(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا.
قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله الْوراق، ﵀، وَغفر لَهُ:
إِن قَالَ قَائِل: من أَيْن علمْتُم أَن الْكَلَام يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام؟
قيل: لِأَن الْمعَانِي الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا الْكَلَام ثَلَاثَة، وَذَلِكَ أَن من الْكَلَام مَا يكون خَبرا ويخبر عَنهُ، فَسمى النحويون هَذَا النَّوْع اسْما.
وَمن الْكَلَام مَا لَا يكون خَبرا وَلَا يخبر عَنهُ، فَسمى النحويون هَذَا النَّوْع فعلا.
وَمن الْكَلَام مَا لَا يكون خَبرا وَلَا يخبر عَنهُ، فَسمى النحويون هَذَا النَّوْع حرفا.
وَلَيْسَ هَاهُنَا معنى يتَوَهَّم سوى هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، فَلهَذَا لَا إِشْكَال فِيمَا عدا هَذِه الْأَقْسَام، إِذْ لَا معنى يتَوَهَّم سواهَا.
وَوجه آخر: أَن الْمعَانِي قد أحطنا بِعلم جَمِيعهَا، والألفاظ يحْتَاج إِلَيْهَا من أجل الْمعَانِي، فَإِذا كَانَ كل معنى لَا يُمكن أَن يعبر عَنهُ إِلَّا بِأحد هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، دلّ ذَلِك على أَن جَمِيع الْأَقْسَام ثَلَاثَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خصصتم الْقسم الأول بتلقيبه بِالِاسْمِ، وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ، وَالثَّالِث بالحرف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
1 / 137
أَحدهمَا: أَن غَرَض النَّحْوِيين بِهَذَا التلقيب الْفَصْل بَين هَذِه الْأَقْسَام، إِذْ كَانَت مَعَانِيهَا مُخْتَلفَة، فَإِذا كَانَ الْقَصْد باللقب إِلَى الْفَصْل، فَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول: لم لقبتم هَذَا الْقسم بِهَذَا اللقب دون غَيره؟ إِذْ لَا لقب يلقب بِهِ إِلَّا وَيُمكن أَن يعْتَرض بِهَذَا السُّؤَال، وَقد وَجب بِحَالَة أَن يخص بلقب، فَإِذا وَجب الشَّيْء لم يجب الإعتراض عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه يُمكن أَن يَجْعَل لكل لقب معنى من أَجله لقب بِهِ.
وَالْوَجْه فِي تلقيب مَا صَحَّ أَن يكون خَبرا ويخبر عَنهُ ب (الِاسْم)، لِأَن الِاسْم مُشْتَقّ من سما يسمو، أَي: ارْتَفع، فَلَمَّا كَانَ هَذَا لَهُ مزية على النَّوْعَيْنِ الآخرين، من أجل أَنه شَارك النَّوْع الَّذِي يكون خَبرا فِي هَذَا الْمَعْنى، ويفضله فِي أَن الْخَبَر يَصح عَنهُ، وَجب أَن يلقب بِمَا يُنبئ عَن هَذِه المزية، فلقب بِالِاسْمِ، ليدل بذلك على علوه وارتفاعه على النَّوْعَيْنِ الآخرين.
وَأما النَّوْع الثَّانِي فلقب ب (الْفِعْل)، وَذَلِكَ أَن قَوْلك: ضرب، يدل على الضَّرْب وَالزَّمَان، وَالضَّرْب هُوَ فعل فِي الْحَقِيقَة، فَلَمَّا كَانَ (ضرب) يدل عَلَيْهِ لقب بِمَا دلّ عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فَلم صَار تلقيبه بِالْفِعْلِ الدَّال عَلَيْهِ دون الزَّمَان، وَهُوَ أَيْضا دَال عَلَيْهِ؟
قيل: لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من لفظ الْمصدر، وَلَيْسَ مشتقا من لفظ الزَّمَان، فَلَمَّا اجْتمع فِيهِ الدّلَالَة على الْمصدر واشتقاق اللَّفْظ كَانَ أخص بِهِ من الزَّمَان، لوُجُود لَفظه فِيهِ.
1 / 138
فَإِن قيل: فَلم اشتق الْفِعْل من الْمصدر دون الزَّمَان؟
قيل: لِأَن الزَّمَان دَائِم الْوُجُود، والمصادر أَفعَال تَنْقَضِي، وَإِنَّمَا الْغَرَض فِي اشتقاق الْفِعْل من أَحدهمَا ليدل عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا كَانَت الْأَفْعَال منقضية، وَالزَّمَان مَوْجُودا، وَجب أَن يَقع الِاشْتِقَاق من المصادر، ليدل لفظ (٢ / أ) الْفِعْل عَلَيْهِمَا من غير تذكار، وَلم يحْتَج فِي الزَّمَان إِلَى ذَلِك لوُجُوده، فَلهَذَا وَجب الِاشْتِقَاق من الْمصدر دون الزَّمَان.
وَوجه آخر: أَن أَسمَاء الْأَزْمِنَة قَليلَة، وَأَسْمَاء الْأَنْفس كَثِيرَة، فَلَو اشتق من الزَّمَان لفظ الْفِعْل ضَاقَ الْكَلَام، وَلم يكن فِيهِ مَعَ ذَلِك دلَالَة على الْمصدر، فاشتق من لفظ الْأَفْعَال الْمصدر، لِأَنَّهَا لَا تُفَارِقهُ، وَإِن لم يكن لَهَا اسْم يحصرها.
