتها؛ فقد استوعب الفنانون الأمريكيون أمثال مورتون شامبرج الأعمال الميكانيكية الساخرة لدوشامب وبيكابيا، إضافة إلى تقليد تصوير فوتوغرافي محلي مثله فنانون أمثال ألفريد شتيجليتس وبول ستراند احتفوا فيه عادة بالآلات. وأمست أيقنة الآلة عنصرا من عناصر الانطلاق باتجاه خلق فن «أمريكي» بشكل مميز بحلول العشرينيات، كما أمست توجها واقعيا أكثر صراحة بكثير نحو الآلات، كجزء من الاتجاه «التدقيقي» المزعوم الذي ساد في لوحات تشارلز شيلر مثلا، قبل أن يغادر دوشامب نيويورك عام 1923 بفترة طويلة.
ينبغي أن يكون واضحا من كل ما سبق أن «الدادائية والسريالية» ليست بأي حال من الأحوال تركيبة بديهية، لو وضعت التطورات في جميع المراكز المرتبطة بالدادائية في الاعتبار. وهي تشوه الدادائية إلى حد ما؛ فلو دققنا النظر إلى هذه التركيبة بوصفها بناء تأريخيا حتى، فلربما اعتبرت «الدادائية والسريالية» مبنية، مثلا، على معرض بار المذكور آنفا بمتحف الفن الحديث بنيويورك، أو نشر الدراسة المهمة للعالم الفرنسي ميشيل سانوليه المسماة «الدادائية في باريس»، التي ذهب فيها إلى أن السريالية هي الشكل الذي تبنته الدادائية في باريس. وكبديل لتلك الفكرة، يمكن أن ينظر إلى هذه التركيبة باعتبارها مبنية على عناصر جذب شخصية دولية مثل ماكس إرنست، الذي انتقل من كولونيا إلى باريس عام 1922، وربما أقام بذلك أقوى الجسور بين الدادائية الألمانية والسريالية الفرنسية.
Unknown page
ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة جدا للنظر إلى الحركتين جنبا إلى جنب؛ خاصة لأن همومهما يمكن عادة المقارنة بينها بطريقة موحية وكاشفة بشكل عجيب. وضعت الحركتان ضمن أولوياتها المبدأ الشعري، وقللتا من شأن مفهوم الفن؛ حيث دعمتا الأمنية الطليعية بالمزج ما بين الفن والحياة. وقدمت كل حركة منهما نفسها باعتبارها «دولية» في روحها، وكانت السريالية في مراحلها اللاحقة عالمية فعليا، كما كانت الحركتان غير عقلانيتين أساسا في توجهاتهما.
فيما وراء ذلك، ثمة أوجه اختلاف دقيقة ومهمة بين الحركتين؛ فقد كانت الدادائية لا سلطوية في روحها إلى حد كبير، وكان الذين يمسكون بتلابيبها ويحافظون على تماسكها، على الرغم من وهن أواصرها - وهم: بال، وهيولسنبك، وتزارا، وبيكابيا - متناقضين إلى حد كبير حيال ما هم بصدده؛ حيث عرفوا الدادائية باعتبارها توكيدية وهدامة في آن واحد. وفي المقابل، كانت السريالية المسيرة بالميول التنظيمية لأندريه بريتون «حركة» متكاملة الأركان بقدر أكبر، بمعنى أن اسمها يوحي بتوجه ما. كان الدادائيون غير معنيين إلى حد كبير بإنتاج أغراض فنية قابلة للبيع على نحو تقليدي، بينما تخصص الفنانون السرياليون أمثال دالي وماجريت في أساليب أكثر تقليدية وقابلية للبيع، ألا وهي الرسم بالزيت. وباعتراف الجميع، انتقد بريتون الانشغالات التجارية لفنانين بأعينهم، لكن السريالية ربما كان من السهل وصفها بال «رجعية» إذا أردنا الحكم عليها بمعايير مكافحة الروح التجارية الدادائية والإبداع الفني. كان الدادائيون متخبطين بشأن قيم العقل؛ حيث وجدوا العقلانية المبالغ فيها جزءا من سقوط الإنسان، لكن السرياليين، في كتاباتهم النظرية على الأقل، وظفوا سبلا عقلية جدا، بشكل فيه مفارقة، لتمحيص الظواهر اللاواعية.
بالطبع هذه تعميمات، وستظهر المقارنات التفصيلية من دراسات الحالة والنقاشات المركزة في الفصول التالية. إن منهجي على الدوام، كما سبق أن أكدت في المقدمة، سيعنى بدراسة الكيفية التي التقت بها الدادائية والسريالية أو تشعبتا حول مجموعة من الأفكار الرئيسية. لقد تفاديت الربط بينهما قدر الإمكان، لكنني مع ذلك وجدت تلك الأفكار تستقر في لحظة ثقافية مشتركة تحاصرها حربان عالميتان. ثمة شيء واحد ينبغي أن يكون واضحا من الموجزات التاريخية المذكورة أعلاه؛ ألا وهو التأكيد الذي أولته كلتا الحركتين لجذب الانتباه لهما باعتبارهما بنيتين طليعيتين. لقد ذكرت البيانات العامة، وتحولات الوجهات التي ألمحت إليها مقالات نشرت في دوريات، وأهمية العروض الحية، وما إلى ذلك. إن هذا التركيز على التعميم سمة بارزة للغاية لهاتين الحركتين، ومن ثم فهو يعد الأساس الفكري للفصل التالي.
الفصل الثاني
«الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية
في قصيدة نشرت عام 1923، أكد رائد السريالية أندريه بريتون على إعلاء الحياة على الفن؛ حيث اختتم قصيدته قائلا: «وبما أن الكلمات أمست مشحونة/فالحياة أفضل.» رفض الكتاب والشعراء المرتبطون بالدادائية والسريالية إخضاع التجربة الحياتية للتجربة الفنية؛ ربما كانوا مثاليين أو سذجا إذ حاولوا التوفيق بين تلك المبادئ، لكن هذا هو مستوى الطموح الذي يميز الدادائية والسريالية باعتبارهما بنيتين ثقافيتين طليعيتين في جوهرهما. كيف نفذت إذن هاتان الحركتان إلى نسيج الحياة اليومية؟ وكيف حاولتا التسلل إلى العالم الذي يتجاوز المعارض الفنية؟ وكيف روجتا لأنفسهما؟
في هذا الفصل، سأركز على ميل الدادائيين والسرياليين إلى «العروض» - سواء أكانت عروضا عابرة في مكان مغمور، أم أحداثا عامة تحظى بالترويج المناسب - وقدرتهم على إقامة عروض مثيرة للألباب متى شاركوا في معارض فنية. وسأمعن النظر أيضا في دورياتهم واستخداماتهم للتصوير الفوتوغرافي.
