Certainty in the Four Evidences
القطعية من الأدلة الأربعة
Investigator
-
Publisher
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٠هـ
Publisher Location
المملكة العربية السعودية
Genres
القطعية من الأدلة الأربعة
تأليف: محمد دكوري
مقدمة
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يأَيُهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ﴾ ١. ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢.
﴿يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولُهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣.
أما بعد:
فقد كان الناس في جاهليةٍ انطمست فيها معالِمُ السبيل، يتخبطون ولا يُرشِدُهم إلى الصراطِ المستقيمِ دليل، حَيَّرَتْهم السبلُ المتفرقة بأماراتها الكاذبةِ ومعالمِها الخادعة، وإن فقدانَ الدليلِ المرشد، واختلاطَ الأمارات، وانطماسَ المعالم لمن أخطرِ ما يلقاه سالكُ الطريق.
_________
١ سورة آل عمران (١٠٢) .
٢ النساء (١) .
٣ سورة الأحزاب (٧٠،٧١) .
1 / 5
ثم أنعم الله على عبادِه بالهدايةِ إلى الإسلام، فأنار به سبيلًا ذاتِ معالمَ واضحة، وبدَّد به ما أَطْبَق من الظلمات، وأنزل عليهم كتابَه العزيز دليلا مرشدا، وقد حذّر به من اتباعِ السبلِ المتفرقة بما أقام من الحجةِ البالغة، فمن اعتصم به ظَفِر بعلم اليقين، ومن زاغ عنه فقد قطع على نفسه سبيلَ المعذرة إذ عرَّضها للمهانةِ والمذَمَّة.
فكان من أعظم النعم - بعد نعمة الهداية - ما منحَ الله تعالى من نَصْبِ الأدلة والأمارات التي بها يطمئن سالك الطريق، ويرجع بها الضالُّ والتائِهُ إلى جادة السبيل.
وكان أهمَّ ما هدى الله به إلى أحكامِ شريعتِه واتباعِ سبيلِه كتابُه العزيز الذي هو مرجع الأدلة ومعينها الذي لا ينضب، وسنة رسوله ﷺ التي بينت الكتاب وأوضحته، ثم سبيل المؤمنين التي عليها أمرهم جميعا، فهي عصمة الشريعة وحصنُها المنيع، ثم رحم الله عبادَه بما فتح لهم من أبوابِ الاجتهادِ في الأدلة، وإن أوسعَ ما وقع من ذلك الاجتهادُ في الملماتِ النوازل بالنظر في ميزان القياس والاعتبار.
فالكتابُ والسنة والإجماعُ والقياس أهمُّ معالمِ السبيلِ وأحقُّ منارات الشريعة، وقد اهتم العلماء ﵏ بالأدلة الأربعةِ وغيرِها، فكانت مدارَ البحث في أصول الفقه وغيرِه من علوم الشريعة.
وأصلُ ما يبحث في الأدلة إثباتُها أدلةً يجب العملُ بها، وطُرُقًا يلزمُ
1 / 6
سلوكُها إلى الأحكامِ الشرعية، وذلك البحث في حجيتها.
ثم فرّع أهلُ العلمِ على هذا الأصلِ مباحثَ كثيرة، بيَّنوا فيها حقيقةَ الأدلة، وطرقَ العملِ بها، وكيف يستنبط الناظرُ فيها أحكامَ الشريعة.
ومن فروع البحثِ في الأدلة الشرعية النظرُ في الاختلاف الواقعِ بينها من حيث القوة في الثبوتِ أو الدلالة، حتى يكونَ منها ما ينتهي في القوة إلى حيث يَفصِلُ كلَّ احتمال، فيلزم عالِمَه العملُ به ولا تجوز مخالفتُه بما يَقطع من العذر ويَدفع من الشبهة.
وقوةُ الدليلِ ووضوحُهُ في المراد من الاحتجاج أو المحاجَّة من أعظم الأسبابِ التي تورث الطمأنينةَ في القلب وتُوجِبُ - لمن حصَّلها - مزيدَ إقبالٍ على العمل، لما تُضْفِي على الحكم من أمن الخطأ، وتُقْصِي عنه من احتمال الزَّلَل، فمن ظَفِر على مطالبه بقواطع الأدلة، وكان طريقَه إلى الأحكامِ سواطعُ الحجج كان على يقين من أمره بسلوك الطريق الصحيحِ الموصلِ إلى ما يصبو إليه، وذلك من أسبابِ الرسوخِ في العلم والإمامةِ في الدين.