وَأما تَسْمِيَة النَّوْع الثَّالِث بالحرف فِي اللُّغَة، فموضوع لطرف الشَّيْء، وَكَانَ هَذَا النَّوْع إِنَّمَا يَقع طرفا للاسم وَالْفِعْل مَعًا، خص بِهَذَا اللقب، لِقَوْلِك: أَزِيد ترى فِي الدَّار؟ فالألف إِنَّمَا دخلت للاستفهام عَن كَون زيد، وَلم تدخل هِيَ لِمَعْنى يختصها، وَهِي فِي اللَّفْظ طرف مَعَ ذَلِك، فاعرفه.
وَاعْلَم أَن للاسم حدا وخواص، فحده: كل مَا دلّ على معنى مُفْرد تَحْتَهُ، غير مقترن بِزَمَان مُحَصل فَهُوَ اسْم، كَقَوْلِه: رجل، وَفرس، وَمَا أشبه ذَلِك، أَلا ترى أَن هَذِه اللَّفْظَة دَالَّة على شخص مُجَرّد من شَيْء سواهُ!
1 / 139
وَأما الْخَواص: فجواز دُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، والتنوين، وحرف من حُرُوف الْجَرّ، ووقوعه فَاعِلا ومفعولا، وَالْإِضَافَة، والإضمار وَمَا أشبه ذَلِك، وَأَن يحسن مَعَه ضرّ ونفع.
وَبَعض النَّحْوِيين لَا يَجْعَل عَلامَة الِاسْم جَوَاز دُخُول هَذِه الْأَشْيَاء، فِرَارًا من أَن تلزمهم مُعَارضَة، لقَولهم: (أَتَت النَّاقة على مضربها)، أَي على الزَّمَان الَّذِي يضْربهَا فِيهِ الْفَحْل، وَذَلِكَ أَنه يَقُول: إِن المضرب قد دلّ على زمَان وَضرب، وَهُوَ مَعَ ذَلِك اسْم، وَهَذَا ينْقض حد الِاسْم.
فَالْجَوَاب عَن هَذَا السُّؤَال أَن يُقَال: إِن المضرب وضع لدلَالَة على زمَان فَقَط، وَإِن كُنَّا نفهم مَعَ ذَلِك الضَّرْب، لاشتقاق اللَّفْظ من الضَّرْب، وَإِذا كَانَ الْمَفْهُوم من دلَالَة وضع الِاسْم معنى وَاحِدًا، فقد سلم لفظ الْحَد. وَنَظِير مَا ذكرنَا أَن الْأَفْعَال إِنَّمَا وضعت للدلالة على الزَّمَان، وَإِن كُنَّا نفهم أَن الْفَاعِل مِنْهَا يحْتَاج إِلَى مَكَان، إِلَّا أَن ذَلِك نفهمه بِالتَّأَمُّلِ دون اللَّفْظ، فَكَذَلِك (المضرب) يجْرِي فِي هَذَا المجرى، يدل على صِحَة ذَلِك أَن الْعَرَب إِذا أَرَادَت الدّلَالَة على الْمصدر فَقَط قَالَت: (المضرب)، ففتحوا الرَّاء، فَلَو كَانَ (المضرب) يدل على الْمصدر، لم يَحْتَاجُونَ إِلَى بِنَاء آخر؟
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي (ضَارب) وَمَا أشبهه من أَسمَاء الفاعلين؟
1 / 140
قيل: دَالَّة على الْفَاعِل للضرب من جِهَة اللَّفْظ، وَإِنَّمَا يفهم معنى الزَّمَان فِيهَا بِالنِّيَّةِ. وَجَاز ذَلِك لِأَن اسْم الْفَاعِل مُشْتَقّ من الْفِعْل، فَجَاز أَن ينوى بِهِ الزَّمَان، لاشتقاقه من لفظ يدل على الزَّمَان.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ (كَانَ وَأَخَوَاتهَا) تدل على الزَّمَان فَقَط، فَهَلا جعلت اسْما، لدلالتها على معنى مُفْرد، كدلالة (يَوْم وَلَيْلَة) وَمَا أشبههما؟
قيل: إِنَّهَا وَإِن كَانَت تدل على الزَّمَان فَقَط، فقد صرفت تصريف الْأَفْعَال، وَمَعَ ذَلِك فالغرض فِي ذكرهَا الْعبارَة عَن الْمعَانِي الَّتِي تقع فِي خبر المبتدإ، فَصَارَت كَأَنَّهَا دَالَّة على ذَلِك الْمَعْنى وَالزَّمَان جَمِيعًا. أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: كَانَ زيد قَائِما، دللت ب (كَانَ) على قيام فِي زمَان مَاض، فَلذَلِك وَجب أَن تجْعَل أفعالا.
وَأما الْفِعْل: فحده أَن يُقَال: (٢ / ب) كل كلمة تدل على معنى وزمان مُحَصل فَهُوَ فعل، كَقَوْلِك: ضرب، وَانْطَلق، يدل على انطلاق فِي زمَان.
وَله أَيْضا خَواص، فَمن خواصه التَّصَرُّف، نَحْو: ضرب يضْرب، وَذهب يذهب، وَمَا أشبهه. وَمِنْه صِحَة الْأَمر، نَحْو: اضْرِب، واقتل، وَمَا أشبهه.
