المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الذي لا يخيب لديه أمل الآملين، ولا يضيع عنده عمل العاملين، فهو جبار السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين.
أما بعد: فإن الله تعالى خلق الدنيا دار زوال، ومحل قلق وانتقال، وجعل أهلها فيها غرضًا للفناء، ومقاساة الشدة والبلاء، فشاب حياتهم فيها بالموت، وبقاءهم بحسرة الفوت، وجعل أوصافهم فيها متضادة، فقرن قوتهم بالضعف، وقدرتهم بالعجز، وشبابهم بالمشيب، وعزهم بالذل، وغناهم بالفقر، وصحتهم بالسقم، واستأثر انفراد الصفات لنفسه: قوة بلا ضعف، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر. وكذلك بسائر صفاته.
ثم أقسم بها أجمع فقال تعالى: " والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر ". واختلف الناس فيها من ثلاثين وجهًا، وأشار أبو بكر محمد بن عمر الوراق، ﵀، إلى ما ذكرناه: حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، قال: حدثنا أبو عبد الله ختن أبي بكر الوراق قال: سأل أبو بكر عن قوله ﷿ " والشفع والوتر " فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين والوتر انفراد صفات الخالق ثم ذكر نحوًا مما قلنا.
وعلى هذا المثال قرن خبرتهم بالعبرة، وفرحهم بالترح، ولذلك قالت
1 / 6
الحكماء وكفاك بصحتك سقمًا، وبسلامتك داء. حدثنا أبو عبد الله بن عبد الله بن أحمد الخطيب الميداني بزوزن، قال: حدثنا أبو قريش محمد بن خلف الحافظ، قال: حدثنا محمد بن زنبور المكي قال حماد بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: كفى بالسلام داء.
سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي بها، قال: سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله، قال: سمعت أبا داود سليمان بن معبد الشنجي يقول أنشدنا بعض الأدباء:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... وألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا ... لمعيشتي فإذا السلامة داء
وأخبرنا محمد بن عيسى بن علي بمرو الروذ قال: أخبرنا يوسف بن موسى قال: حدثنا بشر بن عبد الغفار الواسطي عن يحيى بن هاشم السمسار قال: قال مسهر لعطية العوفي: كيف أصبحت؟ قال: في سلامة مشوبة بداء، وعافية داعية إلى فناء.
قال: وحدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون قال: حدثنا أبو حامد المستملي: حدثنا محمد بن الحجاج: حدثنا جميل بن يزيد، عن وهب بن راشد، عن فرقد السنجي، قال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم أنت في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
وقيل للحسن: إن فلانًا في النزع. فقال: ما زال في النزع منذ خرج من بطن أمه ولكنه الآن أشد: وهذا حميد بن ثور وهو من فحول الشعراء يقول في بعض قصائده:
أرى جسدي قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
1 / 7
وأنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله السرخسي، قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن المدغولي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن حاتم المظفري:
يحب الفتى طول البقاء وإنه ... على ثقة أن البقاء فناء
زيادته في الجسم نقص حياته ... وليس على نقص الحياة نماء
إذا ما طوى يومًا طوى اليوم بعده ... ويطويه إن جن المساء مساء
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء
وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقلهم بالجنون فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون. ولذلك أشار النبي ﷺ إلى من أبلى شبابه في المعصية فسماه مجنونًا، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا أبو إسحاق حبان البلخي قال: حدثنا محمد بن مدويه الكرابيسي الترمذي، قال: حدثنا خالد بن خداش عن صالح المرسي عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس بن مالك ﵁، قال: بينما رسول الله ﷺ في أصحابه إذ مر به رجل فقال بعض القوم: هذا مجنون، فقال رسول الله ﷺ: هذا مصاب إنما المجنون على معصية الله تعالى.
والمجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه، قال الله جل ذكره " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعى ربه إني مغلوب فانتصر " وقال تعالى: " وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركته " يعني فرعون وقال ساحر أو مجنون.
