Cuthman Ibn Caffan
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
Genres
ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.» ثم إنه دعا إليه أبا طلحة الأنصاري، وكان من الشجعان المعدودين فقال له: «يا أبا طلحة. كن في خمسين من قومك الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدا يدخل عليهم، ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم. اللهم أنت خليفتي عليهم.»
قبض عمر وآن للشورى أن يجتمعوا ليختاروا أحدهم خليفة على المسلمين. واجتمعوا وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم ولم يرضوا أن يجلس المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما وقال لهما: «تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى.» وبدءوا يتشاورون فما لبثوا أن اشتد بينهم الجدل، وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم. فدخل عليهم وقال لهم: «إني كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها. والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون.»
كيف اشتجر الخلاف بين القوم وبلغ هذه الحدة، وكلهم من كبار صحابة رسول الله ومن أحسن المسلمين إيمانا بالله ورسوله؟
لقد رأينا ما شجر من خلاف بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة يسرع إلى تسليم الأنصار بحق قريش في الخلافة. وكان أبو بكر يومئذ جالسا بين عمر وأبي عبيدة. فأخذ بيد كل منهما وقال لمن حوله: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة - فأيهما شئتم فبايعوا.» وسمع عمر هذا الكلام فقال: «ابسط يدك يا أبا بكر»، وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وبايعه أبو عبيدة وبايعه الحاضرون جميعا خلا سعد بن عبادة زعيم الأنصار. وأصبح أبو بكر خليفة رسول الله في حكم الدول العربية الإسلامية، حتى إذا حضرته الوفاة لم يجد مشقة ذات بال في جمع كلمة المسلمين على استخلاف عمر.
ألم يكن للشورى في هذين الموقفين عبرة تسمو بهم على الاختلاف، وتدعوهم للاتفاق على من يبايعه المسلمون منهم على الخلافة؟
والواقع أن الأحوال التي أحاطت بالشورى كانت مختلفة كل الاختلاف عما أحاط بالمهاجرين والأنصار يوم السقيفة، وعما أحاط بالمسلمين يوم استخلف أبو بكر عمر. فيوم توفى الله رسوله كانت شبه الجزيرة ولما تلتئم وحدتها، وكانت أنباء المستنبئين في بني أسد وفي بني حنيفة وفي اليمن ذائعة يعرفها المهاجرون والأنصار، وكان الخوف من انتفاض العرب على الدين الجديد وعلى سلطان المدينة يساور النفوس، فكان ذلك كله واضح الأثر في جمع كلمة المجتمعين بالسقيفة. وزاد كلمتهم إسراعا إلى الاجتماع أن رسول الله كان قد أمر ببعث أسامة بن زيد على رأس جيش يواجه الروم، فزادهم ذلك تقديرا لدقة الموقف وجسامة التبعة التي يحملها من يقوم في خلافة رسول الله، ولم يكن المهاجرون ولا كان الأنصار قد عرفوا يومئذ من إغراء الفيء، ومن تدفقه على المدينة ما يجعلهم يرون الخلافة مغنما؛ لذلك كان الجدل بينهم دائرا حول دين الله ونصرته ومن يجب أن يخلف رسول الله فيها. أما ما وراء ذلك من شئون الملك وسلطانه فلم يكن يدور بخواطرهم إلا لماما. وكأنما استمسك الأنصار أول الأمر بحقهم في الاستئثار بالخلافة أو بالاشتراك فيها؛ لأن المدينة مدينتهم؛ ولأن المهاجرين طارئون عليهم فيها فهم أحق الناس بولاية أمرها وتدبير شئونها. فلما تبين لهم من محاورات السقيفة أن الأمر ليس أمر المدينة وحدها، ولكنه أمر الدين الناشئ أقروا بما للسابقين الأولين إلى هذا الدين وإلى صحبة رسول الله من حق في خلافته.
ويوم استخلف أبو بكر عمر كانت جيوش المسلمين بالعراق والشام تلقى الفرس والروم وتقف منهم موقف المدافع، ولا يعلم أحد ما يصير إليهم الأمر. بل لقد تثاقل المسلمون عن الذهاب إلى العراق ينصرون المثنى بن حارثة فيه، وأقاموا ثلاثة أيام لا يلبي أحد منهم دعوة عمر فزعا من الفرس وهيبة لهم. وليس حمل التبعة في هذا الموقف الدقيق مما يتنافس فيه المتنافسون يحاول كل أن يستأثر به لنفسه. وتقدير أبي بكر دقة هذا الموقف هو الذي دعاه لاستخلاف عمر؛ لأنه رآه أصلب أصحابه عودا وأقدرهم على متابعة سياسة لا بد لنجاحها من صلابة كصلابة عمر وعزم كعزمه. ورضي المسلمون خلافة عمر مع علمهم بشدته وغلظته، ولم ينافسه في هذه الخلافة أحد؛ لأنهم كانوا مشفقين من حرب الفرس والروم، تساورهم الحشية ألا يكتب الظفر للمسلمين الذين يواجهونهم، وأن يترتب على ذلك من النتائج ما تخشى عواقبه. فلما تولى عمر نجح في سياسة التوسع والفتح، فأقام الإمبراطورية الإسلامية وجعل من المدينة عاصمة العالم، ومن بلاد العرب الدولة الكبرى ترنو إليها أنظار الأمم جميعا من كل صوب، وتتدفق إليها الأموال من أرجاء الإمبراطورية أكداسا، فلا يدري عمر أيعدها عدا أم يكيلها كيلا، تبدلت الحال غير الحال ولم يبق عجبا أن يختلف الشورى، وأن يشتد بينهم الخلاف يريد كل منهم أن تكون الخلافة له.
وثم عامل آخر أثار الخلاف، ثم كان عميق الأثر في حياة الدولة من بعد. ذلك هو تنافس القبائل من قريش تنافسا كان قويا واضح الأثر في الجاهلية، فلما بعث النبي ودعا إلى المساواة وإلى الحق وإلى العدل المجرد عن الهوى كمن هذا التنافس في حياة الرسول، ثم بدأ يظهر عقب وفاته ولكن على استحياء. فلما انقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر ورأى العرب استعلاءهم على الفرس والروم برزت العصبية للقبيلة كرة أخرى، وعاد الناس يذكرون ما كان في الجاهلية من تنافس بين بني هاشم وبني أمية، وما كان لغيرها من القبائل من المكانة بمكة تدعوها جميعا إلى التنابذ والتناحر.
ويرجع التنافس بين بني هاشم وبني أمية إلى أكثر من مائة سنة قبل مولد النبي، فقد اجتمعت مناصب البيت الحرام كلها إلى قصي بن كلاب، وأقر أهل مكة بإمارته عليهم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد. وكان لقصي ثلاثة بنين هم عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى، فلما كبر قصي وعجز عن الاضطلاع بالأمر جعل إمارة مكة ومناصب البيت الحرام لعبد الدار أكبر بنيه، وكان بنو عبد مناف أشرف في قومهم وأعظم مكانة. وكانوا أربعة هم: عبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب، وأغرتهم قوتهم بأن أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عمومتهم. وانقسمت قريش حلفين: حلف المطيبين ينصر بني عبد مناف، وحلف الأحلاف ينصر بني عبد الدار. ثم تداعى القوم إلى الصلح، فجعلوا لبني عبد مناف السقاية والرفادة،
3
Unknown page