بصرف النظر عن الكيفية التي طرحت بها كل من الدادائية والسريالية نفسها على العالم الخارجي، كيف تخيل المشاركون في تلك الحركتين علاقتهم بذلك العالم؛ أي علاقتهم بظاهرة الحداثة الاجتماعية؟ للمساعدة في تسليط الضوء على هذه المسألة، سأمعن النظر في علاقتهم بالثقافة الشعبية، وكيف استوعبوا المدينة نفسها، وبناء على السرد الأساسي السابق طرحه في الفصل السابق، سنركز على «لحظات» محورية بعينها بغية بناء مجموعة مصورة من «اللقطات» للدادائية والسريالية.
الأسقف الساحر ومعرض الدادائية
لنبدأ بإعادة بناء لحظة دادائية تأسيسية؛ لو كنا قد قمنا بزيارة لكباريه فولتير ليلة الثالث والعشرين من يونيو عام 1916، لوجدنا أنفسنا داخل غرفة تحوي مسرحا وبيانو وطاولات ومقاعد تسع حوالي 50 شخصا. وتوضح صورة فوتوغرافية للوحة فقدت الآن لمارسيل يانكو (انظر الشكل
Unknown page
1-1 ) أنه لم تكن هناك مسافة تقريبا بين المؤدين والجمهور. تؤكد روايات شهود العيان على الدخان الذي كان يملأ القاعة، وصخب الجمهور الذي كان قوامه طلبة ومفكرين اشتراكيين وهاربين من الحربية وصعاليك سكارى ، حيث كان الكباريه يقع في «منطقة الترفيه» في زيوريخ.
يحمل الشاعر الدادائي هوجو بال إلى خشبة المسرح، وبحسب مذكراته:
كانت قدماي داخل أسطوانة من الكرتون الأزرق اللامع بلغت وركي، فبدا شكلي أشبه بالمسلة ... وأعلاها ارتديت سترة ذات ياقة عالية مصنوعة من الكرتون، قرمزية من الداخل وذهبية اللون من الخارج ... وارتديت أيضا قبعة ساحر طويلة مخططة بالأزرق والأبيض.
وما أن استقر قبالة مجموعة من حوامل النوتات الموسيقية التي تحمل نصوصا مكتوبة بقلم رصاص، شرع يتحدث بطريقة خطابية وبشكل رسمي:
gadji beri bimba
glandridi lauli lonni cadori
gadjama bim beri glassala ...
كيف لنا أن نستجيب لذلك؟ ربما سخر الجمهور منه. وفي مناسبة أخرى، أهبهم بال إذ قال: «في هذه القصائد الصوتية، نشجب بالكامل اللغة التي أساءت الصحافة استغلالها ... يجب أن نرجع إلى الخيمياء الأعمق للكلمة.» وهو التصريح الذي يفسر نوعا ما العبثية المحضة لتعويذته. كان بال نفسه مرتبكا؛ وإذ وجد نفسه ينشد في مرحلة ما بأسلوب شعائري ينتكس به إلى طفولته الكاثوليكية، حمل بعيدا عن خشبة المسرح «وهو يتصبب عرقا وكأنه أسقف ساحر.» وبعدها بفترة وجيزة، تخلى بال عن الدادائية إلى الأبد؛ حيث كرس نفسه في نهاية المطاف إلى الدراسات الدينية.
بلغت عروض دادائية أخرى بكباريه فولتير ذروتها خلال تلك الفترة تقريبا؛ فقد أطلق الدادائيون - إذ بادروا بإعادة تمثيل الآثار الأليمة والمدمرة للحرب التي كانوا معارضين لها - قوى وجدوها هم أنفسهم مثيرة للزعزعة والاضطراب. وكنتيجة لذلك كانت هناك فترة ركود في تقدم الدادائية، من منتصف عام 1916 وحتى بداية عام 1917.
بعد ذلك، أمست دادائية زيوريخ تدريجيا «محترمة»؛ فالجماعة انتقلت إلى الضفة الأخرى لنهر ليمات، وأقامت سهرات في بنايات مدنية برجوازية لا تشوبها شائبة. وصف هيولسنبك في نهاية المطاف معرض الدادائية الذي استضاف عددا من الأحداث في قاعات أعلى محل سبرونجلي للحلويات؛ بأنه «صالون فنون جميلة لتدريم الأظافر، ترتاده سيدات عجائز يحتسين الشاي، ويحاولن إحياء قواهن الجنسية المتلاشية بمساعدة «شيء مجنون».» كانت رسوم الدخول عالية جدا، وثمة قائمة بالحضور. من الواضح استنادا إلى ذلك أن الدادائية، مهما اعتبرناها بوهيمية الطابع، أصبحت سريعا متماشية مع الأعراف البرجوازية. ويفيد السياق الأوسع، بطبيعة الحال ، أن الدادائيين وجدوا، من سخرية القدر، أنه من الضروري أن يستميلوا جمهورا مثقفا ليبراليا كي «يفهموا»؛ وهي مفارقة ستظل فكرة محورية متكررة طوال فترة النشاط الدادائية والسريالية الطليعية.
Unknown page
لقد نبعت الفضيحة الأولى للدادائية من أحداث حضرها قليل من الناس، ومن ثم استندت الدادائية من البداية إلى عملية صنع أساطير ذاتية. هناك طريقة أخرى روجت بها الجماعة لنفسها من البداية، وكان ذلك عبر منشورات الجماعة إبان صدور منشورات طليعية سابقة مثل المجلة المستقبلية الإيطالية «لاسيربا»، أو الدورية البريطانية الدوامية «بلاست». كان «كباريه فولتير»، المنشور الأول لجماعة زيوريخ، الذي صدر عام 1916، منشورا جادا نسبيا؛ حيث أورد نسخا لأعمال لشخصيات طليعية مرموقة أمثال بيكاسو، إضافة إلى أعمال الدادائيين، بل إن هذا المنشور صدر في طبعة فاخرة في قوالب خشبية أصلية. صدرت مجلة دادائية زيوريخ التالية، وسميت «الدادائية»، في الفترة بين عامي 1917 و1919، وكانت جريئة في تصميمها؛ حيث استغلت الخطوط الطباعية المتنافرة، خاصة في طبعتها الثالثة. وكانت تلك المجلة أيضا «دولية» الطابع بشكل توكيدي؛ حيث احتوت على أشعار لأتباع الدادائية من أماكن أخرى، مثل فرانسيس بيكابيا ولويس أراجون.
