Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genres
ترى مما تقدم أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع جعلت للإنسان شخصيتين؛ الأولى: طبيعية حيوية «بيولوجية» ترمي بأفعالها إلى مصلحة الذات؛ فنبضتها إذن الأنانية، ونزعتها الحرص على بقاء الذات الفردية، والثانية: اجتماعية أدبية ترمي بأفعالها إلى مصلحة المجتمع؛ فنبضتها إذن غيرية، ونزعتها الحرص على بقاء السلالة أو المجتمع.
ولما كان بقاء الذات الفردية متوقفا على بقاء المجتمع كانت الغيرية آيلة إلى مصلحة الأنانية؛ فالغيرية مشتقة من الأنانية بالرغم من أن الشخصية الفردية مشتقة من المجتمع، لأن نتيجة الغيرية القصوى أو غايتها آيلة إلى الذات الفردية. فالإنسان يرى في عمل الخير للآخرين وفي خدمة المجتمع لذة لنفسه، حتى المجرم الذي يعتدي على حقوق المجتمع ويزيغ من وجه القضاء يأبى أن يزول القضاء؛ لأنه يحتاج إليه لحماية حقوقه الشخصية، وفيما هو يختلس من حقوق الأمة يأبى أن تزول أنظمتها التي تكفل له السلامة في الطريق والمنزل، وتسهل له الراحة في الانتقال والمعاملة. (5) مركز القاعدة الأدبية (5-1) نشوء الحق والواجب
رأيت أيضا أن هذه العلاقة الوثيقة بين الفرد والمجتمع، التي جعلت للإنسان شخصيتين متمايزتين، إنما هي نظام محكم يستلزم وجود حقوق وواجبات متبادلة بين الفرد والمجتمع، وإلا فلا تثبت هذه العلاقة ولا تقضي الوطر المبتغى منها؛ وهو حفظ بقاء الفرد نفسه.
لذلك كان على شخصية الفرد الاجتماعية الغيرية واجبات تقلص كثيرا من دائرة حقوق شخصيته الطبيعية الأنانية، تلك الشخصية التي ورثت من الطبيعة الحيوانية حقوقا واسعة. وبالطبع، الحق الذي للفرد هو واجب على المجتمع، والواجب الذي على الفرد هو حق للمجتمع؛ ولذلك كان ثمة حقوق للإنسان وحقوق للمجتمع، وواجبات على كل منهما.
فمن الجهة الواحدة نرى أن الفرد جاء إلى العالم مصطحبا حقوقا طبيعية لا يزال يقرها النظام المدني، وهي كما أقرتها قوانين الدول الأساسية ودساتيرها: حق الحرية الشخصية، وحق الامتلاك، وحق مقاومة الضغط، وحق السعي إلى الرزق. وقد أضافت الأنظمة الاشتراكية إلى هذه الحقوق حق المرأة بالمساواة مع الرجل. ومن جهة أخرى، نرى للنظام المدني حقوقا على الإنسان؛ كالضرائب والسيطرة، في مقابل حمايته لشخصه وحقوقه وما يمتلكه.
ولكن ربما تمايزت حقوق الفرد وحقوق النظام؛ أي الحكومة؛ فقد تلتبس حين يتداخل بعضها ببعض، حتى يكاد يتعذر تحديد كل فريق منها وفصله عن الآخر، وإنما بالإجمال يقال: إنه بقدر ما تتضح حقوق الفرد الطبيعية ولا تتصل بنظام المجتمع وحكومته؛ فليس للحكومة حق التدخل. (5-2) اصطدام حق الفرد بحق المجتمع
حقوق الفرد وحقوق النظام الحكومي تتداخل في كثير من الأحيان بحيث يتعذر التمييز بينهما، مثال ذلك: أن الحرص على الحياة أهم حقوق الفرد؛ ولذلك يعد أمرا حسنا، ولكن إذا تدبرنا حقوق الاجتماع نجد أنها في بعض الأحوال تستغرق حق الفرد حتى حقه بالحياة؛ ففي حالة الخطر على المجتمع برمته تصبح حياة الفرد ثانوية عنده إذا كان متدبرا، ويرى أن اقتصاره على الحرص على حياته وعلى حياة عائلته ليس بالأمر الأحسن، بل هناك حق أعظم وأحسن منه؛ وهو الدفاع عن المجتمع لدرء الخطر عنه، فإذا كان الفرد حينذاك يخلي نفسه من كل علاقة مع المجتمع كان منتحرا؛ لأن سلامته وسلامة أسرته تتوقف على سلامة المجتمع.
وكذلك المبرة، وإن كانت ليست أمرا أنانيا بل هي أمر غيري؛ أي إنها تتجه لمصلحة الغير، فما خلت من كونها لمصلحة الذات أيضا، فحين نرغب في الخير للآخرين يكون فينا شعور بلذة لنا أيضا. فهذا الشعور هو شيء فينا ينشئه ابتغاؤنا للمثل الأعلى الذي نتوخاه في الحياة، كذلك العطف أو الحب الذي يحملنا على إرادة الخير لمن نحبه أو نعطف عليه هو بالحقيقة أمر أناني؛ لأنه ينشئ فينا شعورا بلذة لنا.
وإذا كان الأمر كذلك، فارتباط الأفراد بالجماعة على نحو ما تقدم شرحه يوجب توسيع دائرة حقوق النظام الاجتماعي إلى حد أن تمس الدائرة كل حق طبيعي للفرد كثيرا أو قليلا؛ وبالتالي يجعل الأدبية أمرا جوهريا للحياة الإنسانية - يحتم على الفرد واجبات لغير نفسه - يقضي بتقديم الغيرية على الأنانية. (5-3) غريزية الغيرية
وهذا القضاء الاجتماعي الطبيعي أنشأ على تمادي الأزمان في نفسية الإنسان غريزة الغيرية؛ أي إرادة الخير للغير كما للنفس، وأنشأ هذا الشعور الباطني في الإنسان بلذة العطف على الغير، وبلذة المبرة وعمل الخير للآخرين؛ ولذلك لا يكون ضيق دائرة الحرية الفردية منقصا لسعادته كما نتوهم، لأن اللذة التي يفقدها من نقص أنانيته يجدها في غيريته. واليوم نجد أناسا يستلذون تضحية شهواتهم الشخصية في سبيل خدمة الإنسانية. ورئيس الجامعة الأميركية، الدكتور ضدج، في بيروت، مثل واضح على هذا. (5-4) معنى الحق والواجب
Unknown page