القطعية في الأدلةِ الشرعية من المباحث الأصيلةِ في أصول الفقه، لتعلقِه بصفةٍ من صفات الأدلة، وتفرُّعِه عن مبحث الحجية، وإن لعلماء أصول الفقه فيه تصريحات وإشارات.
وإن الوصول في البحث العلمي إلى اليقين المُستَنِد إلى الدليل القطعي يظل مطلبا مهما في غير العلومِ الشرعية أيضا، فكثيرا ما بقيت نتائجُ
1 / 7
المطلب الثاني: جهة الدلالة.
المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية.
المبحث الثاني: فيما يفيد القطعيةَ في الدليل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إفادة الإجماعِ القطعيةَ في الدليل.
المطلب الثاني: أثر القرائنِ في إفادة القطعية.
المبحث الثالث: فيما يمنع القطعيةَ عن الدليل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أثر الخلافِ في منعِ القطعية.
المطلب الثاني: الاحتمالُ وأثرُه في منع القطعية.
الفصل الثاني: أثر قطعيةِ الدليل، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر القطعية في الاصطلاح، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الدليلِ والأَمارة.
المطلب الثاني: في الفرضِ والواجب.
المبحث الثاني: أثرُ القطعيةِ في الاجتهادِ والتَّخْطِئَة.
المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح.
الباب الثاني: أحكامُ القطعيةِ في الأدلة الأربعة، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: أحكام القطعيةِ في الكتاب والسنة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الكتاب والسنة أصلُ الأدلةِ القطعية.
1 / 8
المبحث الثاني: أحكام القطعيةِ في السنةِ من جهة الثبوت، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: قطعيةُ الخبرِ المتواتر.
المطلب الثاني: قطعيةُ خبرِ الواحد.
المبحث الثالث: أحكامُ القطعيةِ في الكتاب والسنة من جهة الدلالة وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قطعية النص.
المطلب الثاني: قطعية العموم.
المطلب الثالث: قطعية المفهوم.
الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: قطعية الإجماع.
المبحث الثاني: الإجماع القطعي.
الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: قطعية القياس.
المبحث الثاني: القياس القطعي.
المبحث الثالث: القطعي من مَسالِكِ العلة.
ثم أَرْدَفْتُ بِخاتِمةٍ ذكرتُ فيها أهمَّ النتائج وبعضَ مَجالِ البحث في القطعية.
1 / 9
ثم ذكرتُ من الفهارس العلمية:
- فهرسَ الآيات القرآنية.
- وفهرسَ الأحاديثِ النبوية.
- وفهرسَ الآثار.
- وفهرسَ الأعلام.
- وفهرسَ المراجع.
- وفهرسَ الموضوعات.
منهجي في البحث:
ويتبين المنهجُ الذي سرت عليه في البحث بما يلي:
أ - في الوصول إلى مادةِ الموضوع جَمَعْتُ ما ذكره أهلُ العلمِ من المصادر الأصوليةِ الأصيلة وما ذكره العلماء من غير الأصوليين بما أَقْدَرَ اللهُ من الجُهدِ في البحث والتنقيب، ثم وَزَّعْتُ ذلك على الجُزَيْئاتِ السابقةِ من خطة البحث.
ب - ذكرت أقوالَ أهلِ العِلمِ حَسَبَ التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ لوفاتهم ﵏، إلا أن يكونَ قولُ بعضِهم أوضحَ للفقرة فأقدمُه ثم أنقلُ من أشار إلى ذلك.
ج - للقطعية سوابقُ ولواحقُ من البحث تتَّصِلُ بها أحيانا وليس من صَمِيمِها، مثلُ بحثِ حجيةِ الدليل السابقِ لقطعيته، ومثلُ بحثِ الضروريةِ أو النظريةِ في الدليل اللاحقِ لبحث القطعيةِ فيه، واقْتَصَرْتُ على البحث في
1 / 10
الدراساتِ في العلوم الكونية قضايا قابلةً للنقضِ لأدنى شبهةِ احتمال، بل قد تَكشفُ بحوثٌ جديدةٌ ما يُبْطِل نظرياتٍ كانت تُعَدُّ من الحقائق العلمية!