بعروضها الأسطورية بالكباريه، ومجلاتها المطبوعة يدويا في أجزاء منها، كانت دادائية زيوريخ، ولو إلى حد ما، «محلية الصنع»؛ وهي لم تبذل جهدا كبيرا في واقع الأمر من أجل تسخير تقنيات الدعاية الحديثة. يمكننا أن ننظر إلى معرض الدادائية التالي الذي أقيم في برلين، وسنرى العملية المعاكسة تماما تحدث.
هذا الحدث الذي تم تصميمه تأسيا، دون انضباط - وعلى نحو ينطوي على مفارقة شديدة - بمعرض تجاري، كانت له سابقة مشهورة في معرض الدادائية بكولونيا الذي أقيم في العشرين من أبريل عام 1920، وصمم بحيث يتسبب في أكبر قدر من الإزعاج لجمهوره؛ إذ دلف الناس إلى معرض كولونيا عبر مبولة عامة لقاعة الخمر، وفي افتتاح المعرض ألقت عليهم فتاة صغيرة ترتدي فستانا لأحد الكوميونات أشعارا فاضحة، وتضمنت الأعمال المعروضة منحوتة لماكس إرنست، وألحق بها فأس لتكسير المنحوتة. كان حدث برلين - الذي أقيم في معرض تجاري خلال الفترة من 30 يونيو إلى 25 أغسطس عام 1920، وعرف باسم «المعرض الدولي الأول للدادائية»، وحوى حوالي 200 عمل فني اتخذت شكل العديد من الوسائط - صداميا بالقدر نفسه، لكنه كان مبنيا من البداية تلبية لغاية الحصول على أكبر قدر من الدعاية. واستنسخت على نطاق واسع الصورة الفوتوغرافية الشهيرة الموجودة بالقاعة الرئيسية للمعرض (شكل
2-1 )، التي تضمنت زيا رسميا محشوا لضابط بروسي مثبتا عليه رأس خنزير ومعلقا في السقف؛ وتمثالا لعرض الأزياء من تصميم جورج جروتس وجون هارتفيلد، رأسه على هيئة مصباح مضيء. ونشرت الصحف على مستوى العالم - من باريس وحتى بينويس أيريس - مقالات تتناول الحدث.
شكل 2-1: عرض لمكونات معرض الدادائية الدولي الأول، برلين، يونيو 1920.
كان المعرض الدولي للدادائية، شأنه شأن كباريه فولتير، تجربة مثيرة للاضطراب بشدة. وكما يتضح من الصورة، تضمنت جدران المعرض تجميعات صورية لهاوسمن وأمثاله، ولوحات لجروتس وأوتو ديكس، لكنها تنافست على اهتمام الجمهور مع ملصقات تحمل شعارات مثل «الدادائية تميل إلى البروليتاريا الثورية»، و«كل إنسان يستطيع أن يتبنى الدادائية»، و«مات الفن: فليحي عصر فن الآلة الجديد لتاتلين». كان من الصعب على المشاهد الفصل بين الفن (المناقض) المعروض والحاجز الجدلي؛ وبالطبع هذا هو تحديدا الأثر المنشود. إن الشعار الداعم لتاتلين كاشف تحديدا عن الاستراتيجية الكلية لجماعة برلين؛ فقد كان تاتلين - الشخصية الرائدة البارزة في البنائية الروسية الذي لم يعرفوا أعماله كلها - يعتبر تجسيدا لاتجاه مادي جديد للفن، ومن ثم جاء تناقض الروحانية الزائفة الممثلة بالنسبة إليهم في جيل التعبيرية. لكن النقطة المحورية المتعلقة بهذا الحدث هو أن الشعارات التي رفعها كشفت عن وعي دادائيي برلين بالقوة المتزايدة للإعلان في الحياة اليومية؛ فبدلا من النأي عن عمليات العالم التجاري، سلبوه استراتيجياته لنشر رسالتهم.
المحاكمة الصورية وشارع تماثيل عرض الأزياء
حمل نوعا تجليات الدادائية اللذان تعرضنا لهما - الدادائية «المحلية الصنع» ولكن السريعة التحول إلى أسطورة، والدادائية الأخرى الميالة بشكل واضح نحو الدعاية الجماهيرية - معالم رغبة الحركة في الإطاحة بالقيم الحالية أو إحداث ثورة فيها. وبالالتفات إلى حدثين آخرين مناظرين - أحدهما سريالي بدائي، والآخر سريالي متكامل الأركان - سيسهل علينا تحديد بعض الفروق المحورية بين الدادائية والسريالية. يكشف الحدث الأول عن التحول من الدادائية إلى السريالية، الذي وقع في باريس كجزء من «الحركة الغامضة» خلال الفترة بين عامي 1921 و1924.
في الثالث عشر من مايو عام 1921، شارك أندريه بريتون ومجموعة من حلفاء الدادائية، إضافة إلى عدد من الشخصيات الأدبية والسياسية، في «محاكمة صورية» عجيبة، أقيمت لاختبار مدى إيمان بريتون بأن موريس بارس، المؤلف اليميني المشهور، مدان ب «جرائم ضد أمن العقل». بالنظر إلى صورة فوتوغرافية للحدث، يمكننا أن نرى أنه كان ينطوي على درجة من العبثية اللحظية. ارتدى الدادائيون أنفسهم لباس المحكمة العليا بشكل متقن، بينما مثل بارس - الذي لم يتنازل ويدافع عن نفسه - على هيئة دمية. وعلى الرغم من ذلك، كان الحدث مصمما بعناية وهادئا في نبرته؛ حيث تخلى عن عفوية التجليات الدادائية السابقة مثل كباريه فولتير السابقة مناقشته.
من عدة أوجه، صورت المحاكمة من البداية على اعتبار أنها «بيان موقف» من جانب بريتون، علاوة على كونها فرصة للتصوير (وهي الاستراتيجية التي سنناقشها لاحقا). دفع قليل من الناس رسما لقاء حضور المحاكمة، لكن التركيز كان موزعا بالتساوي على المشاركين ووجهات نظرهم الأيديولوجية. جدير بالذكر أن المشاركين لم يكونوا أتباع الدادائية فحسب، بل إنهم دعوا «شهودا» لحضور الحدث، وتراوح الشهود ما بين الروائية القومية راشيلد وجورج بيوش، وهو الشيوعي الذي دافع عن المجرمين السياسيين في المحاكم. عقد الاجتماع في بنايات سبق أن استخدمها نادي فوبورج، وهو عبارة عن جمعية لتطوير الخطابة الارتجالية تأسست خلال الثورة الفرنسية، ودعي للاجتماع لفيف من الشخصيات العامة البارزة لمناقشة الأمور السياسية قبل إقامة تلك المحاكمة البوهيمية. (في مرة من المرات، حرض اجتماع للنادي على الهجوم على سجن الباستيل.)
