186

إن الإنجليز - على عادتهم المألوفة - إذا قصدوا الاستيلاء على قطر لا يصرحون بقصدهم حتى يتمكنوا فيه، ولا يبقى لهم منازع في الداخل ولا في الخارج، فلو فرضنا أن المصريين والدول أجمعين اتفقوا الآن وطلبوا من إنجلترا أن تعلن بتملكها لمصر لامتنعت الحكومة الإنجليزية وأظهرت العفة والقناعة، ولظهر المستر جلادستون في دلوق الزهاد ولصالح جميع الإنجليز من جميع الأحزاب، أستغفر الله لا نريد سوى إصلاح البلاد وتوفير خيراتها! وتحت هذا الحجاب يتصرفون تصرف الملاك ويختصون بالوظائف العليا، ويديرون حكومة البلاد على رغبتهم، وينقلون ثروتها إلى جزيرتهم، ويمزقونها قطعا يهبون منها ما لا يهمهم لأعداء البلاد، ليعينوهم على تذليلها واستعبادها.

وثانيا:

إن حكومة الإنجليز من أضعف الحكومات في القوة العسكرية البرية، وأحد سلاحها التهديد، واكبر قوتها التهويل، ووضع الأمور الصغيرة تحت النظارات العميقة؛ لترهب بذلك كل جاهل، وتخيف كل غبي، لهذا لا تتمكن بدسائسها في قطر إلا عند سكون أهاليه، فإذا نبذ الأهالي طاعتها، وعارضوها في أعمالها، سترت ضعفها بترك البلاد لأهلها؛ فإن مقاومة الأهالي أشد بأضعاف مضاعفة من القوة العسكرية المجتمعة في أماكن مخصوصة تحت قيادة رؤساء معينين، تنهزم بانهزامهم، وما جرى لحكومة إنجلترا مع الأفغانيين أعظم شاهد على ما نقول.

دخلت الحكومة الإنجليزية أرض الأفغان بستين ألف عسكري واستولت على المدن، وكاد قدومها يرسخ في البلاد، فلما قام الأهالي من كل صقع، والتحمت المقاتل في جميع أنحاء أفغانستان، عجز الستون ألفا عن الوقوف موقف الدفاع، واضطرت حكومة إنجلترا بعد تسلطها سنتين ، وبعد صرف ثلاثين مليون جنيه إسترليني؛ أن تطلب الأمير عبد الرحمن خان من روسيا بعدما أقام عند الروسيين اثنتي عشرة سنة معززا مكرما، وأن تقدم له أربعة ملايين من الجنيهات لينفقها في إدارة بلاده، وتركت له البلاد وولت.

حكومة الإنجليز إنما تخصع للضرورة وللضرورة أحكام، فعلى قبائل العرب في مصر وشمائخها أن يتذكروا شهامتهم العربية، وحميتهم الدينية، ويقتدوا بالأفغانيين؛ لينقذوا بلادهم من أيدي أعدائهم الأجانب، الذين لو تمكنوا في البلاد لمحقوهم وأذلوهم، وليس من الفتنة أن ندعوهم إلى طلب الحقوق والدفاع عن الدين والوطن كما يظن بعض المتطفلين على موائد السياسة، فإنما ننادي على صاحب البيت أن يدافع عن حريمه وماله وشرفه، وأن يخرج مخالب عدوه من أحشائه، وهي سنة جرى عليها دعاة الحق في كل أمة، وتاريخ أوروبا القديم والحديث، وتواريخ الأمم الشرقية أولها وآخرها تنطق بصدق ما نقول.

وعلى المصريين عموما والفلاحين خصوصا أن يجمعوا أمرهم على أن يمنعوا الحكومة كل ما تطلب منهم، وأن يرفعوا أصواتهم بنداء واحد قائلين: لا نطيع إلا حاكما وطنيا مسلما نافذ الكلمة حازم الرأي، قادرا على إدارة البلاد بقوة وطنية، وليستصرخوا في ذلك جميع الدول ويبرهنوا على قدرتهم، ويقيموا الأدلة على أن مصلحة الدائنين لا يمكن حفظها إلا بإجابة طلبهم، فإن فعلوا هذا وجدوا لهم من الدول أنصارا، بل ومن الجنس الإنجليزي نفسه!

على الدولة العثمانية أن تتذكر أنه لولا فرمانها بعصيان عرابي لما سهل للإنجليز أن يدخلوا أرض مصر،

2

ولا أصابوا هذه الغنيمة باردة، فلتنظر إلى قوتها ونفوذها وتلاحظ أن الحل على من عقد، والعقد على من حل، ولا تنس أن مصر حبكة الممالك العثمانية كما بينا مرارا، ولا تغفل من النمسا وشرهها، وروسيا وطمعها، وفرنسا وآمالها، فمن الأمور الطبيعية أن المنافسة أو الموازنة تدعو الأقران إلى التسابق في الأطماع، وإذا فرط متساهل في أهل ملته فلن يجد منهم فيما بعد عونا، لو تحرك العثمانيون لرأوا عونا من جميع المسلمين؛ خصوصا وقد حصلت كدورة بين إمارة الأفغان وحكومة الإنجليز، بل نكرر ما قلناه مرارا من أن نفوذ العثمانيين في الهند يمنع الإنجليز من الجهر بعداوتهم البتة، فهذه فرصة الإقدام، فإن ولت الفرصة فربما يصعب التلافي، ولا يبقى إلا الندم، حيث لا ينفع الندم - وفق الله الدولة العثمانية إلى ما فيه خيرها وخير المسلمين، وبصرها بالرشد وكفاها شرور المفسدين.

الفصل الرابع والثمانون

Unknown page