Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genres
فالمجنون غير مسئول عن فعله؛ لأن فعله مجرد من الإرادة والتعقل، أو من ثانيهما على الأقل، ومثله السكران، فسكره جنون وقتي، فهو معذور فيما فعله في أثناء سكره، ولكنه ملوم على سكره لأنه تعمده في حالة صحوه. (2)
كذلك الجاهل يعذر، وإنما يلام إذا كان لإهماله جهل ذنبه؛ ولهذا يعد العقاب في الجماعة الجاهلة بقصد الإرهاب أو الردع جائرا؛ لأنه واقع على أشخاص قليلي المسئولية لجهلهم . فالعامي الذي لا يعرف القراءة لا يلام إذا لم يعلم بقانون جديد لم يذع في الجرائد، أو في الجريدة الرسمية، والسلطة التي تعاقبه أولى بأن تعاقب هي؛ لأنها حرمته المعرفة التي تقيه من ارتكاب الذنب الذي ارتكبه غير دار به. (3)
إذا كان الباعث على الإجرام يثير الانفعال الإنساني بحيث يتغلب الخلق على الإرادة والتعقل؛ فتخف المسئولية وتقوى المعذورية بنسبة هذا الانفعال.
وقد حسب بعض المفكرين الإجرام مرضا جنونيا، وكل جريمة ضربا من الجنون؛ ولذلك خففوا المسئولية إلى الحد الأدنى، واقترحوا أن يعالج المجرمون من هذا الداء، داء الإجرام، بدل أن يعاقبوا. وهم يبنون هذه النظرية على نظرية أن أفعال هؤلاء المجرمين ليست صادرة عن مطلق إرادتهم، بل هي نتيجة تغلب الظروف المحيطة بهم على إرادتهم وتعقلهم؛ ولذلك يعذرون. فإذا صحت هذه النظرية سقطت نظرية حرية الإنسان برمتها، وإذا كانت نظرية الحرية صحيحة، فنظرية هؤلاء في المعذورية المطلقة ساقطة لا محالة. (3-12) قيمة اليمين في الشهادة
إذا لم يخف المجرم عقاب الآخرة، ولا عقاب المجتمع، ولا عقاب الضمير، واستطاع أن يفلت من القضاء، فلا يبقى مهددا له إلا الشاهد. وهو آخر وسيلة من وسائل درء الجرائم، ولكن الشاهد نفسه إنسان كالمجرم يحتمل أن يكون شريرا لا صالحا كما تفترضه الشريعة، لا سيما لأن ضوابط صلاحيته التي عينتها الشريعة لا تكفي ضمانة لكونه شاهدا عادلا، وأعظم ضابط للشهادة هو اليمين. فما هي قيمة اليمين؟
إما أن يكون الشاهد صالح الضمير أو شريره؛ فإن كان صالح الضمير فالشهادة صادقة من غير يمين، وإن كان شرير النفس فاليمين لا تضمن صدق شهادته؛ لأن الشرير يحلف زورا، وإذا كانت يمين الشاهد لا قيمة لها، فبالأحرى يمين المجرم نفسه لا قيمة لها؛ لأن من يجرم وينكر جريمته لا يتردد في أن يحلف زورا.
لليمين قيمة حيث تخيم الخرافات والأوهام، وحيث يعتقد الناس أن المقسم اليمين زورا يعاقب عاجلا في حياته، ولكن حيث لا وجود للخرافات والأوهام والسخافات، أو حيث هي ضعيفة جدا، فلا تأثير لليمين بتاتا لا باسم الله ولا باسم الشرف، فالضمانة الوحيدة لصحة الشهادة في المجتمع الراقي العاري من الخرافات هي ارتقاء أدبية ذلك المجتمع، وارتقاء أخلاق أهله. (4) الثواب (4-1) الثواب نتيجة طبيعية للشريعة الأمرية
اقتصر بحثنا في هذا الفصل على العقاب كأن الثواب لا شأن له فيه؛ وسبب ذلك أن الشريعة على الغالب شريعة النهي عن المحرمات - شريعة ردع الشهوات - فوصايا موسى العشر «ما عدا اثنتين» مصوغة بصيغة النهي: لا يكن لك إله غيري، لا تصنع تمثالا منحوتا، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق إلخ، فالامتناع عن هذه المنهيات لا يستحق ثوابا، تكفي النجاة من عقاب مخالفتها ثوابا.
أما الشريعة الأمرية، أي شريعة فعل الخير، فهي شريعة الإرادة الحسنة، شريعة الروح الصالحة، شريعة القلب الطيب، فهي لا تقتصر على ردع الشهوات فقط، بل تقتضي بالتبرع بالعمل الصالح أيضا، وكما أن لاندفاع الشهوات في الطلاح عقابا، كذلك لاندفاع النفس الصالحة في عمل الصلاح ثواب.
فالعقاب لمخالفة الشريعة السلبية، والثواب لطاعة الشريعة الإيجابية.
Unknown page