1 / 141
وَأما الْحَرْف: فحده: مَا دلّ على معنى فِي غَيره، نَحْو قَوْلك: أخذت درهما من مَال زيد، ف (من) تدخل للتَّبْعِيض لِلْمَالِ، وَالْبَعْض هُوَ الدِّرْهَم من المَال. وَإِن شِئْت اعتبرته بامتناع حد الِاسْم وَالْفِعْل مِنْهُ، أَو بامتناع خواصهما مِنْهُ.
وَأما إِدْخَال الْهَاء فِي الْعَرَبيَّة، فَلِأَن المُرَاد بِالْعَرَبِيَّةِ اللُّغَة الْعَرَبيَّة، واللغة مُؤَنّثَة، فَدخلت الْهَاء على هَذَا المُرَاد.
وَإِنَّمَا قسمت الْعَرَبيَّة على أَرْبَعَة أضْرب، لِأَن أصل الْإِعْرَاب هُوَ الْإِبَانَة، وَالْإِعْرَاب إِنَّمَا يدْخل فِي الْكَلَام للإبانة عَن الْمعَانِي، فكأنا أردنَا أَن نقسم الْعَرَبيَّة من حَيْثُ كَانَت مَبْنِيَّة عَلَيْهِ، لَا من وُجُوه تصاريفها، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالإعراب إِنَّمَا هُوَ بحركة وَسُكُون، وَالْحَرَكَة إِمَّا أَن تكون ضمة أَو فَتْحة أَو كسرة، لَا يُمكن أَن تُوجد حَرَكَة مُخَالفَة لهَذِهِ الثَّلَاثَة، والسكون الرَّابِع، فَلهَذَا انقسمت أَرْبَعَة أَقسَام.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار الرّفْع وَالنّصب يدخلَانِ على الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، واختص الْجَرّ بالأسماء، والجزم بالأفعال؟
قيل: لِأَن أصل الْإِعْرَاب إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاء دون الْأَفْعَال، وَالدّلَالَة على ذَلِك أَن الْأَسْمَاء لَو لم تعرب لأشكل مَعْنَاهَا، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: مَا أحسن
1 / 142
زيد. لَكُنْت ذاما لَهُ. وَلَو قلت: مَا احسن زيد؟ لَكُنْت مستفهما عَن أَبْعَاضه أَيهَا أحسن. وَلَو قلت: مَا أحسن زيدا! لَكُنْت مُتَعَجِّبا.
فَلَو أسقط الْإِعْرَاب فِي هَذِه الْوُجُوه، لاختلطت هَذِه الْمعَانِي، فَوَجَبَ أَن تعرب الْأَسْمَاء ليزول الْإِشْكَال.
وَأما الْأَفْعَال فَإِنَّهَا لَو لم تعرب لم يشكل مَعْنَاهَا، لِأَنَّهَا بنيت لأزمنة مَخْصُوصَة، فإعرابها أَو تَركهَا لَا يخل بمعناها، وَالْإِعْرَاب زِيَادَة، وَمن شَرط الْحَكِيم أَلا يزِيد لغير فَائِدَة، فَكَانَ حق الْأَفْعَال كلهَا أَن تكون سواكن، إِلَّا أَن الْفِعْل الَّذِي فِي أَوله الزَّوَائِد الْأَرْبَع أشبه الِاسْم من أَربع جِهَات:
أَحدهَا: أَن يكون صفة كَمَا يكون الِاسْم، كَقَوْلِك: مَرَرْت بِرَجُل يضْرب، كَمَا تَقول: مَرَرْت بِرَجُل ضَارب.
وَالثَّانِي: أَنه يصلح لزمانين، أَحدهمَا الْحَال، وَالْآخر الِاسْتِقْبَال، ثمَّ تدخل (السِّين وسوف) فتبينه إِلَى الِاسْتِقْبَال، كَمَا أَن قَوْلك: ضَارب، لَا يدل على شخص بِعَيْنِه، كَمَا اخْتصَّ الْفِعْل بِزَمَان بِعَيْنِه.
وَالثَّالِث: أَن اللَّام الَّتِي تدخل فِي خبر (إِن) تدخل على الِاسْم، وعَلى هَذَا الْفِعْل، كَقَوْلِك: إِن زيدا لقائم، وَإِن زيدا ليقوم، ويقبح دُخُولهَا على
1 / 143
الْمَاضِي، نَحْو: إِن زيدا لقام. فَلَمَّا شرك الْفِعْل الْمُضَارع الِاسْم فِي حسن دُخُول اللَّام عَلَيْهِ، علمنَا أَن بَينهمَا مشابهة.
وَإِنَّمَا قبح دُخُول اللَّام على الْمَاضِي، لِأَن هَذِه اللَّام أصل دُخُولهَا على المبتدإ، ونقلت عَن موضعهَا لدُخُول (إِن) عَلَيْهَا، وَحقّ خبر الْمُبْتَدَأ أَن يكون هُوَ الْمُبْتَدَأ فِي الْمَعْنى، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل الْمُضَارع مشبها للاسم حسن دُخُول اللَّام عَلَيْهِ، وَلما بعد الْمَاضِي من شبه الِاسْم، قبح دُخُولهَا عَلَيْهِ.