Unknown page
آمن بريتون وزملاؤه «القضاة» بأن بارس - الذي أعجب به تحديدا أراجون ذات مرة - خان التزامه نحو الضمير الفردي الواضح في رواياته في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر؛ وبذلك فقد استسلم إلى التحول إلى اليمين في السياسة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى ؛ ولذا استغل بريتون المحفل الدادائي لا للتشتيت ولكن للتمحيص في مجموعة متجانسة من الأفكار، ولو أنها أفكار تعدت بشدة على الاهتمام الوليد للجماعة السريالية بحقوق الهجرة. كان هذا الحدث أيضا تمرينا على السياسة الثقافية. ومما أثار ازدراء تريستان تزارا، الذي أصيب بالذعر من أن الدادائية يمكن أن تتبنى موقفا انتقاديا؛ أن بريتون يمهد للانتقال إلى برنامج طليعي متكامل، وهي العملية التي ستفضي في نهاية المطاف إلى انعقاد «مؤتمر باريس»، السالف ذكره في الفصل الأول، ومنه إلى السريالية.
شكل 2-2: صورة فوتوغرافية للمحاكمة الصورية لموريس بارس في 13 مايو 1921. من اليسار إلى اليمين: لويس أراجون، شخص مجهول الهوية، أندريه بريتون، تريستان تزارا، فيليب سوبو، ثيودور فرانكل، الدمية التي تمثل بارس، جورج ريبيمون-دوسينييه، بنجامين بيريه، وغيرهم من رفاقهم في الدادائية.
إذا كانت «المحاكمة الصورية» السريالية البدائية ترتبط بعلاقة متنافرة بعفوية كباريه فولتير الدادائي، فثمة حدث أكثر حداثة، وهو هذه المرة معرض للحركة السريالية المتكاملة الأركان، يقدم لنا تباينا صارخا مع معرض الدادائية الذي أقيم في برلين. إجمالا، كانت تجهيزات المعارض تقليدية إلى حد كبير في السنوات الأولى للسريالية، ولم تشرع الجماعة في تجربة تصميم المعرض كما فعل الدادائيون، إلا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر - إلى حد كبير بغية استعراض دولية الحركة. وكان المعرض الدولي للسريالية، الذي عقد في معرض جورج ويلدينشتاين للفنون الجميلة بباريس عام 1938، نقطة تحول محورية.
التمس بريتون مواهب الدادائي السابق مارسيل دوشامب لتجهير هذا المعرض، وأصدر دوشامب أوامره بتعليق 1200 كيس من الفحم المغبر المحشو بالصحف بشكل مشئوم، أعلى المساحة الرئيسية للمعرض التي أضيئت بواسطة مبخرة مشتعلة فحسب؛ ومن ثم كان من الصعب رؤية الأعمال المعروضة، وفي الافتتاح تم تزويد الزائرين بمصابيح كاشفة. وعزز من الجانب الليلي لمساحة العرض وجود سريرين ضخمين؛ كل واحد منهما في زاوية من زوايا القاعة.
كانت هناك نقاط مضيئة دراماتيكية أخرى؛ ففي فناء البناية، استطاع الزائرون أن يختلسوا النظر إلى عمل سلفادور دالي «سيارة أجرة مطيرة»، ليجدوا أمام أعينهم تمثال عرض أزياء على هيئة أنثى شبه عارية تعج بالحلزونات، وتستقر على المقعد الخلفي في شلال من الماء. وعندما يدلف الزائرون إلى المعرض، يضطرون إلى المشي بطول «شارع تماثيل عرض الأزياء»، ومن ثم يسمح لهم افتراضيا «بالاختيار» من بين 16 تمثال عرض أزياء، كل منها يرتدي زيا مثيرا جنسيا، يفهم منه أنها ل «بائعات هوى»، وأن كلا منها نتاج خيالات فنان سريالي مختلف.
شكل 2-3: عرض لتجهيزات المعرض الدولي للسريالية بمعرض الفنون الجميلة بباريس، 1938.
تتباين هذه المؤثرات تباينا شاسعا عن تلك التي استخدمها دادائيو برلين بمعرضهم. كلتا الجماعتين شرعتا في بث الاضطراب والتشويش، لكن السرياليين كانوا كما هو واضح معنيين بإغراءات فانتازيا اللاوعي بدلا من الصدمات المادية التي يفضلها الدادائيون. من الواضح أن الأحلام كانت تستدعيها الزخارف الليلية للقاعة الرئيسية للمعرض المقام عام 1938، بينما استثار «شارع تماثيل عرض الأزياء» حلم يقظة مثيرا جنسيا بطريقة غريبة على الغرائز الساخرة الدادائية. وشأنهم شأن الدادائيين، استغل السرياليون ديكور المعرض كوسيلة لاستقطاب الدعاية، لكن انشغالهم بعالم الأزياء تجاوز إلى حد كبير انشغال أسلافهم؛ فقد استعيرت تماثيل عرض الأزياء مثلا من بيوت أزياء رائدة، ولم يكن من قبيل المصادفة أن شرع سلفادور دالي في التعاون مع إلسا شياباريللي في العام السابق فيما يختص بتصميم الأزياء. وفي الوقت الذي سخر فيه الدادائيون من التجارة بمعرض الدادائية، يمكننا أن نرى أن السرياليين متواطئون معها نوعا ما. وباعتراف الجميع، ارتبط ذلك ارتباطا وطيدا بالشكل الدولي الذي كانوا مصرين على ترسيخه؛ حيث أقيم معرضان سرياليان دوليان في براغ ولندن عامي 1935 و1936 على الترتيب؛ وحقيقة الأمر أن معرض الدادائية ببرلين يكاد يبدو ضيق الأفق بالمقارنة. ولكن، إلى حد ما، خاطر السرياليون «ببيع» منتجاتهم للعالم التجاري. لو كانت «المحاكمة الصورية» التي عقدت عام 1921 استعراضا للحزم الأيديولوجي للجماعة، فقد كشف المعرض الذي أقيم عام 1938 كيف أن نزعته إلى الدعاية يمكن أن تهدد آراءها السياسية، وستظهر هذه الفكرة مجددا لاحقا.
