هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان وفيه تبصرة لمن يتبصر، وتذكرة لمن يتذكر، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يصب برزيئة في عقله أن الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟ لا نخال عاقلا يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذرون بما لا يدرون؟ أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي فقط، واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل، ويعبرون عنه بمحبة الوطن، وأي قاعدة من قواعد العمران البشري في التهاون بالتعصب الديني المعتدل وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟
نعم، إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما في الرابطة الدينية، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين وأوطانهم؛ فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة الإسلامية، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعا وأحزابا؛ فإنهم علموا - كما علمنا وعلم العقلاء أجمعون - أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلا وتقليدا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعدما فقدوها ولم يستبدلوا بها رابطة الجنس التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقا منهم وسفاهة، فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنا سواه فاضطر للإقامة بالعراء معرضا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.
من هذا ما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بالعراء بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم لقرب عهدها بهم، وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبة الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم؛ فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام، ويلبسون لباس المسلمين، وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعروفون في البلاد الهندية بالنيجرية أي الدهريين، فاتخذهم الإنجليز أعوانا لهم على فساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني، ليطفئوا بذلك نار حميتهم ويخمدوا ثائرة غيرتهم، ويبددوا جمعهم، ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة كبيرة في «عليكر» ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين حتى يعم الضعف في العقائد وترث أطناب الصلات بين المسلمين، فيستريح الإنجليز في التسلط عليهم، وتطمئن قلوبهم من جهتهم كما اطمأنت من جهة غيرهم، وغر أولئك الغفل المتزندقين أن رجال دولة بريطانيا يظهرون لهم رعاية صورية، ويدنونهم من بعض الوظائف الخسيسة - تعس من يبيع ملته بلقمة وذمته برذال العيش!
هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره، فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدا من الأمراء والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضا من سذج المسلمين - مع بقائهم على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم - يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني، ويهجرون في رمي المتعصبين بالخشونة، والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم، ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء.
والله ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم، وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذاهبهم في ناحية من نواحي الشرق سمعت صياحا وعويلا وهيعات ونياءات تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة، وحدثت حادثة مهمة، فأجمعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها، حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء؛ يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين وإن كان في أقصى قاصية من الأرض، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر البسيطة من دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب، فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس، بل يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية، كأنما يعدون الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية، وليس من نوع الإنسان الذي يزعم الأوروبيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصا بالمتدينين منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني، ولا يألون جهدا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق، ولكن كثيرا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب ...!
يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كجلادستون، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب،
7
بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة).
فيا أيتها الأمة المرحومة، هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تريقوها، وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم بثمن فلا تبيعوها دون الموت، هذه هي روابطكم الدينية فلا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات، ولا تدهشكم زخارف الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها العربي بالتركي، والفارسي بالهندي، والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية حتى إن الرجل منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره.
Unknown page