وَالرَّابِع: أَن قَوْلك: ضَارب، يصلح لزمانين، وَكَذَلِكَ: يضْرب، يصلح لزمانين. وَإِنَّمَا صَارَت هَذِه (٣ / أ) المشابهة لَهَا تَأْثِير، لِأَن الِاسْم الْوَاحِد قد يَقع لمسميات كَثِيرَة، فَلَمَّا وَقع الْمُضَارع لزمانين، صَار كالاسم الْوَاقِع لمسميين، فَلذَلِك صَار هَذَا الْوَجْه معتدا بِهِ فِي شبهه للاسم، وَلم يجز أَن يعْتد بِكَوْن (ضرب) دَالا على الزَّمَان الْمَاضِي، فَيجْعَل الْمَاضِي مشبها لَهُ فِي هَذِه الْوُجُوه، لِأَن دلَالَة الْفِعْل على معنى وَاحِد لَا يُوجب شبها بالأسماء، لِأَن الاتساع إِنَّمَا وَقع فِي الْأَسْمَاء، لكَون الِاسْم الْوَاحِد لمسميات، لضيق الْأَسْمَاء، وَكَثْرَة المسمين بهَا، فَمَا أشبههَا من هَذَا الْوَجْه يجْرِي مجْراهَا، وَمَا دلّ على معنى وَاحِد فَهُوَ على أَصله، فَلَمَّا أشبه الْفِعْل الْمُضَارع الِاسْم من هَذِه الْجِهَات، وَجب أَن يحمل على الِاسْم فِيمَا يسْتَحقّهُ الِاسْم، وَهُوَ الْإِعْرَاب.
وَإِنَّمَا حمل على الِاسْم فِي الْإِعْرَاب دون مَا يسْتَحقّهُ الِاسْم من الْجمع
1 / 144
والتصغير، وَغير ذَلِك مِمَّا يخْتَص بالأسماء دون الْأَفْعَال، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يُغير معنى الْفِعْل بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، وَصَارَ مَا ذكرته يُوجب تَغْيِير معنى الْفِعْل وإخراجه إِلَى أَن يكون اسْما، إِذْ كَانَت الْمعَانِي الَّتِي اخْتصَّ بهَا الِاسْم مِمَّا لَا يَصح دُخُولهَا على الْفِعْل، وَإِنَّمَا اخْتصَّ بهَا من حَيْثُ كَانَ اسْما، فَلذَلِك وَجب أَن يحمل الْفِعْل على الِاسْم من أجل مَا أشبهه فِي حكم لَا يُغير مَعْنَاهُ، ويلحقه بِمَعْنى الْأَسْمَاء، وَهُوَ الْإِعْرَاب، إِلَّا أَن الْجَزْم لم يجز دُخُوله على الِاسْم، لِأَنَّهُ لَو دخل عَلَيْهِ لأوجب حذف شَيْئَيْنِ، وهما: التَّنْوِين وَالْحَرَكَة، وَالِاسْم فِي نِهَايَة الخفة، فَكَانَ ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الإجحاف بِهِ، فَسقط الْجَزْم من الْأَسْمَاء، وَأدْخل فِي الْأَفْعَال، إِذْ كَانَ الْفِعْل ثقيلا يحْتَمل الْحَذف وَالتَّخْفِيف، فاستقر الْجَزْم للْفِعْل لما ذكرنَا.
وَبَقِي من الْإِعْرَاب ثَلَاثَة أضْرب، وَهُوَ: الرّفْع وَالنّصب والجر، فالجر امْتنع من الْفِعْل، لِأَن الْجَرّ إِنَّمَا يكون بِالْإِضَافَة، وَالْفضل بِالْإِضَافَة تَخْصِيص الْمُضَاف، وَالْفِعْل لَو أضفت إِلَيْهِ لم تخص مَا قبله، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: هَذَا غُلَام، لَكِن مُبْهما، فَإِذا قلت: غُلَام زيد، اخْتصَّ بِملك زيد، فَلَو قلت: جَاءَنِي غُلَام يقوم، لم يخْتَص الْغُلَام بإضافته إِلَى (يقوم) لِأَن الْقيام يكون من زيد، وَمن عَمْرو، وَسَائِر النَّاس، فَلهَذَا أسقط الْجَرّ من الْفِعْل.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْمَجْرُور يقوم مقَام التَّنْوِين، وَالْفِعْل لَا يَخْلُو من
1 / 145
فَاعل، فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى أَن يقوم مقَام التَّنْوِين - وَهُوَ وَجه وَاحِد ضَعِيف - شَيْئَانِ قويان، وهما الْفِعْل وَالْفَاعِل، فَسقط الْجَرّ من الْفِعْل، وَجعل فِي الِاسْم، إِذْ كَانَ محلا للإعراب.
وَبَقِي من الْإِعْرَاب الرّفْع وَالنّصب، وَلم يعرض فِيهَا مَا يُوجب اختصاصهما أَو أَحدهمَا بِالْفِعْلِ وَالِاسْم، فَوَجَبَ أَن يدخلا عَلَيْهِمَا.
وَجَازَت إِضَافَة أَسمَاء الزَّمَان إِلَى الْأَفْعَال لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَى المصادر، وَالْفِعْل يدل على مصدره، كَقَوْلِك: (من كذب كَانَ شرا لَهُ)، أَي: كَانَ الْكَذِب شرا لَهُ، فَلَمَّا جَازَ أَن نقُول: أعجبني يَوْم خُرُوجك. جَازَ أَن تَقول: أعجبني يَوْم تخرج.
وَوجه آخر: أَن الْفِعْل يدل على مصدر وزمان، وَالزَّمَان جُزْء من الْفِعْل، فَلَمَّا جَازَت إِضَافَة الْبَعْض إِلَى الْكل (٣ / ب) جَازَت إِضَافَة الزَّمَان إِلَى الْفِعْل، كَمَا يجوز أَن تَقول: (ثوب خَز) .