أن تكون دادائيا، وأن تكون سرياليا
إلى الآن، استعرضنا الأحداث، فلنتحول بعد ذلك إلى الأشخاص أنفسهم. لو أن المبادئ الدادائية والسريالية روجت بأقوى نزعة استراتيجية ممكنة في عروضهم ومعارضهم، وغالبا مع الوضع في الاعتبار الممارسات التجارية، فإلى أي مدى انصب تركيز شعراء وفناني الحركتين على بناء السمعة الشخصية؟ علام كان ينطوي كون المرء دادائيا أو سرياليا؟
إننا نميل بشكل عام للنظر إلى الدادائية والسريالية باعتبارهما مترادفتين تسلكان سلوكا عجيبا، وهناك العديد من الأمثلة داخل الدادائية تحديدا تدعم هذه الفكرة، ولعل أقوى الروايات تلك المتعلقة بآرثر كرافان. ولد كرافان في سويسرا عام 1887، وكان ابن أخت أوسكار وايلد، وعاش عيشة الترحال في العديد من الأماكن الأوروبية. في باريس، بين عامي 1912 و1915، نشر مجلة أدبية فاحشة بعنوان «الآن»، وكرسها لإهانة أعضاء حركة الطليعية الفنية، وبحلول عام 1916، ارتحل إلى برشلونة حيث تحدى بطل العالم في الملاكمة في الوزن الثقيل جاك جونسون للقتال. كان كرافان ببنيته القوية ملاكما هاويا، واعتاد أن يعلن عن نفسه قبل اشتباكاته بقائمة لا يصدقها عقل من بيانات الاعتماد على غرار: «لص الفنادق، والداهية، والحاوي، والسائق»، وغير ذلك من الأسماء؛ وأيا كانت مؤهلاته، لم يكن أهلا لجونسون الذي أطاح به في الجولة السادسة. ومن غير المدهش أن الدادائي فرانسيس بيكابيا، الذي كان بصدد نشر دوريته «391» أثناء تجواله في برشلونة، أمسى مؤيدا متحمسا لكرافان. وعندما ظهر كرافان عام 1917 في أمريكا، طلب إليه مارسيل دوشامب أن يلقي محاضرة أمام «جمعية الفنانين المستقلين» (التي سنتناولها بإسهاب لاحقا). قدم كرافان عرضا دادائيا ملائما؛ حيث وصل سكران، وخلع ملابسه، وأخيرا اعتقلته شرطة نيويورك، بعد ذلك اختفى كليا عام 1918، وساقته شهوة حب السفر والتجوال إلى المكسيك؛ حيث من المعتقد أنه انطلق في قارب تجديف إلى بوينس آيريس، ولم يره أحد بعدها قط.
Unknown page
إن إقدام كرافان على ارتكاب شكل رمزي من أشكال الانتحار الدادائي من عدمه، يظل أمرا مفتوحا للنقاش، لكن ازدراءه للتقاليد ضمن له الشهرة الباقية. ومن هذا المنطلق، فإنه يجسد المعتقد الدادائي بأن أسلوب حياة المرء يمكن بحد ذاته أن يكون بمنزلة فئة من فئات الدادائية. من بين الخصال الدادائية الجوهرية في شخصية كرافان ولعه بالهويات الزائفة (كلص الفندق، وما إلى ذلك)، وكثيرا ما ابتكر المشاركون في الحركة أسماء مستعارة لأنفسهم؛ ففي برلين، عرف ريتشاد هيولسنبك ب «الدادائي العالمي»، وراءول هاوسمن باسم «دادازوف»، وأطلق يوهانس بادر على نفسه اسم «الدادائي الخارق». طور بادر بشكل عارض نزعته المتسمة بجنون العظمة إلى ذروة ساخرة تنافس كرافان من حيث تبجحه المحض؛ ففي فبراير 1919، بعد أن أعلن نفسه في السابق «رئيسا للكرة الأرضية» في بيان دادائي، عطل الاجتماع الافتتاحي للجمعية الوطنية في فايمار، حيث طالب بتسليم الحكومة إلى الدادائيين. وفي مكان أبعد، أمسى ماكس إرنست في كولونيا «داداماكس»، بينما طلب دوشامب في نيويورك من مان راي تصويره فوتوغرافيا وهو يرتدي ملابس نسائية عصرية، مجسدا شخصية روز سيلافي الغامضة، في تورية تفتقر إلى الجانب الفني عمدا إذا نطق الاسم بالفرنسية؛ حيث يعني «إيروس هذه هي الحياة».
بابتكارهم شخوصا بديلة، ألمح الدادائيون إلى أن الهوية ليست ثابتة، وأنها في حالة تقلب باستمرار؛ لقد شككوا ضمنا في فكرة أن الشخصية البشرية ذات جوهر ثابت أو «طبيعة بشرية» جوهرية، وهي الفكرة التي تعد في حد ذاتها جزءا من الأيديولوجية البرجوازية، وامتدت هذه الفكرة بقدر أكبر في التقلبات الجنسية لدوشامب، بحيث ألقي بظلال الشك على فكرة أن الهوية الجنسية يحددها علم البيولوجيا. وفي سياق نقاشنا المتعلق ب «صورة» الفنان، يوحي ذلك بأن الصورة المحكمة أو المحدودة كانت تحديدا شيئا يتفاداه الدادائيون؛ ولذا فقد أعجبوا بالمواقف الاجتماعية الفاضحة لشخصية مثل كرافان. وكما تجلى لنا من معرض الدادائية ببرلين، يتضح أنهم كانوا متأرجحين حيال هوس العصر الحديث بالدعاية والعروض العامة؛ حيث أيدوها وقللوا من شأنها في آن واحد.
وبالالتفات إلى الشخصيات العامة للفنانين السرياليين، فمن المدهش - ما إذا نظرنا إلى الانشغالات التحليلية النفسية للحركة - أن الهويات البديلة كانت متبناة على نطاق أضيق. كانت الشخصية البديلة لماكس إرنست «الطائر الفائق» لوبلوب استثناء واضحا. لقد فضل الفنانون عموما الاستعراض الخارجي على الإذعان، وامتد ذلك إلى إعادة توكيد لقواعد السلوك الراقية المتأنقة لأواخر القرن التاسع عشر، التي كان يعتبر الاستعراض المفرط بموجبها بذيئا. ارتدى العديد من السرياليين الرواد النظارة المتأنقة المخصصة لعين واحدة (وكذا الكثير من الدادائيين)، بينما كبت الرسام البلجيكي ماجريت علانية أي دلالة على نفسه واسعة الخيال بتبنيه القبعة المستديرة السوداء وشمسية نبلاء المدينة. وعندما انغمس السرياليون في افتنانهم بالملابس الفاخرة أو التحولات المثيرة للاضطراب للهوية، فعلوا ذلك عادة في السياق المقبول اجتماعيا للحفلات التنكرية للطبقات الأرستقراطية. وهناك بعض الصور الفوتوغرافية التي لا تنسى لماكس إرنست، على سبيل المثال، وهو متقمص شخصية لوبلوب في محفل عام 1958؛ وكان سلفادور دالي الاستثناء الواضح لهذه القاعدة.