1 / 8
سمعت علي بن عبد الله السمرقندي يقول: سمعت أبا القاسم الحكيم يقول: من عرف نفسه كان عند الناس ذليلًا ومن عرف ربه كان عند الناس مجنونًا.
ولقد قال مشركو مكة في النبي ﷺ حين تحداهم إلى الايمان بالله: إنه مجنون وساحر وشاعر وكاهن. أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن نصر اللباد، قال: أنبأنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ﵄، أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال حين حضر الموسم يا معشر قريش إن محمدًا رجل حلو الكلام، وقد أغار أمره في البلاد وأنجد، وإني لا آمن أن يصدقه الناس، فابعثوا رهطًا من ذوي الرأي والحجى إلى أنقاب مكة على مسيرة ليلة أو ليلتين، ليلقوا الناس، فمن يسأل عن محمد فليقل بعضهم أنه ساحر، وبعضهم أنه مجنون، وبعضهم أنه كاهن، وبعضهم أنه شاعر، إن لم تروه خير من أن تروه فبعثوا ستة عشر رجلًا في أربعة من الطرق في كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة في مكة يقول لمن يسأل أنه كاهن ومجنون، ففعلوا ذلك فتصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي ﷺ وكان يرجو أن يلقى الناس أيام الموسم، فيعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء وفرحت قريش وقالوا للنبي ﷺ: هذا دأبنا ودأبك ما عشنا، فنزل جبريل ﵇ ورسول الله ﷺ في الحجر، فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبريل ﵇ للنبي ﷺ: كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله هو. فأهوى جبريل بيده إلى كعبه، فقال: كفيت أمره، فمر الوليد بحائط فيه نبل لبني المصطلق وهم حي من خزاعة وعليه بردان يتبختر فيهما، فعلق سهم بإزاره فمنعته الخيلاء أن ينزعه منه، فنفض السهم، فأصاب أكحله فقتله، ومر به العاص بن وائل السهمي، فقال جبريل: كيف تجده؟ فقال: عبد سوء، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيت أمره. فركب حمارًا يريد الطائف فصرعه الحمار على شوك فدخلت شوكة باطن قدمه فتقيحت فقتلته. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل: كيف تجد
1 / 9
هذا؟ قال: عبد سوء. فأهوى جبريل ﵇ بيده إلى رأسه، وقال: كفيت أمره. فتفسخ رأسه ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل ﵇: كيف تجده؟ فقال ﵊: بئس العبد هو. فضرب جبريل ﵇ بجندك في وجهه، وقال: كفيت أمره. فعمي ثم مات.
وأنزل الله ﷾ على رسوله ﷺ آية " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين " يعني الذين سميناهم. فلما آذى أهل مكة رسول الله ﷺ أخبر الله عنهم فقال: " ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون " وقال: " ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون " وقال: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين " وعزاه فقال: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " وقال: " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ".
ثم ناضل ونضح عن رسول الله ﷺ، فأجاب عنه جميع ما قيل فيه، ولم يكلفه الإجابة عن نفسه كما كلف غيره من الأنبياء ﵈. ألا ترى أن نوحًا ﵇ لما قيل له: " إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين " قال: " يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ " وكذلك هود ﵇ لما قيل له: " إنا لنراك في
1 / 10
سَفاهة " قال: " يَا قَوْم لَيْسَ بي سَفَاهَةٌ " وقال فرعون لموسى ﵇ " إني لأظنك يا موسى مسحورًا " فكلف موسى الإجابة عن نفسه فقال: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا " أي هالكًا.
وفي هذا مزية للرسول ﷺ على سائر الأنبياء ﵈. ألا ترى كيف أجاب جل ذكره عن جميع ما قيل فيه نحو قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " " وما هو بقول شاعر "، " ولا بقول كاهن " " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " وقوله تعالى: " ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى " حين قالوا: إنه يقول ما يقول من تلقاء نفسه " وما صاحبكم بمجنون " وقوله تعالى: " أو لم تتفكروا ما بصاحبهم من جنة " وقوله: " إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " وقوله تعالى: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " وإلى الجنون أشار قوم هود في قولهم " أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ".