وَقَالَ الْأَخْفَش فِي ذَلِك: إِن جَمِيع ظروف الزَّمَان يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَيْهَا بِغَيْر
1 / 146
توَسط حرف الْجَرّ.
وظروف الْمَكَان إِنَّمَا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى الْمُبْهم مِنْهَا بِغَيْر توَسط حرف الْجَرّ، فَجعلت إِضَافَة ظروف الزَّمَان إِلَى الْفِعْل عوضا من ذَلِك.
فَأَما (حَيْثُ) من ظروف الْمَكَان فَيجوز إضافتها إِلَى الْفِعْل، تَشْبِيها ب (حِين)، لِأَنَّهَا مُبْهمَة فِي الْمَكَان كإبهام (حِين) فِي الزَّمَان، فَلذَلِك جَازَ إضافتها إِلَى الْفِعْل.
فاستقر بِمَا ذكرنَا أَن الْجَرّ للأسماء، والجزم للأفعال، وَبَقِي الرّفْع وَالنّصب مشتركين للأسماء وَالْأَفْعَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قُلْتُمْ إِن أصل الْأَفْعَال السّكُون، ثمَّ بينتم وجوب الْإِعْرَاب للمضارع، فَمن أَيْن اخْتلف فعل الْأَمر وَالْفِعْل الْمَاضِي، فبنيتم الْمَاضِي على الْفَتْح، وَالْأَمر على السّكُون؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْفِعْل الْمَاضِي قد حصلت لَهُ مشابهة بِالِاسْمِ من وَجه، وَذَلِكَ فِي الصّفة، نَحْو قَوْلك: مَرَرْت بِرَجُل قَامَ، كَمَا تَقول: مَرَرْت
1 / 147
بِرَجُل قَائِم، وَيَقَع موقع الْمُضَارع فِي الشَّرْط، كَقَوْلِك: إِن ضربت ضربت، فَهُوَ بِمَنْزِلَة: إِن تضرب أضْرب. وَفعل الْأَمر لَا يَقع هَذَا الْموقع، فَجعل للماضي مزية على فعل الْأَمر، وَلم تبلغ هَذِه المزية أَن توجب لَهُ الْإِعْرَاب، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل الْمَاضِي حكمه بَين حكم الْمُضَارع وَبَين فعل الْأَمر، فَمنع الْإِعْرَاب، لنقصه عَن الْمُضَارع، وَفضل بحركة لمزيته على فعل الْأَمر.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جعلت تِلْكَ الْحَرَكَة الفتحة؟
قيل: لِأَن الْغَرَض بتحريكه أَن تحصل لَهُ مزية على فعل الْأَمر، وبالفتح نصل إِلَى غرضنا، كَمَا نصل بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، إِلَّا ان الْفَتْح أخف الحركات، فَوَجَبَ اسْتِعْمَاله لخفته.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْجَرّ لما منع الْفِعْل، وَهُوَ كسر عَارض، وَالْكَسْر اللَّازِم أولى أَن يمْنَع الْفِعْل، فَلهَذَا لم يجز أَن يبْنى على الْكسر، وَلم يجز أَن يبْنى على الضَّم، لِأَن بعض الْعَرَب تجتزئ بالضمة عَن الْوَاو، فَتَقول فِي قَامُوا: قَامَ، قَالَ الشَّاعِر:
1 / 148
(فَلَو أَن الأطبا كَانَ حَولي ... وَكَانَ مَعَ الْأَطِبَّاء الأساة)
فَلَو بني على الضَّم لالتبس بِالْجمعِ فِي بعض اللُّغَات، فأسقط للالتباس، وَأسْقط الْكسر لما ذَكرْنَاهُ، فَلم يبْق إِلَّا الْفَتْح فَبنِي عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا تنكرون أَن يكون الْأَمر مَجْزُومًا بلام محذوفة، لِأَن الأَصْل فِي قُم: لتقم، وَالدّلَالَة فِي ذَلِك قِرَاءَة النَّبِي ﷺ َ -: " فبذلك فلتفرحوا "، فحذفت اللَّام وَالتَّاء، وَبَقِي الْفِعْل مَجْزُومًا كَمَا كَانَ؟
قيل لَهُ: هَذَا يُفَسر من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن حُرُوف الْجَزْم أَضْعَف من حُرُوف الْجَرّ، لِأَن الْفِعْل أَضْعَف من الِاسْم، والجر على هَذَا يجوز أَن يكون أقوى من الْجَزْم، وعوامل الْجَرّ يجوز حذفهَا، وَمَا هُوَ أَضْعَف مِنْهَا أولى أَلا يحذف.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن هَذِه الزَّوَائِد أوجبت للْفِعْل المضارعة للاسم، فَوَجَبَ أَن يَزُول الْإِعْرَاب الَّذِي وَجب من أجلهَا.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن شَرط المعرب أَن تعتقب فِي آخِره الحركات باخْتلَاف العوامل، وَشرط الْمَبْنِيّ أَن يلْزم طَريقَة وَاحِدَة. فَلَمَّا وجدنَا فعل الْأَمر لَا يَزُول عَن السّكُون (٤ / أ) وَجب أَن يلْحق بِحكم المبنيات دون المعرب، وَلَيْسَ معني دُخُول (اللَّام) معنى الْأَمر. والأسماء لَا يَصح دُخُول الْجَزْم عَلَيْهَا، نَحْو:
1 / 149