إن حب الظهور الصارخ لدالي - الممثل رمزيا بشاربه المعقوف الذائع الصيت - سيئ السمعة، ولكن ظاهرة دالي تستدعي المزيد من العناية تحديدا؛ لأن طلاب الحداثة يجدون ترويج الفنان لذاته أمرا مزعجا جدا. لقد مثل دالي صعوبات للسرياليين أنفسهم، وكان يحظى بقبول أندريه بريتون الكامل فحسب خلال فترة ما بين عامي 1929 و1934، وبعدها تميزت العلاقة بين الاثنين بالجفاء إلى حد كبير؛ فقد استهان دالي بالبروتوكولات الأيديولوجية للسريالية؛ وبمرور ثلاثينيات القرن العشرين، أيد دالي المشاعر الملكية والفاشية على حد سواء. نما لديه أيضا ولع فطري بالفن الهابط؛ حيث أمسى منبهرا بالتجليات الأكثر تجاوزا للفن الحديث، وكتب مقالة مبتكرة في الدورية السريالية «المينوتور» عام 1933 عن المصنوعات الحديدية الفنية الشبيهة بالنباتات اللولبية لمداخل هيكتور جومرد لمترو باريس. صممت لوحاته الصاخبة الألوان المنفذة باستعراض من البداية بحيث تكون معادية للجمالية، ووصفها بأنها «تصوير فوتوغرافي بألوان لحظية أنجزته يد المصور الرقيقة والمسرفة ... والفائقة التصوير واللدونة والمضللة والمفرطة السوء والواهنة للاعقلانية الملموسة.»
إن هوس دالي المستمر بنفسه، وعشقه لكل ما هو غير لائق سياسيا وغامض بشكل جمالي؛ يمكن أن ينظر إليه كقرار مقصود بأن يلعب دور السوقي في عيني أندريه بريتون. وقد حدث أن أعاد السريالي الرائد بريتون ترتيب أحرف اسم دالي فأصبح «أفيدا دولارز» (بمعنى «الساعي وراء المال»)؛ حيث أظهر دالي في المرحلة اللاحقة كل الدوافع التجارية التي أنكرتها السريالية الرسمية. ومع ذلك، كما أوحينا أعلاه، بحلول عروضها العامة أواخر الثلاثينيات، أمست السريالية مرتبطة بالرأسمالية، ولو بشكل غير مريح، وأقر دالي ببساطة بتلك الحقيقة. لم يستحي السرياليون أيضا من إدراك قيمة دالي كوسيلة للدعاية والإعلان، ومن ثم جاء حضوره لمعرض عام 1938، في الوقت الذي كان فيه يفقد حظوته لديهم رسميا. لقد كانت عبقرية دالي في الذوق السيئ هي التي استخلصت من جورج أورويل واحدا من ردود الأفعال الأدبية القليلة تجاه السريالية خلال الثلاثينيات. وعلى الرغم من أن أورويل قرر أن دالي كان «معاديا للمجتمع معاداة البرغوث له»، وأن أعماله «مريضة وباعثة على الاشمئزاز»، فإن أورويل انشغل بالتحدي الأخلاقي لتلك الأعمال باعتبارها شكلا من أشكال الفن. ويجوز أن نستنبط من ذلك أن دالي وحده من بين السرياليين صاغ لنفسه صورة عامة تتسق مع معايير الدادائية الخاصة باللاعقلانية.
انتشار فكر دوشامب: مراجعات الدادائية
درسنا كيف عمد الدادائيون والسرياليون بمثابرة إلى تطوير سمعتهم، ولكن كيف أمست تلك السمعة راسخة تحديدا؟ على أي حال، كان جمهور الفن الطليعي آنذاك محدودا. في نهاية دورة حياة أول دورية سريالية - كانت تعرف باسم «الثورة السريالية»، واستمرت لخمس سنوات - بلغ عدد المشتركين فيها ألف مشترك فحسب، وكان من المستحيل أن يكون جمهور السريالية أكبر بكثير.
في حالة دالي، انتشرت أنباء أنشطته غير العادية بسرعة؛ ففي المعرض الدولي للسريالية بلندن عام 1936 على سبيل المثال، ارتدى دالي لباسا لغواصي أعماق البحار، فلفت انتباه الكثيرين، لكن السمعة تبنى غالبا بسبل أكثر دهاء. يعد اسم دوشامب مرادفا لبعض الأعمال المتمردة للدادائية والسريالية، وعلى الرغم من ذلك فإن الرجل نفسه كان عاشقا للخصوصية وغامضا (عن عمد)؛ كيف إذن أمست طائفة دوشامب راسخة؟
ثمة رواية مختصرة وردت عن إنكار مبولة دوشامب ورفضها بمعرض الفنانين المستقلين بنيويورك في أبريل عام 1917. بعد شهر من المعرض، ظهرت دورية دادائية بدائية صغيرة بعنوان «الأعمى»، واحتوت على صورة فوتوغرافية للغرض المثير للحفيظة، ومقالة موجزة لكاتب مجهول، تتبنى أسلوبا غاضبا زائفا، استجابة لإنكار المبولة ودفاعا ضد تهمة انتحال الملكية المفترضة:
ليس من المهم معرفة ما إذا كان السيد مات قد صنع النافورة بيديه أم لا، المهم أنه اختارها؛ فقد اختار غرضا حياتيا عاديا، ووضعه بحيث ذوت أهميته النافعة تحت العنوان الجديد ووجهة النظر الجديدة، وابتكر فكرة جديدة لذاك الغرض.