لكن الأحكامَ الشرعيةَ المُسْتَنِدةَ إلى أدلتِها الصحيحة تختلف عن تلك العلوم من حيث المصدر وطرق الوصول، فإن مصدرَ علومِ الشرع - على اختلافها وتنوعها - الوحيُ من السماء، وأصلها الإيمان بالله الحكيمِ العليم، وأنه أنزل كتابا فيه ذِكْرٌ تكفَّل ﷾ بحفظه، وكلَّف رسولَه ﷺ التبيين، وهو الناصحُ الأمين، الحريصُ على حَسْمِ مواردِ اللبسِ وقطعِ موجباتِ الخطأِ ومواردِ الضلال.
فكان الفرضُ في الابتداء - من أجل هذا المُسَلَّمِ الإيمانيِّ - أن قضية القطعِ في العلوم الشرعية لا يجوز بحثها معزولةً عن مصدرها، وأنها مختلفة عن بحث القطعيةِ في العلومِ الكونية والمعارفِ الإنسانيةِ الأخرى.
ولما عرَض لي بحثُ موضوعٍ في أصول الفقه لمرحلة العالمية (الماجستير) - وبعد أن استشرت بعضَ أساتذتي - وفَّقني الله إلى اختيار هذا البحث موضوعا في هذه المرحلة.
أسباب اختيار الموضوع:
كان لاختيار الموضوع دوافع:
منها: ما تقدم من أهمية اليقين وأن القطعَ بأدلةِ الأحكام يورث الطمأنينةَ وأمنَ الزلل.
1 / 11
ومنها: أنه موضوعٌ في صميم الأدلة الأربعة التي هي أهم موضوعات علمِ أصولِ الفقه.
ومنها: أنه موضوعٌ يدخلُ في كثيرٍ من أبوابِ أصولِ الفقه، فيقف الطالب على كثيرٍ من مسائلِ هذا العلم.
والبحث في (القطعية) متفرقٌ في ثنايا كلامِ أهلِ العلمِ في أصول الفقه لا يجمعه باب، ولا تُرشِد إلى الوقوف عليه مظان، وإنما يُلفَى من خلال إشاراتِ العلماءِ في مواضعَ غير مطردةٍ، وعند استطرادِ البحثِ والتأصيل، أو إيرادِ الأسئلةِ والأجوبةِ في المناقشات، على أن بعضَ موادِّ هذا الموضوع توجد كذلك متفرقة في غير المشهورِ من كتبِ أصول الفقه الخاصة، مثل مؤلفاتِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، وكتبِ شمس الدين ابنِ القيم، وفي تحقيقات الشيخِ أبي إسحاق الشاطبي وغيرِهم من العلماء رحمة الله عليهم أجمعين.
فلما بدا من ذلك ما بدا ولاح أنّ مما يمكنُ فيه البحث جمعَ ما تفرق في ذلك من كلام أهل العلم ﵏ وتأليفَ بعضِه إلى بعض في مكان واحد، استعنت بالله مُقدِما على ذلك، عسى أن تَخْرُجَ صورةٌ قريبةٌ لموضوع القطعية في الأدلة الأربعة. والله المستعان.
وقد شدّ من عزمي على اختياره ما أشار به بعضُ الأساتذةِ الفضلاء من جِدَّةِ الموضوعِ في بابه وأن الكتابةَ في مثلِه صالحةٌ في هذه المرحلةِ المُبَكِّرةِ.
1 / 12
خطة البحث:
جاء البحث في مقدمة، وفصل تمهيدي، وبابين، ثم خاتمة.
المقدمة في الخطبة، وبيان أهمية الموضوع، ودوافع اختياره، وخطة البحث، ومنهج الباحث فيه.
أما الفصل التمهيدي: ففيه خمسةُ مباحث:
المبحث الأول: ماهية القطع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف القطعِ لغة.
المطلب الثاني: القطعُ عند الأصوليين.
المطلب الثالث: معنى القطعية في الدليل.
المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطعيةُ وعدمُها.
المبحث الثالث: وجوب العملِ بالأدلة الشرعية القطعيةِ وغيرِ القطعية.
المبحث الرابع: أهميةُ الدليلِ القطعي.
المبحث الخامس: قطعية أصول الفقه.
والباب الأول: قطعية الدليل وأثرُها: وفيه فصلان:
الفصل الأول: قطعية الدليل، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: جهة القطعيةِ في الدليل، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: جهة الثبوت.