صه ومه، وَمَا أشبه ذَلِك، فقد بَان بِمَا ذكرنَا أَن فعل الْأَمر يُوجب أَن يكون مَبْنِيا على السّكُون.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَارَت هَذِه الْأَسْمَاء السِّتَّة تخْتَلف أواخرها، نَحْو قَوْلك: جَاءَنِي أَخُوك، وَرَأَيْت أَخَاك، ومررت بأخيك، وَغَيرهَا من الْأَسْمَاء إِنَّمَا تخْتَلف أواخرها بالحركات؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون جعلُوا هَذِه الْأَسْمَاء مُخْتَلفَة الْأَوَاخِر، تَوْطِئَة لما يَأْتِي من التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَصَارَت هَذِه الْأَسْمَاء أولى بالتوطئة من غَيرهَا، لِأَنَّهَا أَسمَاء لَا تنفك من إِضَافَة الْمَعْنى، وَالْإِضَافَة فرع على الأَصْل، كَمَا أَن التَّثْنِيَة وَالْجمع فرع على الْوَاحِد، فَلَمَّا شابهت هَذِه الْأَسْمَاء التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي هَذَا الحكم، كَانَت أولى من غَيرهَا الَّتِي لَا مُشَاركَة بَينهَا وَبَين التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي هَذَا الحكم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذِه الْأَسْمَاء تفرد فِي اللَّفْظ، فَيصير إعرابها بالحركات، نَحْو قَوْلك: هَذَا أَب، وَرَأَيْت أَبَا، ومررت بأب. فقد لَزِمت أوساطها الحركات، فَلَمَّا ردوهَا إِلَى أَصْلهَا فِي الْإِضَافَة، وَقد كَانَت أوساطها تدْخلهَا
1 / 150
حركات الْإِعْرَاب، أَرَادوا أَن يبقوا هَذَا الحكم فِيهَا، ليدل بذلك على أَنَّهَا مِمَّا يَصح أَن يعرب بالحركات فِي حَال الِانْفِرَاد، فَوَجَبَ أَن يضموا أوساطها فِي الرّفْع، فَلَمَّا ضمُّوا وَسطهَا انْقَلب آخرهَا واوا، لِأَن أَصْلهَا (فعل)، فَحق أواخرها أَن تقلب ألفا، لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْألف مَتى انْضَمَّ مَا قبلهَا صَارَت واوا، وَكَذَلِكَ إِذا انْكَسَرَ مَا قبلهَا صَارَت ياءا، فَلهَذَا وَجب أَن تخْتَلف أَوَاخِر هَذِه الْأَسْمَاء بالحروف.
وَاعْلَم أَن الْإِعْرَاب فِي الْحَقِيقَة مُقَدّر فِي هَذِه الْحُرُوف، إِذْ شَرط الْإِعْرَاب أَن يكون زِيَادَة على بِنَاء الِاسْم، وَلَا يجوز أَن يكون مَا تفْتَقر إِلَيْهِ الْكَلِمَة من بنائها إعرابا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالإعراب مُقَدّر كَمَا يقدر فِي الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة وسنبين لم وَجب تَقْدِيره، وَلم يسْتَحق اللَّفْظ، فِي مَوْضِعه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب أَن يكون الْإِعْرَاب فِي آخر الْكَلِمَة دون أَولهَا ووسطها؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْأَوَائِل لَا يَصح أَن تكون مَوَاضِع الْإِعْرَاب لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن بعض الْإِعْرَاب سُكُون، فَلَو أعربت الْأَوَائِل لَأَدَّى ذَلِك أَن يبتدأ بالساكن، وَهَذَا محَال، لِأَن الِابْتِدَاء مهيج للنطق، فَلَا يجوز أَن يثير تهيجه حَرَكَة مَعَ الْحَرْف، وَلَو جَازَ الِابْتِدَاء بالساكن، لَكَانَ ذَلِك شَائِعا فِي
1 / 151
أَكثر الْحُرُوف، لِأَن الْحَرَكَة غير الْحُرُوف، فَإِذا جَازَ أَن يجرد بعض الْحُرُوف من الْحَرَكَة، جَازَ ذَلِك فِي سَائِر الْحُرُوف، فَلَمَّا امْتنع هَذَا الحكم عِنْد من يُخَالف فِي هَذَا الْموضع - إِلَّا فِي حرف أَو حرفين يقدر أَنَّهَا سَاكِنة، وَإِنَّمَا هُوَ اختلاس الْحَرَكَة - صَحَّ مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَن الِابْتِدَاء بالساكن مُمْتَنع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الِابْتِدَاء لَا بُد لَهُ من حَرَكَة تختصه، لما ذَكرْنَاهُ، فَلَو أعرب الأول لم تعرف حَرَكَة الْإِعْرَاب من حَرَكَة الْبناء، فَلهَذَا لم يجز أَن تدخل فِي الأول، وَلم يجز أَن تدخل فِي الْأَوْسَط لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الْوسط بِهِ (٤ / ب) يعرف وزن الْكَلِمَة، هَل هُوَ على (فعل) أَو (فعل) أَو (فعِل) فَلَو أعرب الْوسط اخْتلطت أَيْضا حَرَكَة الْإِعْرَاب بحركة الْبناء.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن من الْأَسْمَاء مَا لَا وسط لَهُ، وَهُوَ مَا كَانَ عدده زوجا، نَحْو مَا كَانَ على حرفين، ك (يَد، وَدم)، وَمَا كَانَ على أَرْبَعَة أحرف، نَحْو: جَعْفَر، وَمَا كَانَ على سِتَّة أحرف، نَحْو: عضرفوط، فَلَو أعرب الْوسط لَأَدَّى ذَلِك إِلَى أَن يخْتَلف مَوضِع الْإِعْرَاب، إِذا كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَسْمَاء لَا وسط لَهُ، فَسقط أَن تعرب الأوساط، فَلم يبْق إِلَّا الْأَوَاخِر، فَلهَذَا صَارَت محلا للإعراب.