Unknown page
لا شك أن دوشامب كان وراء هذه المقالة - لعله أقنع إحدى صديقاته، ربما بياتريس وود، بكتابتها - ما دام أنها تقدم المبرر الفلسفي لأعماله الفنية «الجاهزة» (الأمر الذي سنسهب في مناقشته في الفصل الثالث). لكن السبب الأكثر إلحاحا لهذه المقالة كان يكمن في إثارة الجدل الذي لم يكن ليثار لولاها؛ فالأحداث الفعلية المحيطة بإنكار «النافورة» غير معلومة تقريبا، وحتى الغرض الأصلي يبدو أنه قد اختفى في مرحلة ما أثناء معرض الفنانين المستقلين. وسبب تحوله إلى أيقونة دادائية يرجع إلى الصورة الفوتوغرافية التي ظهرت بدورية «الأعمى» التي التقطها المصور الحداثي ألفريد شتيجليتس (شكل
1-2 )، ولو أن دوشامب - في مرحلة لاحقة من حياته - طلب، بطريقة يشوبها الضيق، إنتاج «نسخ» من تلك الصورة.
كل ذلك يؤكد إلى أي مدى كانت «النافورة» و«الفضيحة» التي ارتبطت بها شأنين مدبرين. وفي الوقت نفسه، تسلط تلك الواقعة الضوء على فكرة تستحق الآن أن تحظى بأهمية محورية؛ ألا وهي الطريقة التي كانت تعمل بها المنشورات الدادائية والسريالية.
كانت دورية «الأعمى» واحدة من أوائل سيل مفاجئ من الدوريات التي نشرها الدادائيون في المواقع المختلفة للحركة، والأرجح أن أكثر تلك الدوريات وأوسعها أثرا، وأطولها عمرا، هي دورية فرانسيس بيكابيا «391»، التي نشرها بشكل متقطع خلال فترة ما بين عامي 1917 و1924، من أي مكان صادف أن كان فيه، سواء أكان برشلونة أم نيويورك أم باريس. أوحى اسم الدورية بنوع من التطور الثوري من مجلة المصور الأمريكي ألفريد شتيجليتس السابقة والمسماة «291»، والتي سميت بهذا الاسم تيمنا بعنوان معرضه بالشارع الخامس في نيويورك.
في عدد صدر عام 1920 من دورية «391»، أسهم بيكابيا بقدر أكبر في نشر أسطورة دوشامب؛ فقد انتقى موناليزا دوشامب المستفزة المناوئة للفن، وهي اللوحة «الجاهزة الصنع» التي استعرضها عام 1919، وهي عبارة عن موناليزا مطبوعة ومضاف إليها شارب ولحية، ونسخها بيكابيا (دون اللحية التي من الواضح أنه غفل عنها ) فأمست قريبة الشبه جدا بنسخة للوحة من لوحاته الخاصة قوامها حبر مرشوش ، وعنوانها «العذراء المقدسة»، وبذلك تأكدت سمعة العملين السيئة. وفي أكتوبر عام 1922، في صفحات مجلة دادائية أخرى تعرف باسم «الأدب»، وهي لسان جماعة باريس، عززت من أسطورة دوشامب مقالة رئيسية أخرى عنه بقلم أندريه بريتون؛ وهنا أعطى بريتون دفعة لمفهوم دوشامب الذهني الأكثر عناية باللفتات والإيحاءات من خلق أعمال فنية، الأمر الذي من شأنه أن يؤمن له سمعته بين أعضاء الجماعة السريالية الوليدة: «هل يحتمل أن مارسيل دوشامب يصل إلى النقطة الحرجة للأفكار أسرع من غيره؟»
من الواضح أن أسطورة دوشامب بنيت من خلال المجلات والصور الغامضة بقدر ما استندت إلى عرض إنتاجه الشحيح نسبيا؛ فهو لم يقم معرضا مناسبا لأعماله وحدها سوى معرضه الاستعادي عام 1963. وحتى سمعة أعظم أعماله «عروس جردها عزابها من ثيابها» اعتمدت في تشكلها على توصيفات تقديرية وتعليقات عارضة في الدوريات السريالية، وأبرزها مقالة بريتون «منارة العروس» المنشورة بالدورية السريالية «المينوتور» عام 1934-1935، بدلا من أن تعول على مشاهدة الجمهور للعمل الفني فعلا. إن مسألة كيفية تخطيط دوشامب نفسه لبناء سمعته مدهشة، ولكن لا يسعنا مناقشتها هنا، ومن الواضح أن بنية النشر التحتية للدادائية بذلت أغلب الجهود نيابة عنه. ولكن، من الضروري الآن أن نتعقب طريقة عمل الدوريات من السياق الدادائي وصولا للسياق السريالي لاستكشاف نقاط الاتصال وأوجه الاختلاف بقدر أكبر بين الحركتين. لقد كانت للدوريات أهمية أكبر للسريالية من الدادائية؛ وبالمثل، إذا كان التصوير الفوتوغرافي قد لعب دورا مهما في الترويج لدوشامب، كما رأينا في حالة «النافورة»، فقد أمسى أداة محورية مطلقا في المنشورات السريالية.
إهانة رجال الدين في الشارع وفرص التصوير الفوتوغرافي الأخرى: المراجعات السريالية
تحوي نسخة من الدورية السريالية «الثورة السريالية» الصادرة في ديسمبر 1926 صورة فوتوغرافية حميدة في ظاهرها لحوار بين شخصين، وثمة تعليق جذاب مطبوع تحتها «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين» (شكل
2-4 ).
شكل 2-4: «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين.» نسخت الصورة في دورية «الثورة السريالية»، العدد الثامن (ديسمبر، 1926).
Unknown page
تبدو الصورة وثيقة فوتوغرافية عارضة وجامدة، لكنها محاطة بقصائد للشاعر السريالي بنجامين بيريه، تسخر واحدة منها من «مؤتمر شيكاجو القرباني» الذي «يسارع فيه الجميع نحو الفضلات الإلهية والبصاق المقدس.» والجلي أن الصورة، بدلا من أن تكون لقطة عابرة، تمثل مشهدا مفصلا الغرض منه تعزيز الرسالة التجديفية للقصيدة. والحقيقة أنها تسجل ضربا من «الحدث الأدائي»؛ فمن الواضح أن ثمة صديقا لبيريه على مقربة منه لتصوير تصرفه.
