Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genres
ونظام المجتمع الجيد أو العادل هو ما جعل حياة جميع أعضائه الاجتماعية المشتركة سائرة في طريق النجاح ما أمكن. وأما نظامه غير العادل فهو ما خول جانبا صغيرا من أعضائه أن يستعبدوا جانبا آخر أكبر، بحيث لا يستطيع هؤلاء أن يرقوا حياتهم الاجتماعية، ويتمتعوا بنصيبهم من مسرات المجتمع المشتركة وفوائده.
فلذلك من شأن علم أدب النفس أن يبحث في نظام المجتمع الذي يمس واجبات الفرد، كما أنه يلم بواجبات الأفراد الذين يتألف المجتمع منهم. (1-2) منشأ الشريعة
يزعم كثير من الكتبة أن القوانين والشرائع هي خلاصة العادات والتقاليد، وقد فهم من زعمهم هذا أن القانون والشريعة كانا قبلا عادة أو عرفا؛ أي إن العادة
1
والعرف سبقا الشريعة كمصدر لها، وإن الشريعة جاءت بعدهما مستمدة مادتها منهما.
ولكن طبيعة كل من العرف والعادة والشريعة تدل على نقيض هذا الزعم؛ فالعادة والعرف قائمان بين الناس من غير قوة منفذة، بل يجري عليهما الناس اختيارا من تلقاء أنفسهم. وأما الشريعة والقانون فتنفذهما قوة الحكومة، ولمخالفتهما عقاب، فإذا كان القانون مجموعة عادات يعمل بها الناس مختارين، فلماذا القوة المنفذة؟ أو لماذا يكف الناس عن العمل اختيارا، بحسب العادة، متى صارت العادة قانونا؟ أو بعبارة أخرى، لماذا تصبح العادة ثقيلة على الطبع متى صارت قانونا؟ فترى مما تقدم أن ذلك الزعم باطل. وإذا فرضنا أن القوانين والشرائع نشأت من العادات فمم نشأت العادات قبلها؟ ولاستقصاء أصل الشريعة نعود إلى النسبة المستحكمة بين الفرد والمجتمع؛ حيث نجد جذور الشريعة فيها. (1-3) علاقة الفرد بالفرد بواسطة المجتمع
وهنا نحذر القارئ من خلط هذه النسبة بنسبة أخرى بين فرد وفرد وبين الأفراد؛ فإن هذه النسبة ثانوية، ولا عبرة فيها في النظام الاجتماعي، ولا يمكن أن يتوقف هذا النظام أو يترتب عليها. النسبة القائمة بين الفرد والمجتمع هي قاعدة كل نظام اجتماعي، والفرد يتصل بالفرد عن يد هذا النظام، ويتعامل فرد مع فرد بواسطة هذا النظام، وينال فرد من فرد حقا أو يؤدي واجبا بواسطة هذا النظام؛ فالقاتل لا يقاضيه أهل القتيل، بل حكومة المجتمع؛ لأنه يعد مذنبا لها، والمهضوم الحق لا يطلب حقه من هاضمه، بل من المحكمة، والمحكمة تأخذه من هاضمه وترده له.
فلو استرد مهضوم الحق حقه المهضوم عنوة لعوقب؛ لأنه يحسب معتديا على النظام، ولو أبيح لكل شخص أن يسترد بقوته عنوة حقه المهضوم لسادت الفوضى في المجتمع. فترى مما تقدم أن علاقة الفرد الاجتماعية الحقيقية إنما هي بالمجتمع لا بالأفراد. (1-4) الشريعة سبقت العادة
بعد هذا البيان نعود إلى منشأ العادات ثم الشرائع. لا يمكننا أن نتصور أن عادة نشأت في أمة أو قوم أو قبيلة بغتة، لا بد أن تكون قد نشأت أولا في جماعة صغيرة جدا ثم اقتبست، لا بد أن تكون قد نشأت في الأسرة أولا؛ حيث هناك رب أسرة ذو رأي حكيم وسلطة نافذة، رأى مثلا أن أكل جيفة الحيوان الميت ضارة، فحرمه على أسرته، وأجاز أكل الذبيح فقط.
فهذا التحريم في أسرته شريعة ينفذها هو بالقوة، وقد يستحسن أفراد أسرات أخرى هذه الشريعة فيقتبسونها ويعملون بها اختيارا، وقد يقتبسها أرباب أسرات أخرى فيوجبونها؛ فتكون عادة عند بعض، وشريعة عند بعض آخرين، فإذا غلب استحسانها، وأخيرا عمت القوم كلهم وتعودوها، وصاروا يأتونها بلا تكلف؛ صارت عادة فتقليدا، ولم تبق شريعة.
Unknown page