وهكذا هبط حسين القاهرة لأول مرة في رفقة زين العابدين بك، ولو لم يكن في هذه الرفقة لعاد مرة أخرى طريقه إلى القرية وقد استقر في نفسه أن القاهرة جميعا ترتحل؛ وإلا فما هذا الزحام وهذه الضجة، وهؤلاء الناس، وما لهم جميعا ملهوفين متسارعين تتصادم أيديهم، أو يتصادمون جميعا بعضهم ببعض، كأنهم مطالب الحياة المتعارضة المتضاربة! أهكذا المدينة، يعجل أهلها إلى مقاصدهم في هذه السرعة اللاهفة، وهذا الجد الصارم؟ ما لهم يمر بعضهم ببعض أو يحتك بعضهم ببعض، فلا تحية ولا سلام، ولا حتى اعتذار؟! مشدوه حسين مما يرى، فهو ذاهل عما يحمله من أثاث ومئونة. يتولى عنه زين العابدين بك الإنفاق على الحمالين، وقد كان الأثاث قليلا غاية القلة، وكانت المئونة كثيرة غاية الكثرة؛ فالأثاث سرير وصندوق كبير، والمئونة سلال متكاثرة انسكبت عليه من حنان الحاجة بمبة، ومن شعور جده وجدته بما عليهما من واجب نحوه.
وفي غمرة الدهش والذهول وجد حسين نفسه مسوقا مع الموجات المسوقة، وقد أمسكت بذراعه يد زين العابدين لا تفلته، وأحس لحظة باليد، وخيل إليه - وإن كان لا يدري لماذا - أن يدا ما تمسك هؤلاء السائرين جميعا؛ فهم قطيع سائر يلتمس المرعى أو يلتمس المأمن.
وخرج حسين إلى باحة المحطة الخارجية. إن ثمة متسعا كسعة الريف، ولكن العربات الكارو، والحنطور، والسيارات، والناس، تعدو على هذه السعة، فهي زحام. ووجد نفسه في عربة حنطور بجانب زين العابدين بك وكاد ينسى ما يحمله، ولكنه نظر خلفه فوجد كل ما حملته إياه القرية قد وضع في عربة حنطور أخرى فلم يملأ من فراغها إلا قليلا! نعم إلا قليلا؛ فما أقل ما حمل من القرية من أثاث، وما أكثر ما حمل من القرية في نفسه!
وراحت العربة تسعى بهما في شوارع القاهرة. الحصان يسير وقد وضعت حول عينيه من الجانبين قطعتان من الجلد؛ حتى لا يبصر إلا ما يريد له قائده أن يبصر، فهو يمشي بالعربة، ولا يملك أن يبصر إلا ما تتركه له قطعتا الجلد، فالطريق أمامه ليس إلا بقية مما تترك له الغمامة، وصاحبه مع ذلك لا يعفيه من الضرب، فهو يسوطه من حين إلى آخر. ونظر حسين إلى الحصان؛ لقد عرف الحصان طريقه وإن تكن غمامة حول عينيه، وإن يكن صاحبه يسوطه إلا أنه عرف طريقه، أيستطيع هو أن يعرف طريقه؟ أتراه يعرف طريقه؟ إنه تائه في هذا الزحام وفي هذه الشوارع الواسعة، ودون وعي أمسك بذراع زين العابدين، وتمنى لو يبقى معه لا يتركه، ولكن هيهات! فإنه ليعلم أنه ما هو إلا بعض الوقت حتى يتركه زين العابدين فردا يواجه هذه القاهرة جميعا بكل ما فيها من ناس وخيل وعربات وعلم.
البيوت الفخمة الضخمة يتضاءل بجانبها أكبر بيت في القرية، والمآذن الفارعة سامقة إلى السماء، فالأذان منها دعوة من السماء إلى الأرض أن تشرئب إلى الله؛ هدى في السبيل القاتم، وضياء يبدد الظلمات، وصفاء يدحر العتمة الكثيفة من الرغبات اللاهثة والمطالب المتزاحمة. والناس يمضون في سبلهم لا يرفعون للمآذن عينا، ولا يعنيهم إلا ما يقصدون إليه، وحسين يزداد ذهولا على ذهول، وزين العابدين يتفزز على مقعده في العربة يريد أن ينتهي من هذه المهمة لينصرف إلى قاهرته التي لا يعرف غيرها هناك في البار، ومع النسوة اللاتي يستبدل الواحدة منهن بأخرى، ضاربا بوعده لابنته - وهي بعد وليدة - عرض الأفق، والعربة يسعى بها الحصان والسوط يسوطه كلما جرى بضع خطوات في أوقات تكون منتظمة، فما فعل شيئا يساط من أجله، وإنما هي رغبة سائقه وحبه أن يسوط شيئا، أي شيء، دون أن تدعو لهذا حاجة من تلكئ، أو عصيان لأمر.
وفجأة انتقلت العربة من الشوارع الفسيحة العريضة إلى أخرى ضيقة، ما زالت تضيق حتى أصبحت العربة لا تسير إلا بشق النفس، فهي تزحف زحفا، وتنهال السياط على الحصان، ويتدافع السباب إلى المارة، فما تجدي السياط، ولا يفلح السباب. والتفت السائق إلى زين العابدين يسأله عما يريد من مناطق الدراسة. وقال زين العابدين: أريد أن أجد بيتا للشيخ.
وتنبه حسين فجأة أنه شيخ، وأنه يلبس العمامة والجبة الخضراء والقفطان الزيتوني. لقد أذهلته القاهرة عن نفسه، وعما يلبس.
وقال سائق العربة: أعرف بيتا هنا به حجرة خالية على سطح. أتريد أكثر من حجرة يا مولانا؟
وابتهج حسين من كلمة مولانا، وقبل أن يجيب كان زين العابدين يقول: وأقل من غرفة إن أمكن. أين هي؟
وقال السائق: نترك العربتين هنا ونذهب لنتفق. - وقال زين العابدين: لماذا؟ ألا نستطيع أن نذهب بالعربة إلى هناك؟ - البيت في زقاق ضيق.
Unknown page