وهذا مثال جيد على الطريقة التي يتم بها توظيف التصوير الفوتوغرافي في المجلات السريالية. كانت الدوريات الرئيسية المعنية هي: «الثورة السريالية» (1924-1929)، و«السريالية في خدمة الثورة» (1930-1933)، و«المينوتور» (1933-1939)، وإن كنت سأشير كذلك طوال هذا الكتاب إلى دورية «وثائق» (1929-1930) التي تعد لسان السرياليين المنشقين الذين أحاطوا بجورج باتاي. ترواحت ضروب الصور الفوتوغرافية التي وظفتها تلك الدوريات ما بين الصور الفوتوغرافية المظهرة في الاستوديو، التي يلتقطها مصورون سرياليون أمثال مان راي أو جيه-إيه بويفارد، والصور المستولى عليها ببساطة من مصادر أخرى. كانت هذه الصور توضع في سياق المقالات العلمية، والمقالات الأدبية، وروايات الأحلام، وما إلى ذلك، وكثيرا ما كانت تتنافس على نيل الاهتمام مع النسخ المطابقة للأصل من اللوحات السريالية. وكان تصميم المجلات أكثر جدية من الدوريات الدادائية مثل دورية بيكابيا «391» التي جربت بحرية العديد من الخطوط الطباعية. والواقع أن النموذج الذي احتذت به دورية «الثورة» هو دورية «الطبيعة»، وهي دورية علمية جادة بالقرن التاسع عشر.
لقد أعلن السرياليون باستخدامهم أسلوبا تقديميا «جافا» جعل أغراضا كالصور الفوتوغرافية تظهر كأنها وثائق أو أدلة مادية؛ عن التزامهم بمشروع استقصائي، ومحاولة منظمة للتمحيص في حظ الإنسان في مواجهة «مبدأ الواقع»؛ ولذا ينبغي أن تفهم الدوريات باعتبارها المكامن المميزة للأيديولوجية السريالية.
شكل 2-5: غلاف دورية «الثورة السريالية»، العدد الأول (1924).
في حالة صورة بيريه، من الواضح أن الصورة ارتبطت بمناوأة السرياليين الشديدة للكاثوليكية؛ فكثير منهم نشأ بحسب تعاليم الدين، وعلاوة على معارضة نزعته الأخلاقية، فقد أصيبوا بالفزع بسبب الحلف الذي تشكل في أوائل العشرينيات بين أحزاب اليمين السياسي والمؤسسات الكاثوليكية في فرنسا، بداية تحت مظلة حكومة «كتلة وطنية»، ومن بعدها - تحديدا منذ عام 1924 - تحت لواء حلف حاكم بين الراديكاليين والاشتراكيين. ومما أثار حنقهم أكثر من غيره التوجه المؤيد للكاثوليكية بين المفكرين الفرنسيين في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وفيهم رموز أمثال جان كوكتو. وموقفهم من هذا التوجه مسجل في صورة على غلاف عدد يونيو 1926 من دورية «الثورة السريالية»، وفيها يتجلى جمع من الناس يتطلعون إلى السماء، وسميت ب «الهدايات الأخيرة». والواقع أن الصورة اقتبست من مصور مغمور آنذاك ومشهور حاليا يدعى يوجين أتجيت، وهو متخصص في السجلات الوثائقية لباريس، «اكتشفه» مان راي في كبره إذ كان يعيش على مقربة منه. وكانت صورة أتجيت التي التقطت عام 1912 ببساطة سجلا لخسوف، لكن السرياليين، كما هي عادتهم، أعادوا استثمار الصورة بمعانيهم الخاصة.
من الواضح أن التصوير الفوتوغرافي أسلوب وظفه السرياليون للتشديد على رسائل سياسية أو اجتماعية، وهناك حالة لافتة للنظر تحديدا أعيد فيها تخصيص صورة، ولكنها لم تكن حتى من مصدر معلوم؛ فكانت الصورة تتألف ببساطة من صورتين فوتوغرافيتين مجهولتين للشقيقتين بابين تسميان «قبل» و«بعد»، وأعيد نشرهما في دورية «السريالية في خدمة الثورة» في مايو 1933.
لقد ارتكبت الشقيقتان واحدة من أبشع الجرائم التي وقعت في أوائل الثلاثينيات بباريس وأكثرها إثارة للجدل، وقد سرد نص نشر في الدورية السريالية نفسها، وتحديدا في قسم مخصص ل «القصص الإخبارية» أو الأخبار الغريبة، كيف نمت لدى هاتين الشابتين البرجوازيتين بشكل لا يداخله شك - بعد أن أودعتهما أمهما للخدمة ببيت من البيوت المحترمة بمدينة لومان - كراهية شديدة لربتي عملهما، فانتهى بهما الأمر إلى قتلهما بدقة طقسية؛ حيث اقتلعتا أعينهما وهشمتا رأسيهما.
شكل 2-6: «الشقيقتان بابين: قبل وبعد»، من دورية «السريالية في خدمة الثورة»، العدد الخامس، (مايو 1933).
على مستوى واحد، ناظرت الصورة المزدوجة للشقيقتين - التي سجلت تحولا مذهلا في ملامحهما - افتنان السرياليين ب «الجمال الاختلاجي»؛ وهو ضرب من الصدمات الفعلية فيما يتعلق بالظواهر البصرية الاستثنائية. وعلى الرغم من ذلك، تعاطف السرياليون أيضا مع ردة الفعل العنيفة تجاه الاسترقاق الممثل في الفعل الذي أقدمت عليه الشقيقتان. وإذ آمن السرياليون بأن الأخلاق المقبولة عادة ما تساعد في التستر على الجبن الأخلاقي، فقد وقروا المجرمين في حالات أخرى؛ ففي العدد الأول نفسه من دورية «الثورة السريالية»، على سبيل المثال، وضعوا لقطات فوتوغرافية مقربة لأنفسهم حول صورة لجيرمين بريتون، اللاسلطوية التي اغتالت ماريوس بلاتو، قائد إحدى المنظمات اليمينية المتطرفة. وبهذا استدعت صورة الشقيقتين بابين نطاقا كاملا من المشاغل السريالية (وكذلك الدادائية) المرتكزة حول العلاقات بين الإجرام والأخلاق.
وإذ استخدم السرياليون الصور، إلى جوار النصوص، في دورياتهم، فقد أقاموا علاقة معقدة وساخرة بقضايا عصرهم، ويعزز ذلك بقدر أكبر النقطة التي مفادها أن السريالية - وبقدر أكبر حتى من الدادائية - كانت منشغلة بالحياة بأبعادها العامة والأخلاقية، بالقدر الذي انشغلت فيه بالجماليات؛ ولكن لم ير الدادائيون والسرياليون اهتماماتهم الاجتماعية محصورة فحسب في البعد «الرسمي» للحياة العامة. وكما تجلى لنا من اهتمام السرياليين بالشقيقتين بابين، أو عبث الدادائيين الساخر بالتجارة، كانت هناك رغبة في الانخراط في الطيف الكامل للمعرفة والتمثيلات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن أغلب الدادائيين والسرياليين انتسبوا إلى الطبقة الوسطى، فقد كان لديهم افتنان شديد بثقافة العامة، أو بما يشتهر في فرنسا باسم «الشعبي».
Unknown page