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمير ومحمد بن عمران بن عتبة، بدمشق، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﵄، قال: كان رجل من أزدشنوءة يسمى
1 / 11
ضمادًا وكان راقيًا فقدم مكة فسمع أهلها تسمي رسول الله ﷺ، مجنونًا، فأتاه فقال: إني رجل أرقي وأداوي فإن أحببت داويتك. فقال رسول الله ﷺ الحمد لله، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد عبده ورسوله. فقال ضماد: أعد علي. فأعاده النبي ﷺ. واستعاد ثانيًا. فأعاد ﵊. فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء والبلغاء فما سمعت مثل هذا الكلام قط، هات يدك أبايعك، فبايعه على الاسلام، فقال: وعلى قومي. فقال ﵇: وعلى قومك. قال الراوي: فبعث رسول الله ﷺ بعد ذلك سرية فمروا على تلك البلاد، فقال لأميرهم: هل أصبتم شيئًا؟ قالوا: نعم، أداوة. قال ردوها فهؤلاء قوم ضماد.
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن، قال: قرأت على أحمد بن عمر بن الصلت النسوي، قال: حدثنا علي بن حزم، قال: حدثنا أبو عبد الله الضرير، قال: حدثنا يزيد بن ذريع عن داود بن أبي هند، أخبرنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي، قدم علينا حاجًا، قال: حدثنا عبدان بن محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال عن عبد الله بن المبارك عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس، قال: قدم أبو العراف اليماني، وكان من أشراف اليمن، فرأى رسول الله ﷺ في حلة حمراء وهو يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا خلفه شيخ يقول: إياك وإياه فإنه مجنون كذاب، فسأل أبو العراف عن ذلك الشيخ فقيل عمه أبو لهب، فأتاه فقال: ما تقول في ابن أخيك؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون. فقال له: تبًا لك، إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم، وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه. فقال له أبو لهب: فما هذا الذي يقول؟ قال وحي ورسالة وحق
1 / 12
وصدق أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنه عبده ورسوله. ثم أتى النبي ﷺ بعد ما أظهر دعوته واستفحل أمره في ثمانين فارسًا من قومه مسلمين.
والمجنون عند أهل الحقائق من ركن إلى الدنيا وعمل لها وطاب عيشًا. بذلك نطقت الأخبار. حدثني أبي رحمة الله، قال: حدثنا محمد ابن شوار حدثنا محمد بن رافع حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال: خلق ابن آدم أحمق ولولا حمقه ما هنأه العيش. وسمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يقول: سمعت محمد بن المسيب الأرغياني يقول: سمعت عبد الله بن الحسن الأنطاكي يقول: سمعت يوسف بن إسباط يقول: سأل سفيان الثوري: من المجنون؟ فقال: من لم يميز غيه من رشده. سمعت أبا علي محمد بن عمر الربودي يقول: سمعت علي بن الحسين بن أبي عيسى الهلالي يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: دعاك الله إلى دار السلام، وقد آثرت في دنياك المقام، وحذرك عدوك الشيطان، وأنت مؤالفه طول الزمان، وأمرك بخلاف هواك، وأنت معانيه صباحك ومساك، فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟.
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أحيد القطان البلخي يقول: سمعت أبا شهاب معمر بن محمد العوفي يقول: سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سمعت خلف بن أيوب، وسأل عن الأحمق، قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه.
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يبال ما نقص من دينه بعد أن سلمت له دنياه. وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعة وهو يسعى في عمارة دنياه. وسئل آخر: من الأخرق؟ فقال: من خرب آخرته بدنيا غيره.