1 / 152
وَوجه آخر فِي الأَصْل: وَهُوَ أَن الْإِعْرَاب قد بَينا أَنه دخل لإِفَادَة الْمَعْنى، وَهُوَ زِيَادَة على الِاسْم، وَإِنَّمَا يعرف الشَّخْص عِنْد الْفَرَاغ من ذكر اسْمه، فَيجب أَن يكون إِذا فهم معنى الشَّخْص أَن يزْدَاد عَلَيْهِ معنى الْإِعْرَاب، فَإِذا كَانَت مَعْرفَته إِنَّمَا تقع عِنْد الْفَرَاغ من الِاسْم، فَلَا سَبِيل أَن يكون الْإِعْرَاب فهم الشَّخْص وَمَعْنَاهُ، وَلَو كَانَ على غير هَذَا لأشكل مَعْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم خصوا التَّنْوِين من بَين سَائِر الْحُرُوف فجعلوه عَلامَة للانصراف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن أولى مَا يُزَاد من الْحُرُوف للعلامة حُرُوف الْمَدّ أَو اللين، وَإِنَّمَا صَارَت أولى لِكَثْرَة دورها فِي الْكَلَام، إِذْ لَا كلمة تَخْلُو مِنْهَا أَو من بَعْضهَا، فكرهوا أَن يزِيدُوا حرفا مِنْهَا عَلامَة للانصراف، إِذْ كَانَت هَذِه الْحُرُوف تدل على التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَكَانَت زيادتها تُؤدِّي إِلَى أحد أَمريْن: إِمَّا اللّبْس بالتثنية وَالْجمع، أَو يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى ثقل اللَّفْظ، فَسَقَطت زيادتها، وَلم يكن للحروف شَيْء أقرب إِلَيْهَا من التَّنْوِين، لِأَن التَّنْوِين نون خَفِيفَة، وَإِنَّمَا لقب بِهَذَا اللقب ليفصل بَين النُّون الَّتِي يُوقف عَلَيْهَا وَبَين هَذِه النُّون - أَعنِي التَّنْوِين الَّذِي لَا يُوقف عَلَيْهِ - وشبهت بحروف الْمَدّ واللين أَنَّهَا غنة فِي الخيشوم، فَلَيْسَ على الْمُتَكَلّم فِيهِ كلفة، إِذْ لَا يعْتَمد لَهُ فِي الْفَم فَجرى مجْرى الْألف فِي الخفة، إِذْ كَانَت هَوَاء فِي الْحلق، فَلهَذَا وَجب أَن يزْدَاد التَّنْوِين عَلامَة للانصراف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى إِدْخَال التَّنْوِين إِلَى الْفَصْل
1 / 153
الَّذِي ذكرتموه؟
قيل لَهُ: لِأَن الْأَسْمَاء كلهَا نوع وَاحِد، ثمَّ دخل على بَعْضهَا مَا أوجب لَهُ الشّبَه بالحروف، فَهَذَا الْقسم يبْنى على حَرَكَة أَو سُكُون، لِأَنَّهُ أشبه الْمَبْنِيّ، وَهُوَ الْحَرْف، وَذَلِكَ نَحْو: أَيْن، وَكَيف، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَوجه شبهه بالحروف أَنه نَاب عَنْهَا، وَذَلِكَ قَول الْقَائِل: أَيْن زيد؟ يَنُوب عَنهُ قَوْله: أَفِي الدَّار زيد؟ وَمَا أشبه ذَلِك من الْأَمَاكِن، نَحْو: السُّوق وَغَيره، فَلَمَّا نَاب عَن حرف الِاسْتِفْهَام وَجب أَن يبْنى لبنائه. وَمن الْأَسْمَاء مَا دخلت عَلَيْهِ أوجبت لَهُ الشّبَه بِالْفِعْلِ، فَهَذَا الْقسم يعرب، إِلَّا أَنه لَا يدْخلهُ الْجَرّ والتنوين، كَمَا لَا يدْخل الْفِعْل الَّذِي أشبهه.
وَمن الْأَسْمَاء لم تعرض لَهُ عِلّة تخرجه عَن أَصله، وَهُوَ الْإِعْرَاب، فَلَو لم يدْخل التَّنْوِين عَلَيْهِ لالتبس بالمعرب الَّذِي يشبه الْفِعْل، فَلم يكن بُد من عَلامَة تفصل بَينهمَا، فَهَذَا الَّذِي أوجب أَن يفصل بِالتَّنْوِينِ بَين المنصرف وَغَيره.
