تقربت دولة روسيا إلى ألمانيا والنمسا في هذه الأيام، وانعقدت بينهم معاهدة على حفظ السلم في أوروبا إلى زمن غير قصير، ولم يكن هذا التقرب مبنيا على ما يخيله السياسيون في كل دولة على حسب مصالحهم، وإنما رأت روسيا أن الوقت وقت العمل في آسيا، فطلبت الراحة من جهة حدودها الأوروبية لتتفرغ لإجراء مقاصدها في أطراف الهند، وإن الفزع من هذا الانتقال الفجائي قد ظهر أثره في جميع الجرائد الإنجليزية.
ليت الإنجليز صرفوا قوتهم ووجهوا عزيمتهم لدفع ما يلم بهم من الخطر القريب ولم يقعوا في شرك المسألة المصرية، فإن ما كانوا يخافونه من مصر كان وهما صرفا، فلما طرقوها أوقدوا فتنة ما كانت تخطر ببال أحد، ثم هم في عجز عن علاجها، وإننا نظن كما يزعم الوزارء العثمانيون أن الإنجليز ليس في إمكانهم أن يكسروا سورتها بأنفسهم، ولا بد لهم من يوم يلجئون فيه إلى ذوي العزيمة من العثمانيين والمصريين - وإلى الله عاقبة الأمور.
الفصل الثاني
مصر
كانت حكومة هذه البلاد في الربع الأول من القرن الماضي (الهجري) تعد من نوع حكومة الأشراف، ويحسبها المؤرخون في تلك الأوقات بدرجة لا تعرف هيئتها، ولا يصل بحث الباحث إلى كنهها، وإذا عبروا عنها بالتقريب قالوا: طرز قديم كان معروفا في أغلب أنحاء المسكونة.
ثم أعجب الدهر فيها بغرائبه بعدما فوضت أمورها لمحمد علي باشا، فلم يمض قليل من الزمن حتى دخلت في طور جديد من أطوار المدنية، وظهر فيها شكل بسيط من الحكومة النظامية وتقدمت فيه على جميع الممالك الشرقية بلا استثناء، وعد هذا التقدم السريع من عجائب الأمور.
1
هل كان في حسبان أحد أن يستلم زمام الحكومة في مصر رجل من بعض قرى الرومللي لم يتربع في دروس العلم ولم يجبل في مصانع السياسة، إلا أن طبيعته الفطرية كانت فائضة بحب الحضارة، وبث العلوم، وتأسيس قواعد العمران، مع تدفق همته لبلوغ الغاية مما يميل إليه؟!
تقدمت بعد ذلك فيها الزراعة تقدما غريبا، واتسعت دائرة التجارة، وعمرت معاهد العلم، وانتشرت في أرجائها مبادئ المعارف الصحيحة، وتقاربت أنحاؤها، واتصلت أطرافها بما أنشئ فيها من سكك الحديد وخطوط التلغراف، وتعارفت أهاليها، وائتلف الجنوبي بالشمالي، والشرقي بالغربي، وقوي فيهم معنى الأخوة الوطنية، بعد أن كانوا لبعد الشقة بين بلدانهم كأنهم أبناء أقطار مختلفة، وتواصلوا في المعاملات، وتشاركوا في المنافع، واعتدلت المشارب المذهبية، حتى كان لهم زمن أحسن فيه كل واحد بنسبته من الآخر، وارتفعت بذلك أصواتهم، بعدما جالت فيه أفكارهم.
تفجرت من أرض مصر ينابيع الثروة، وعمدت بقاعها وطفحت ففاض خيرها على ما يجاورها من الأقطار الشرقية، بل وصل مد نيلها إلى أراضي البلاد الغربية، وتوارد إليها الغرباء، وقصاد الكسب من كل مكان، وما خاب لها قاصد، ولا أخفق فيها سعي ساع، فأثرى في مغانيها الفقراء، وعز بها الأذلاء، وصارت قبلة لآمال كثير من الغربيين، ومحط رحال الراجين من الشرقيين، وكل وافد إليها يجد أهلا خيرا من أهله، وسكنا خيرا من سكنه، وتكاثرت فيها العناصر الغريبة، حتى كان الداخل إليها يخيل له أنه تحت برج بابل يوم تبلبلت الألسن.
Unknown page