ونظن أنه يوجد أقوام آخرون سامهم سادتهم في الزمن السابق - ويسومونهم الآن - ما لا تسام به السوائم الراعية، وهم على القرب منا وليسوا ببعيد عنا.
عجبا، كيف تتبدل أحكام الجبلة وكيف يمحى أثر الفطرة؟ كيف تسفل النفس حتى لا تطلب رفعة؟ وكيف تقنط حتى لا يكون لها أمل، والأمل وحب الكرامة طبيعيان في الإنسان؟ بعد إمعان النظر نجد السبب في ذلك ظن الإنسان أن جميع أعماله إنما تصدر عن قدرته وإرادته بالاستقلال، وأن قوته هي سلطان أعماله، وليس فوق يده يد تمده بالمعونة أو تصده بالقهر، فإذا صادفته الموانع مرة بعد أخرى وقطعت عليه سبيل الوصول لمطلبه، رجع إلى قدرته فوجدها فانية، وقوته فرآها واهنة، فيعترف بوهنه، ويسكن إلى عجزه، فييأس ويقنط، ويذل ويسفل اعتقادا منه بأنه لا دافع لتلك الموانع التي تعاصت على قدرته، ومتى كانت قوة المانع أعظم من قوته فلا سبيل إلى العمل لاستحالة قهر المانع، فيقطع الأمل فيقع في الشقاء الأبدي.
أما لو أيقن أن لهذا الكون مدبرا عظيم القدرة تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوة لجبروته الأعلى، وأن ذلك القادر العظيم بيده مقاليد ملكه يصرف عباده كيف يشاء؛ لما أمكن مع هذا اليقين أن يتحكم فيه اليأس، وتغتال آماله غائلة القنوط، فإن صاحب اليقين لو نظر إلى ضعف قدرته لا يفوته النظر إلى قوة الله التي هي أعلى من كل قوة، فيركن إليها في أعماله، ولا يجد اليأس إلى نفسه طريقا، فكلما تعاظمت عليه الشدائد زادت همته انبعاثا في مدافعتها معتمدا على أن قدرة الله أعظم منها، وكلما أغلق في وجهه باب فتحت له من الركون إلى الله أبواب، فلا يمل ولا يكل، ولا تدركه السآمة، لاعتقاده أن في قدرة مدبر الكون أن يقهر الأعزاء، ويلقي قيادهم إلى الأذلاء، وأن يدك الجبال، ويشق البحار، ويمكن الضعفاء من نواصي الأقوياء، وكم كانت لقدرة الله من هذه الآثار.
فتشتد عزيمته ويدأب فيما كلفه الله من السعي لنيل الكمال والفوز بما أعده الله له من السعادة في الأولى والآخرة، وما كان لموقن بالله وبقدرته وعزته وجبروته أن يقنط وييأس، ولهذا أخبر الله تعالى عن الواقع والحقيقة التي لا ريبة فيها بما قال وهو أصدق القائلين:
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، وبما حكي من قول نبيه إبراهيم:
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، فقد جعل الله اليأس والقنوط دليلا على الكفر، ومن أين يطرق اليأس قلبا عقد على الإيمان بالله وقدرته الكاملة.
لهذا نقول: إن المسلمين لا يسمح لهم يقينهم بالله وبما جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام - أن يقنطوا من رحمة ربهم في إعادة مجدهم مع كثرة عددهم، ولا يسوغ لهم إيمانهم أن يرضخوا للذل، ويرضوا للضيم، ويتقاعدوا عن إعلاء كلمتهم وهم إلى الآن محفوظون مما ابتلي به كثير من الأمم، فإن لهم ملوكا عظاما، ولا يزال في أيديهم ملك عظيم على بسيط الأرض، وإن من الحق أن نقول: إن أبواب رحمة الله مفتحة لديهم وما عليهم سوى أن يلجوها، وإن روح الله نافحة عليهم وما يلزمهم سوى أن يستنشقوها، والفرص دائما تمد أيديها إليهم تطلب إنهاضهم وتنبه غافلهم وتوقظ نائمهم، وليس عليهم في استرجاع مكانتهم الأولى والصعود إلى مقامهم الأول إلا أن يجمعوا كلمتهم ويتعاونوا على ما يقصدون من إعزاز ملتهم، وذلك أيسر ما يكون عليهم، بعد تمكن الجامعة الدينية بينهم، فأي موجب لليأس وأي داع للقنوط وبين أيديهم كتاب الله الناطق بأن اليأس من أوصاف الضالين، وهل توجد واسطة بين الرشد والغي
فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ هل يكون للقانطين فيهم من عذر؟ أيرضون بالعبودية للأجانب بعد تلك السيادة العليا، ماذا يبتغون من الحياة إن كانت في ذل وإهانة وفقر وفاقة وشقاء دائم بيد عدو غاشم؟ أيطمئنون وهم بين أجنبي حاكم، وبغيض شامت، ومقبح غبي، ومشنع دني، ومعير خسيس ، يرمونهم بضعف العقول ونقص الاستعداد، ويحكمون بأن محالا عليهم أن يصيروا أمة في عداد الأمم؟ ألم ينسلخ الإنسان عن كل خاصة إنسانية؟ كيف يرضى بحياة مكتنفة بكل هذه التعاسات والمكدرات؟ أينسون أنهم كانوا الأعلين في الأرض وما طال على ذلك الزمان، ولا محيت التواريخ ولا عفت الآثار، ولا اضمحلت بالكلية شوكة المسلمين من وجه الأرض.
إن كان للعامة عذر في الغفلة عما أوجب الله عليهم، فأي عذر يكون للعلماء وهم حفظة الشرع والراسخون في علومه، لم لا يسعون في توحيد متفرق المسلمين؟ لم لا يبذلون الجهد في جمع شملهم؟ لم لا يفرغون الوسع لإصلاح ما فسد من ذات بينهم؟ لم لا يأتون على ما في الطاقة لتقوية آمال المسلمين، وتذكيرهم بوعود الله التي لا تخلف لمن صدق في طاعته واليقين به، وتبشيرهم بهبوب روح الله على أرواحهم؟
بلى، إن قوما شرح الله صدرهم للإيمان قاموا بهذا الأمر في مواقع مختلفة من الأرض، يجمع التواصل بينها عقدة واحدة، إلا أن أملنا في بقية المسلمين أن يتفقوا معهم ويقوموا بتعضيدهم، ليتمكن الجميع من نصر الله
Unknown page