(٥ / أ) فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم أسقطتم التَّنْوِين فِي الْوَقْف؟
قيل لَهُ: لِأَن التَّنْوِين تَابع للإعراب، أَلا ترى أَنه يدْخل فِي الْمَرْفُوع والمنصوب وَالْمَجْرُور، فَلَمَّا كَانَ تَابعا لَهُ، وَالْإِعْرَاب لَا يُوقف عَلَيْهِ، وَجب أَن يسْقط فِي اللَّفْظ، إِذْ كَانَ تبعه من جِهَة اللَّفْظ، أَلا ترى أَن التَّنْوِين لَا يُوجد إِلَّا بعد حَرَكَة، فَإِذا وَجب إِسْقَاط حَرَكَة مَا قبلهَا تبعه فِي السُّقُوط.
1 / 154
وَوجه آخر قد ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ - أَي التَّنْوِين - قد بَينا أَنه زِيَادَة على الْكَلِمَة، وَحكم الزَّائِد أنقص من حكم الْأَصْلِيّ، فأسقطوه فِي الْوَقْف ليدلوا بذلك على نَقصه.
فَإِن قيل لَك: هلا أسقط فِي الدرج، وَأثبت فِي الْوَقْف؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن السُّؤَال يرجع على السَّائِل لَو صرنا إِلَى مَا قَالَ، فَلَمَّا لم يفدنا إِلَّا مَا نَحن عَلَيْهِ من الْفرق، لم يكن لأحد أَن يعْتَرض بِهَذَا الِاعْتِرَاض، إِذْ لَو فعلوا مَا سَأَلنَا السَّائِل لَكَانَ جَائِزا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن مَا فَعَلُوهُ أولى مِمَّا سألناه، وَذَلِكَ أَن الْإِعْرَاب قد اسْتَقر أَن ثَبت حكمه فِي درج الْكَلَام، وَهُوَ زِيَادَة على الِاسْم، وَيسْقط فِي الْوَقْف، فَحمل التَّنْوِين عَلَيْهِ، لاشْتِرَاكهمَا فِي أَنَّهُمَا علامتان زائدتان على الِاسْم، فَلَمَّا وَجب فِي الْإِعْرَاب كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَنَّهُ عِنْد الْفَرَاغ من الْكَلِمَة يجب أَن تقع رَاحَة الْمُتَكَلّم، إِذْ كَانَ آخر نشاطه آخر كَلَامه، فأرادوا أَن يكون لَفظه فِي هَذِه الْحَال أخف من لَفظه فِي حَال النشاط، فَجعل حَال الدرج بالحركة والتنوين، لِأَنَّهُ مَوضِع لاستراحته. /
فَإِن قيل لكم: فَلم أبدلتم من التَّنْوِين ألفا فِي الْوَقْف، وَهَذَا قد أدّى إِلَى التَّسْوِيَة بَين الزَّائِد والأصلي على مَا عللتم لِأَنَّهُ قد ثَبت فِي الْوَقْف والوصل؟
[قيل]: لِأَن الْقَصْد فِي الْفَصْل بَين الزَّائِد والأصلي أَن يحصل للزِّيَادَة حَال نقص فِي حَال الْوَقْف والدرج، وَلَا يثبت فِي حَال وَاحِدَة، كثبات الْأَصْلِيّ، وَالْألف الَّتِي هِيَ بدل من التَّنْوِين تسْقط فِي الدرج، كَمَا يسْقط التَّنْوِين فِي الْوَقْف، فقد فَارق حكم الْحَرْف الْأَصْلِيّ، وَإِنَّمَا أبدلوا من التَّنْوِين ألفا لِأَن الْألف خَفِيفَة،
1 / 155
وَأَن الْإِشَارَة إِلَى الْفَتْح متعذرة لخفائه، فَكَانَ الْبَدَل من التَّنْوِين ألفا يجْتَمع فِيهِ أَمْرَانِ:
أَحدهمَا: بَيَان الْإِعْرَاب فِيمَا قبله.
وَالْآخر: أَن تكون هَذِه الْعَلامَة لَهَا حَال تثبت فِي الْوَصْل وَالْوَقْف حَتَّى لَا يسْقط حكمهَا فِي الْوَقْف بِحَال. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِك لِأَن شَرط الْعَلامَة أَن تثبت فِي كل حَال.
فَلَمَّا عرض فِي ثباتها فِي جَمِيع الْأَحْوَال اللّبْس بالحرف الْأَصْلِيّ، والتسوية بَينهَا وَبَينه، أسقط التَّنْوِين فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَأثبت هَا هُنَا لِئَلَّا يخل بِحكمِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم يجب الْوَقْف على السّكُون وعَلى الْإِشَارَة إِلَى الضَّم وَالْكَسْر؟
قيل لَهُ: قد بَينا أَن الأَصْل إِنَّمَا يجب أَن يكون بِالسُّكُونِ، وَالَّذِي يُشِير إِلَى الضَّم وَالْكَسْر فَإِنَّمَا غَرَضه أَن يبين أَن لهَذَا الْحَرْف حَال حَرَكَة فِي الدرج، وَبَعْضهمْ يروم الْحَرَكَة. والفصل بَين الرّوم والإشمام أَن الإشمام إِنَّمَا يفهمهُ الْبَصِير دون الضَّرِير، لِأَنَّهُ عمل بالشفة بعد الْفَرَاغ من الْحَرْف. فَأَما الرّوم فَهُوَ الاختلاس للحركة، وَهُوَ (٥ / ب) مِمَّا يُدْرِكهُ الْبَصِير والضرير.
وَهَذِه الثَّلَاثَة الْوُجُوه تجوز فِي كل اسْم قبل آخِره سَاكن، فَإِن كَانَ قبل آخِره متحرك جَازَت الْوُجُوه الثَّلَاثَة فِيهِ.
1 / 156