أنشدنا أبو جعفر محمد بن علي الطيان القمي بمرو الروذ قال: أنشدنا محمد بن سعيد بن سهيل الطباخي بالبصرة:
1 / 13
خلقنا لأمر وإن لم نكن ... به مؤمنين فإنا لنوكى
وإن نحن كنا به مؤمنين ... ولسنا نخاف فإنا لهلكى
وأنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا بن دينار الهلالي قال: أنشدنا عبد الله بن محمد بن عائشة:
ومن كانت الدنيا هواه وحلمه ... فذلك مجنون وإن قيل عاقل
قال آخر: المجنون ممن إلتمس رضى الناس بسخط الله ﷿.
أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن مسعود بنسا قال: أنشدنا نفطويه، عن الخليل بن أحمد:
إني بليت بمعشر ... نوكي أخفهم ثقيل
نفر إذا جالستهم ... نقصت بقربهم العقول
ومر صلة بن أشيم بقوم قد اجتمعوا على رجل مقيد، فقال: من هذا؟ قالوا: مجنون، فقال لا تقولوا مثل هذا إنما المجنون مثلي ومثلكم يعمر الدنيا ويخرب الآخرة.
أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد بن ملحان البصري، قال: أنشدنا بشر بن موسى الأسدي:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
ثبت العلم في قوم ... يروحون يوغدونا
فلا هم بك يعنون ... ولا هم عنك يغنونا
لئن لم تك مجنونا ... لقد فقت المجانينا
قال الشيخ أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري المفسر رحمة الله عليه: سألني بعض أصحابي، عودًا على مبدأ، أن أصنف كتابًا في عقلاء
1 / 14
المجانين وأوصافهم وأخبارهم، وكنت أتغامس عنه إلى أن تمادى به السؤال، فلم أجد بدًا من إسعافه بطلبته، وأجابته إلى بغيته، تحريًا لرضاه، وتوخيًا لهواه، وكنت في حداثة سني سمعت كتبًا في هذا الباب مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي ﵏ فوقع كل كتاب منها في جزء أو ما يقارب جزءًا، تتبعتها وتيقنتها، وضممت إليها قرائنها، وعزوتها إلى أصحابها، وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب، وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله. والله الموفق والمعين.
1 / 15
أصل الجنون
في اللغة: الجنون في اللغة الاستتار. تقول العرب: جن الشيء يجن جنونًا إذا استتر وأجنه غيره إجنانًا إذا ستره قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدًا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
يعني الشمس ألقت يدًا في ليل مظلم. وستر الظلام الفجاج والطرق.
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي:
يا غافلًا عما تجن ضلوعي ... أنسيت ويحك عبرتي ودموعي
وجن الليل بجن جنونًا وجنانًا إذا دخل. ومنه قوله سبحانه: " فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا " وأجن الليل الشيء أجنانًا إذا غطاه بظلامه. قال العتبي: وأجنه الليل أي جعله في ظلامه في جنة، قال الشاعر يصف مفازة:
وصرماء مذكار كأن دويها ... يعيد جنان الليل مما يخيل
حديث أناسيّ فلما سمعته ... إذا ليس فيه ما أبين فأعقل
وقال الشاعر:
ولولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرض عياض بن ناشب
1 / 16
الصرماء المفازة التي تصرم الناس عن الماء أي تقطعهم. والمذكار التي لا يدخلها إلا ذكور الرجال لصعوبتها كالمرأة المذكار التي لا تلد إلا الذكران. والجنان القلب سمي بذلك لاستتاره.
