194

ولما استقرت أقدامهم في الهند وألقوا به عصاهم ومحيت آثار السلطنة التيمورية؛ نظروا إلى البلاد نظرة ثانية فوجدوا فيها خمسين مليونا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يتلى بينهم فمحال أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة والمكر تحت ستار المحبة والصداقة.

فطفقوا يتشبثون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كتب الكتب ونشر الرسائل محشوة بالطعن في الديانة الإسلامية، مفعمة بالشتم والسباب لصاحب الشريعة (برأه الله مما قالوا)، فأتوا من هذا العمل الشنيع مما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يقيم على أرض تنشر فيها تلك الكتب، وأن يسكن تحت سماء تشرق شمسها على مرتكبي ذلك الإفك العظيم.

وما قصدهم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين، وحملهم على التدين بمذهب الإنجليز، هذا من جهة، ومن جهة أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم، من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظماءهم إلى جزائر «أندومان» و«فلفلان» رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة إن لم تفدهم الأولى في رد المسلمين عن دينهم، بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم.

فلما خاب أمل أولئك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية؛ نزعوا إلى تدبير آخر في إزالة الدين الإسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين أصحاب ذلك الملك المنهوب والحق المسلوب، فاتفق أن رجلا اسمه أحمد خان بهادور (لقب تعظيم في الهند) كان يحوم حول الإنجليز لينال فائدة منهم، فعرض نفسه عليهم وخطا بضع خطوات لخلع دينه والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ سيره بكتابة كتاب يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لينال بذلك الزلفى عندهم، ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني ، وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرا جزيلا، خصوصا وقد أتى بمثل كتابه ألوف من القسس والبطارقة وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصا معدودة، فأخذ طريقا آخر في خدمة حكامه الإنجليز بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم.

فظهر بمظهر الطبيعيين (الدهريين) ونادى بأن لا وجود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إله حكيم (إن هذا إلا الضلال المبين)، وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع (نعوذ بالله)، ولقب نفسه بالنيجري (الطبيعي)، وأخذ يغري أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين، فمال إليه أشخاص منهم؛ تملصا من قيود الشرع الشريف وسعيا وراء الشهوات البهيمية، فراق لحكام الإنجليز مشربه ورأوا فيه خير وسلية لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه وتكريمه، وساعدوه على بناء مدرسة في «علي كده» وسموها مدرسة المحمديين، لتكون فخا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل (أحمد خان بهادور).

وكتب أحمد خان تفسيرا على القرآن فحرف الكلم عن مواضعه، وبدل ما أنزل الله، وأنشأ جريدة باسم تهذيب الأخلاق، لا ينشر فيها إلا ما يضل عقول المسلمين، ويوقع الشقاق بينهم، ويلقي العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم، خصوصا بينهم وبين العثمانيين، وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة (لكن لا يدعو إلا المسلمين) ونادى: الطبيعة! الطبيعة! ليوسوس للناس بأن أوروبا ما تقدمت في المدنية، وما ارتقت في العلم والصنعة، وما فاقت في القوة والاقتدار إلا برفض الأديان، والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين (على زعمه وهو بيان مسالك الطبيعة، قد افترى على الله كذبا).

ولما كنا في الهند أحسسنا من بعض ضعفاء العقول اغترارا بترهات هذا الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد وما ينشأ عنه من المفاسد، وأثبتنا أن الدين أساس المدنية وقوام العمران، وطبعت رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية. إن أحمد خان ومن تبعه خلعوا لباس الدين وجهروا بالدعوة إلى خلعه ابتغاء الفتنة بالمسلمين وطلبا لتفريق كلمتهم، وزادوا على زيفهم أنهم يزرعون الشقاق بين أهل الهند وسائر المسلمين، وكتبوا عدة كتب في معارضة الخلافة الإسلامية.

هؤلاء الدهريون ليسوا كالدهريين في أوروبا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويبذل في ترقيتها والمدافعة عنها نفائس أمواله، ويفدي مصلحتها بروحه.

أما أحمد خان وأصحابه فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين؛ يهولون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية، وينقبون على المصالح الوطنية التي ربما غفل الإنجليز عن سلبها لينبهوا الحكومة عليها فلا تدعها!

يفعلون هذا لا لأجر جزيل، ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد ... (هكذا يمتاز دهريو الشرق عن دهريي الغرب، بالخسة والدناءة بعد الكفر والزندقة).

Unknown page