ولم ينزعج حسين وإنما مسح دمعته، وقد أدرك أن الفتاة مع آخر دعاه أمين، فقال دون أن يفكر: أنا حسين شحاتة، ومن أنت؟
وقال الشاب على الناحية الأخرى من الفتاة: أهلا، أنا محمود أدهم.
فقال حسين وهو يحتضن مكانا خاليا من جسم الفتاة: أهلا فرصة سعيدة. من سنين وأنا أريد التعرف بك. - ها نحن أولاء تعارفنا.
وحين خرج الثلاثة من الحجرة، وجد حسين أن الحفل لم يكن مقصورا على أربعتهم، فقد جاء أغلب كتاب المجلة، وأعلن أمين أن الحفل مقام لمناسبة إزاحة الجبة عن جثة حسين شحاته. وكان الشعراء منهم قد أعدوا قصائد بهذه المناسبة، وارتجل حسين قصيدة يفخم فيها من شأن نفسه، ويهون من أقدار الناس جميعا إلا هو. وجرت الكأس والضحكات.
الفصل الرابع والعشرون
لم يعد زين العابدين بك يستطيع أن يسهر كثيرا، فكان كلما جاء إلى القاهرة مدعيا زيارة ابنته المقيمة عند جدها يذهب إلى صديقته الجديدة نعمات هشيكة بعد الظهيرة فيجلس إليها في بيتها، ثم يصحبها بعد ذلك في عربة حنطور تجوب بهما الجزيرة، حتى إذا اقترب المساء سارت بهما العربة إلى الكباريه فيتركها هناك وينصرف هو إلى بيته أو مقهاه.
لم تكن نعمات هشيكة جميلة، لا ولا كانت فتاة في مقتبل العمر، إنما هي بقية من ماض تخلف في الكباريه متروكة لمثل زين العابدين ليقنع بها نفسه أنه ما زال الفتى الذي كانه منذ نيف وعشرين عاما.
وهكذا كانت نعمات قانعة بنصيبها من زين العابدين، وقد كانت امرأة تحسن الحديث وتستطيع أن تعيد إلى زين العابدين ماضيه صورا من الحديث بعد أن عجز أن يستحضره فتوة وشبابا؛ فهي تذكره بغزواته مع العراقية وسنية شخلع وأنيسة ولعة وغيرهن، وتقص - ومن القصص ما هو خيال - كيف كن يتشاجرن ليحظين بصحبته، ويقول زين العابدين في نفسه لعل هذا كان حقا، ويحاول أن يقنع نفسه أن لعلها لا تكذب، فإذا عجزت نفسه أن تقتنع راح يلتذ هذا الكذب، ويحاول أن يقربه من الصدق فيهمس إلى نفسه ليس؛ من الضروري أن يكون كذبا لأنه لم يقع، فإنه كان خليقا أن يحصل على أية حال. ومن أدراني؟ فنعمات أدرى بدخائلهن وما كان يدور بينهن من حروب وقتال.
ولم تكن نعمات تريد من هذا الحديث إلا إدخال السرور إلى نفسه، فهي تعلم أنه يهدي إليها أقصى ما تستطيع ثروته أن تحتمل، وأنه يقدم لها كل ما يطيق أن يقدم، وما كانت تريد أن تشق عليه في شيء حتى لا ينقطع ما بينهما، فقد كانت على ثقة أن صلتها بزين العابدين هي خاتمة المطاف في حياتها الطويلة العريضة في دنيا الكباريه، فكانت تدري أنها تنهي حياتها العملية بزين العابدين، فهي متشبثة به تشبثها بالحياة، فهي منذ نيف وأربعين عاما لا تعرف لنفسها حياة إلا الكباريه والصديق.
وقد أصبحت في الكباريه مشرفة إدارية، فهي لا تحس أنها أنثى إلا مع زين العابدين، وإحساسها أنها أنثى هو كل شيء بالنسبة إليها، كل شيء؛ فهي تكاد تثق أن حياتها تنتهي بانتهاء الصلة بينها وبين زين العابدين.
Unknown page