أنشدني أبو الحسن محمد بن علي القزاز لديك الجن:
خذ يا غلام عنان طرفك فاحمه ... عني فقد ملك الشمول عناني
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحك في جنون جناني
قال العتبي: وسميت الجن لاجتنانهم عن أعين الناس. وقيل في قوله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " أي من الملائكة، سموا جنًا لاجتنانهم عن الأبصار. قال الأعشى:
وسخر من جن الملائكة تسعة ... قيامًا لديه يعملون بلا أجر
والجنة البستان لالتفاف الشجر. والجنة الدرع والترس لأنهما يستران. والجنة بالكسر الجنون. والجن أيضًا، قال الله جل ذكره: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا " يعني حين قالوا: " أن الملائكة بنات الله، وقال في معنى الجنون: " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " وأما قوله تعالى: " من الجنة والناس " قال قتادة: إن الشيطان يوسوس الجن كما يوسوس الناس، والمعنى الذي يوسوس في صدور الجن والناس. والجنن القبر، لأنه ساتر، قال الشاعر:
لقد أدرجت ليلى هنالك في جنن ... فصبرًا جميلًا حين ما ينفع الحزن
والجنين: الولد في بطن الأم، لأنه مستور، وتقول العرب للنبت إذا طال
1 / 17
وكثر تكاوس والتف واستجلس واعلنكس: تجان. وتجان الرجل إذا تكلف الجنون وليس بمجنون. وكذلك تحامق وتناوم وتكاسل، قال العجاج:
إذا تجازرت وما بي جزر ... ثم كسرت العين من غير عور
وكل هذا يؤول إلى معنى الاستتار، فالمجنون المستور العقل، والفعل منه جن يجن جنونًا وهو مجنون، وأجنه الله فهو مجنون، وهذا الباب نادر في اللغة ونظيره أزكمه الله فهو مزكوم، وأحمه فهو محموم، وأضأده فهو مضؤود أي أزكمه، وأحببت فلانًا فهو محبوب، وهذا هو السائر وقد قالوا محب. قال عنترة العبسي:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
1 / 18
أسماء المجنون
في اللغة: للمجنون في اللغة أسماء كثيرة. وقد مضى تفسير المجنون. منها الأحمق، والفعل منه حمق يحمق حمقًا وحماقة فهو أحمق، قال الشاعر:
سبحان من أنزل الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضًا مرزوقًا
والجمع حمقى كقولك: قتلى وصرعى وهلكى وحرقى وغرقى، قال الشاعر:
رزقت مالًا فعش مما رزقت به ... فلست أول من حمقى بمرزوق
لو كان باللب يعطي ما تعيش به ... لما ظفرت من الدنيا بمفروق
ومنها المعتوه: وهو الذي يولد مجنونًا. والفعل منه عته فهو معتوه.
ومنها الأخرق: وهو الذي لا يحسن التقدير والتدبير والمرأة خرقاء، قال أبو عبيدة: لا يقال خارق إلا للمقدر بعلم وتدبير، فإذا قدر بغير علم قيل أخرق. وخرقاء، ومنه قوله تعالى: " وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه " قال مجاهد: أي كذبوا. قال أبو عبيدة: اختلفوا، وقرأ أهل المدينة بالتشديد وخففه الكسائي وأبو عمر. والاسم الخرق بضم الخاء. والخرق أيضًا جمع الأخرق.
