وارتفعت الأصوات بالشكوى منهم في عموم الجرائد الوطنية، فوقفت حركة الأعمال العمومية، وبدت للناس شئون عدلت بهم عن ضرورات معاشهم، وامتنع المدينون من أداء ما عليهم لدائنيهم من التجار والربويين؛ فقبض المقرضون أيديهم واحتكروا نقودهم لفقد ثقتهم وإشفاقهم من الضياع على رءوس أموالهم، وإن أصيبوا بالحرمان من الربح وابتلوا بالخسارة في رأس المال من قبيل آخر.
واشتدت الحاجة بالفلاحين إلى ما يعوض عليهم من ماشية في الحراثة بعدما اغتالها التيفوس، وما يجددون أو يصلحون به آلاتهم الزراعية، ويستعينون به على نجاحها حسب العادة التي ألفوها، فعميت عليهم من السبل، وضاقت بهم المسالك، ولم يجدوا لسد حاجتهم سبيلا؛ ففسدت الزراعة وانتقصت ثمراتها، وانحطت أسعار الحاصلات لارتباك الأحوال إلى حد ما كان يسمع إلا في القصص وروايات القدماء قبل محمد علي باشا، ومطالب الحكومة في ضرائبها ورسومها على حالها الأول مع الإغلاظ في اقتضائها، فعم العسر وأحاط الضنك، وتقوضت آلاف من البيوت التجارية، وأتربت أيدي ملايين من عمال الصناعة، وأعدم المزارعون قاطبة إلا نزر يسير من حفظة الكنوز أو المستأثرين بأموال الكافة نهبا وسلبا.
باع الفلاح أثاث بيته، بل وما أبقاه التيفوس من عاملة أرضه، بعدما ذهبت الحاجة بحلي حرمه وبناته ليؤدي ما عليه لحكومته، ولم ينل من نضارة العيش ما يقوم بحفظ حياته، وعاد إلى الفطرة الأولى يقتات بأقوات البهائم ويسرح مسارح الحيوانات إلا قليلا منهم الله يعلمهم.
وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه وإن ضعفت، واتباع بواطل التهم وإن بعدت، أو استحالت، حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه، وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارا بطريق إلا وهو يستلفت خلفه لينظر؛ هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فدا. وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة ، وله من كل شاخص دهشة ومن كل طارق لبابه غشية، أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!
هذا ما تنشق له المرائر من أحوال سكان القطر المصري، هذا بعض ما يضيق به الصدر، وتنقبض له الأنفس، مما رزئوا به بعدما تكفل أحباؤهم الأولون بالدفاع عنهم وتخليصهم من الفوضوية السابقة، هذه طلائع الإصلاح المبشر به من زمان بعيد على ألسنة رسله، أصبح الأهالي حيارى في أموالهم، تائهين عن رشادهم، لا يعلمون ماذا يحل بهم، يذكرون من أحوالهم السابقة ما كانت الدول الأوروبية تسميه ضيقا وعناء وتمنيهم بالإنقاذ منه فيحنون إليه ويودون لو رجعوا إليه، ويحسبونه غاية سعادتهم، بعد هذه الحالة التي هم فيها.
أبعد هذا يصح لمصري أن يظن أن تلك الرزايا التي حلت ببلاده من نحو عشرين شهرا كانت مقدمة لإصلاحها وتنظيم شئونها؟! نعم يمكن أن يخطر بالبال أنها تمهيد لعمل صناعي في الأراضي المصرية كتقويم طرقها، وإقامة جسورها، وتكثير جداولها، وتقوية مواد الخصب فيها، حتى تعود بعد مدة جنة من جنات الدنيا، أو روضة من رياض الآخرة، أما الأهالي فليسوا بموضع النظر فإنهم إن هلكوا ورث الأرض بعدهم قوم آخرون.
فإن لم يكن هذا فليكن تمام الإصلاح الذي لا يمثله الخاطر، في وقتنا الحاضر، ولا يكفي للبداة فيه سنون معدودة على قياس الإصلاح المنتظر في بلاد بنجاب (من الممالك الهندية)، فإن الدولة التي تولت إصلاح الشئون المصرية في هذه الأيام، دخلت بلاد بنجاب بهذه الحجة، واستولت عليها من مدة أربعين سنة، ولم تزل إلى الآن حكومتها عسكرية، ولم يشرع فيها بتنظيم مدني، فلينتظر إخواننا المصريون فإنا معهم من المنتظرين.
الفصل الثالث
أعجوبة
ظهر لمراسل التايمس بالإسكندرية في هذه الأيام ما كان ظاهرا عند الكافة عامتهم وخاصتهم، ولم يخف على غبي ولا ذكي ولا أعمى ولا بصير، بل لم يحصل فيه أدنى شبهة في زمن من الأزمان الماضية، فأبرق إلى جريدة التايمس يثبت فيه ما يأتي: إنه يوجد بين طبقات الأهالي جمهور كثير ينفر من سلطة الإنجليز (وخجل أن يقول جميع الأهالي)، كذلك وأنهم لا يسرون بإرسال العساكر إلى توكار ، بل بلغ الأسف منهم غايته عندما سمعوا بانتصار جراهام على العربان.
Unknown page