عُقودُ الزَّبَرْجَدِ
في إعْرَاب الحَديث النَّبوي
لِجَلال الدِّين السّيوطي
(ت ٩١١ هـ)
حَقّقه وَقَدم لَه
دكتور سَلمان القضَاة
دَار الجيل
بَيروت
١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خصّ هذه الأمة بالإسناد والإعراب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد والآل والأصحاب.
وبعد:
فقد أكثر العلماء قديمًا وحديثًا من التصنيف في إعراب القرآن، ولم يتعرضوا للتصنيف في إعراب الحديث سوى إمامين: أحدهما الإمام أبو البقاء العكبري، فإنه لما ألّف إعراب القرآن المشهور أردفه بتأليف لطيف في إعراب الحديث، أورد فيه أحاديث كثيرة من مسند أحمد وأعربها، إلاّ أنه لاختصاره، ونزرة ما أورده فيه من النزر القليل، لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل.
والثاني الإمام جمال الدين بن مالك، فإنه ألّف في ذلك تأليفًا خاصًا بصحيح البخاري، يسمى "التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح".
وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع، شامل للفوائد البدائع شافٍ. كافلٍ بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كُلّ فريدة، وأسفر فيه النظام عن وجه
1 / 67
الخريدة وأجعله على مسند أحمد مع ما أضمّه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتّبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشيء له من بحار كتب العربية كلَّ سحابة.
واعلم أن لي على كلّ كتاب من الكتب المشهورة في الحديث تعليقة، وهي الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أبي حنيفة، والكتب الستة ولم يبق إلا مسند أحمد. ولم يمنعني من الكتابة عليه إلاّ كبر حجمه جدًا، وعدم تداوله بين الطلبة كتداول الكتب المذكورة، وقدّرت التعليقة عليه تجيء في عدة مجلدّات، والتعاليق التي كتبتها لا تزيد التعليقة منها على مجلد.
فلما شرح الله صدري لتصنيف هذا الكتاب، عرّفته بمسند أحمد، عوضًا مما كنت أرومه عليه من التعليقة، ولكونه جامعًا لغالب الحديث المتكلّم على إعرابه. فإن شئت فسّمه "عقود الزبرجد على مسند أحمد" وإن شئت فقل "عقود الزبرجد في إعراب الحديث" ولا تتقيد.
والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا للفوز بجنات النعيم، إنه البرّ الرحيم ...
مقدمة
اعلم أن كثيرًا من الأحاديث رواها الرواةُ بالمعنى، فزادوا فيها ونقصوا، ولحنوا، وأبدلوا الفصيح بغيره، ولهذا تجد الحديث الواحد يروى بألفاظ متعددة، منها ما يوافق الإعراب والفصيح، ومنها ما يخالف ذلك.
وقد قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: "إذا ورد الحديث على وجهين ما يوافق الفصيح وما يخالفه، فالموافق للفصيح هو لفظ النبي ﷺ لأنه لم يكن ينطق إلاّ بالفصيح"، وقد نقل هذا الكلام عن المزني.
قال أبو عاصم العبادي- من متقدمي أصحابنا- في طبقاته: "قال المزني: لا يروى في الحديث خطأ، فإن النبي ﷺ أفصح العرب، فلا يجوز أن يروي خطأ".
1 / 68
وقال أبو الحسن بن الضائع- بالضاد المعجمة- في شرح الجمل:
"تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ﷺ، لأنه أفصح العرب".
قال: "وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرًا فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي
فحسن، وان كان يرى أن من قبله أغفل شيئًا وجب عليه استدراكه فليس كما رأى".
وقال أبو حيان في شرح التسهيل:
"قد أكثر ابن مالك من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدًا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأوّلين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، الخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك. وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول ﷺ، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه ﷺ لم تقل بتلك الألفاظ جميعها. نحو ما روي من قوله "زوجتكها بما معك من القرآن" "ملكتكها بما معك"، "خذها بما معك" وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فنعلم يقينًا أنه ﷺ لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم أنه قال بعضها. إذ يحتمل أنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه ﷺ، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جدًا، لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان
1 / 69
الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث، لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك. وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا غير شك أن رسول الله ﷺ كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلاّ بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
وابن مالك قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر، متعقبًا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك.
"وابن المصنف ﵀ كأنه موافق لأبيه في استدلاله بما روي في الحديث، فإنه يذكره على طريقة التسليم".
وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وكان ممن أخذ عن ابن مالك- قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول. فلم يجب بشيء.
قال أبو حيان: "وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما. فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث". انتهى كلام أبي حيان.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: قال الشعبي: "إذا وقع في الحديث اللحن البينّ يعرب". وقاله أحمد بن حنبل. قال: "لأنهم لم يكونوا يلحنون". وقال النسائي: "إن كان شيئًا تقوله العرب فلا يغيّر، وإن لم يكن من لغة قريش، لأنه ﵊ كان يكلم الناس بألسنتهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله ﷺ لا يلحن".
فصل [في عزو الأقوال إلى أصحابها]
قد أوردت جميع كلام أبي البقاء معزوّا إليه، ليعُرف قدر ما زدته عليه، وتتبعت ما ذكره أئمة
1 / 70