1 / 19
ومنها المائق: والموق أيضًا جمع المائق كقولهم عائط وعوط وحائل وحول للشاة التي لم تحمل، وعائد وعود للناقة القريبة النتاج، وفاره وفره، قال الشاعر:
وغرة مرة من فعل غر ... وغرة مرتين فعال موق
إذا لم تبق بالصحصاح زلت ... من الصحصاح رجلك في العميق
وحسن الظن عجز في أمور ... وسوء الظن يأمر بالوثيق
ولا تفرح بأمر أن تدانى ... ولا تيأس من الأمر السحيق
فإن القرب يبعد بعد قرب ... ويدنو البعد بالقدر المسوق
أنشدنيه أبي رحمة الله تعالى، وقال: أنشدناه أبو سلمة المؤذن لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
ومنها الرقيع والمرقعان: وهو الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه وعقله. والفعل منه رقع رقاعة فهو رقيع كقولك بلد بلادة فهو بليد. أنشدنا أبو بكر أحمد بن سعد بن نصر بن بكار الفقيه البخاري بها، قال: أنشدنا عبيد الله بن عبد الله:
وما الناس إلا وعاة العلوم ... وسائرهم غنم في قطيع
ومنها الممسوس: وهو الذي يتخبطه الجن أو الشيطان والاسم المسمى؟ ومنه قوله جل ذكره كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
ومنها المخبل والمخبل: والاسم الخبل ويقال: رجل مخبل ومخبول ومختبل، قال الأعشى:
علقتها عرضًا وعلقت رجلًا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها ... من قومها ميت يهذي بها وهل
1 / 20
وكلنا مغرم يهذي بصاحبه ... ناء ودان ومخبول ومختبل
ومنها الأنوك: والفعل منه نوك ينوك فهو أنوك كقولك حول فهو أحول، وسألت أبا منصور الامام الأزهري ﵀ بهراة: فلم يذكر منه فعلًا. والاسم النوك بضم النون والجمع نوكي قال الشاعر: و.. وكيف يكون النّوك إلا كذلكا.
وأنشد الأصمعي:
تضحك منه شيخة ضحوك ... واستنوكت وللشباب نوك
ومنها البوهة: قال الشاعر:
ويا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسنا
ومنها الذولة: بالذال المعجمة. والموتة ضرب من الجنون، ولم أسمع منه للمجنون إسمًا.
سمعت الإمام أبا حامد الخارزنجي يقول: النطاة الجنون، قال: وتقول العرب: فلان من فرط نطاته لا يعرف قطاته من لطاته. القطاة مقعد الردف من الدابة واللطاة دائرة في الجبهة.
ومنها العرهاة: قال الشاعر:
ومن لم يواس الناس مما بكفه ... فذلك عرهاة من العقل مبلس
ومنها الأولق: والفعل منه ولق يولق. والولق الاسم. وأما الولق اللام فهو الكذب. وقرأت عائشة ﵂ " إذ تَلْقُونَه بألسنتكم " والفعل منه ولق يلق ولقًا، قال الأعشى:
ويصبح من غب السري فكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق
1 / 21
ومنها المهووس: والاسم الهوس، وهو ضرب من الجنون، فإن كان قدرًا؟ في جنونه فهو أغفل.
ومنها الهلباجة: وهو الأحمق الكثير الأكل قاله الخليل بن أحمد ومنها اللكع: وهو الأحمق اللئيم. وقال غيره: هو العبد.
ومنها الجذب: قال ابن السكيت: يقال رجل جذب وفيه جذب أي فضل الحمق.
ومنها الهجاجة: قال الأصمعي يقال للرجل الأحمق الكثير الخطأ رجل هجاجة.
ومنها الرشاع: قال ابن السكيت: والزهدن الأحمق أيضًا، وأنشد في كتاب الألفاظ:
قلت لها إياك أن تركني ... عندي في الجلسة أو تلبني
عليك ما عشت بذات الزهدن
ومنها الملغ: قال الأصمعي: هو الأحمق. والجعبس الأحمق أيضًا، قال الراجز:
لما رأيت سد الليل ادمسا ... ليلًا دجوجي الظلام عرمسا
وصم كسراه الغيام الجعبسا
والهلباجة: وقد ذكر آنفًا. قال ابن السكيت: قال خلف ابن الأحمر: قلت لابن كبشة بنت السعتري: ما الهلباجة؟ فتردد في صدره ما لم يتهيأ له إخراجه، ثم قال الهلباجة الأحمق الذي لا خير عنده.
1 / 22
وقرأت في كتاب النوادر لأبي زيد سعيد بن أوس: رجل مألوس أي مجنون وقد ألس إذا جن.
ومما يضارع هذا الباب ويقرب منه وليس بعينه المتيم وهو العبد تيمه الحب، أي عبده واستعبده ومنه تيم اللات كأنه عبد اللات.
