كنا قد تعلمنا سويا في الكتاب. وجئنا معا من الصعيد هربا من الطاعون. واضطر للعمل في وكالة أقمشة ليعول أمه. ولم تنقطع صلتنا. وصرنا نلتقي كثيرا بصحبة حنا.
كان في سني وأكثر سمرة ونحولا. رحب بي وجلسنا فوق مصطبة حجرية بالحوش. تعرفت أمه بالداخل على صوتي فحيتني. ونادته فدخل وعاد بصحن من البلح وكوب من اللبن الرائب. سألته عن الأحوال فاشتكى من قلة الرزق. وقال إن التاجر صاحب الوكالة أنقص أجرته متحججا بالأموال التي دفعها للفرنساوية، وإنهم لم يذوقوا اللحم منذ عدة شهور .
ترددت فجأة صيحات مذعورة، واختفى الأطفال على الفور داخل أكواخهم، وأغلقت أبوابها، وأزاح الحلاق زبونه جانبا ولوح بموساه في الهواء.
ظهرت دورية من جند الفرنساوية في مدخل الحوش وتجاوزته مبتعدة. ولم تلبث أبواب الأكواخ أن فتحت وخرج الأطفال، وعاد الزبون الشاب إلى حجر الحلاق.
قال عبد الظاهر إن الفرنساوية يصعدون الأزقة والدروب للتحرش بالنساء. وأردف بتصميم: ونحن على استعداد لهم.
رددت آية من سورة القصص:
وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون .
قال: نسيت أول الآية:
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا . - لم يأت أحد بعد. وعموما فإننا أفضل حالا من أيام الأتراك والمماليك. - خسئت. أولئك مسلمون لا نصارى. - سمعت من أستاذي أن الفرنساوية ليسوا نصارى وإنما هم من الدهرية.
سألني هازئا: وما هذه الدهرية يا مولانا؟ - الذين ينكرون البعث والدار الآخرة والأنبياء، ويقولون بقدم العالم، وبأن الحوادث الكونية من فعل الحركات الدورية. وعقيدتهم هي تحكيم العقل. ويزعمون أن الرسل محمدا وعيسى وموسى كانوا جماعة عقلاء، وأن الشرائع المنسوبة إليهم كناية عن قوانين وضعوها بعقولهم لتناسب أهل زمانهم. - إذن هم كفرة ويجب قتالهم. - وكيف السبيل إلى ذلك؟
Unknown page