ومنها الأهوج: والفعل منه هوج يهوج هوجًا فهو أهوج.
ومنها الهائم: وهو ذاهب العقل.
ومنها المدله: قال الشاعر:
تركوني مدلهًا ... أرتجي حج قابل
بعدما كنت ناسكًا ... زال نسكي بباطل
ومنها الأبله: والفعل منه بله.
ومنها المستهتر: قال الشاعر:
فبعثن وردًا للخلي وزدن في ... برحاء وجد العاشق المستهتر
ومنها الواله: والاسم الوله، وهو عند العرب الذي فقد ولده ففقد صبره قال الأعشى يصف بقرة:
فأقبلت والهًا ثكلى على عجل ... كل دهاها وكل عندها اجتمعا
والهبنقع الأحم المبالغ في حمقه، قال الشاعر:
ومهور نسوتهم إذا ما نكحوا ... عدوي وكل هبنقع تنبال
فهذه كلها أسماء المجانين وعيارها المجنون والأحمق.
1 / 23
الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى
منها قولهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي إنها مع حمقها تظلم الناس، قال ثعلب: هكذا جرى المثل بغيرها، ومثله خرقاء عيابة أي مع حمقها تظلم غيرها وتعيب غيرها، قال خلف الأحمر: ومن أمثالهم أحمق بلغ أي انه مع حمقه يبلغ حاجته. ومن أمثالهم فيه خرقاء ذات نيقة أي أنها حمقاء وهي مع ذلك تتأنق في الأمور، قال أبو عبيد: فإذا اشتد موق الرجل قيل ثاطة مدت بماء والثأطة الحمأة فإذا أصابها ماء ازدادت فسادًا، قال الأصمعي: ومنها أحمق من رجلة وهي البقلة الحمقاء، وحمقها أنها تنبت في السروح ومسايل الأودية فيجيء السيل فيجرفها. وشبه بها أهل الحقائق من يعمر دنياه وهو يعلم فناءها، قالوا: مثل عامر الدنيا الباني على الماء. والماء لا يثبت عليه شيء.
حدثنا أبو القاسم منصور بن العباس ببوشنج قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الهروي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثنا إسحاق ابن إسماعيل قال: أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: قال عيسى ابن مريم ﵉: من ذا الذي يبني على موج البحر دارًا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارًا. وقال أيضًا: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال سابق البربري في قصيدة له:
1 / 24
لكم بيوت بمستن السيول وهل ... يبقى على الماء بيت أسه مدر
وقال أبو عمرو الشيباني: ومن أمثالهم في الحمق إنه لأحمق من ترب العقد والعقد عقد الرمل، وحمقه إنه ينهار ولا يثبت فيه التراب يضرب للذي لا يثبت ولا يستقر على حال.
قال ابن الكلبي: ومن أمثالهم في هذا إنه لأحمق من دغة وهي أمرأة عمرو بن جندب بن العنبر ووصف من حمقها ما يسمج ذكره، وقال الأصمعي: ومن أمثالهم أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها وذلك أن زوجها قضى حاجته منها ثم طلقها فقالت أعطني حقي فنزع إحدى خدمتيها وهما الخلخالان من رجلها فأعطاها فسكتت ورضيت.
وتقول العرب للمبالغ في الجنون. جنونه مجنون. سمعت أبا الحسن محمد بن الحسين الحاكم ببوشنج يقول: سمعت جدي عبد الملك بن محمد ابن عدي يقول: سمعت جدي يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال الشافعي ﵀ لبعض أصحابه:
جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيبًا يداوي من جنون جنون
ومنها الضبع وزعموا أنها أحمق الدواب فإنها تشد يداها ورجلاها ويقال لها لست ها هنا فتسكت وترضى. وروي عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: لا أكون مثل الضبع تسمع الدم فتخرج حتى تصاد. وكنيتها أم عامر يضرب بها المثل فيقال: خامري أم عامر، كما قال الشاعر:
1 / 25