1 / 13
مستوى القطعيةِ نفسِه منعًا لانتشارِ البحث ووفاءً لِحَدِّ الموضوع.
د- فَرَّقْتُ - عند الإحالةِ إلى المراجعِ الأصولية - بين كتبِ الحنفيةِ وكتبِ غيرِهم من الأصوليين، ثم رتَّبْتها حسب تقدمِ وَفاةِ مُؤَلِّفيها، إلا أن يكونَ من المراجع ما يكون أساسَ الإحالة فأقدمه، ثم أذكرُ المراجعَ الأخرى التي أشارت إلى الفقرة.
وأحيل على المرجع ب (انظر) إلا إذا كان النقلُ منه نصا فأجعل النصَّ المنقول بين قوسين مزدوجين ""ثم أحيل بذكرِ اسمِ المرجعِ مباشرة.
هـ- بينت مواضعَ الآياتِ من المصحف بذكر رقمِ الآية واسمِ السورةِ.
وخرّجت الأحاديث: فإن كان الحديثُ في الصحيحين أو أحدِهما اكتفيت بالإحالة على موضعِه من ذلك، وإلا خرَّجتُه من السُّنَنِ الأربعة ومسندِ الإمام أحمد، أو خرَّجته - عند الحاجة - من مصادرِ السنةِ الأخرى مُبَيِّنًا ما وقفتُ عليه من حكم العلماء عليه صحة أو ضعفا.
ز - ترجمت لمن وَرَدَ في البحث من الأعلام إلا الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، وذلك باختصارٍ واطِّراد.
ح - عرَّفت من المصطلحات، وبينت من الغريب ما دَعَتِ الحاجةُ إلى تعريفِه وبيانِه.
شكر وتقدير:
هذا، والحمد لله من قبلُ ومن بعد على فضلِه ومنّه، وله الشكر أبدا
1 / 14
شكرًا أرجو به ما وعد الشاكرين من مزيدِ نعمِه، وسوابغِ آلائِه.
وجدير في هذا المقام بأن أُقَدِّم جزيلَ الشكرِ وخالصَ العرفانِ لهذه المؤسسةِ العلميةِ المباركة إن شاء الله تعالى، الجامعةَ الإسلاميةَ بالمدينةِ النبوية، لما تقدمه من خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في تعليم أبنائهم وإعدادهم للدعوة الصحيحة إلى الله تعالى، فجزى الله جميعَ القائمين عليها خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبةَ في الدنيا والآخرة!
كما لا يفوتني أن أشكر الوالد الشيخ أحمدِ بنِ محمود بن عبد الوهاب لما بذل في متابعة هذا العمل، ودأب في تقويمه من لدن بدأ حتى جاء في هذه الصورة، فكان نِعْمَ الناصحُ المرشد يُمسك بِرِفْقٍ عند بوادر الاندفاع ثم يَسوق بيُسْرٍ عند أوائل الكلل والسآمة، فجزاه الله عني خيرا وبارك في علمه وعمله!
كما لا يفوتني أن أقدم جزيلَ الشكر، وخالصَ العرفان لشيخيّ الفاضلين: الدكتور محمدِ بنِ صالح بنِ عبيد النامي الحازمي، والدكتور سلامة بنِ ضويعن الأحمدي! على قبولهما مناقشةَ هذه الرسالةِ وتقويمها، فجزاهما الله خيرا وأجزل لهما المثوبة!
وجزى الله خيرا جميعَ الأساتذة والمعلمين، وكلَّ من تعلَّم طالبٌ على يديه علما نافعا.
وشَكَر الله لجميع من ساعد في هذا العمل بفكرةٍ صواب، أو إعارةِ كتاب، أو تنبيهٍ على وجه خلل، فجزى الله الجميع خيرا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
1 / 15
تمهيد
...
المطلب الأول: تعريف القطع لغة.
قال ابن سِيدَه١: "القطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا، قطعه يقطعه قطعًا وقَطيعةً وقُطوعًا"٢.
والفصل يكون في الأمور المحسوسة كقطع الحبل.
ويكون في الأمور المعقولة كقطيعة الرحم ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَولَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ ٣، وكالقطع في الحكم على أمر ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَأَيهَا الْمَلأُ أَفْتُوني في أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ ٤ ٥، وكالقطع أو قطع الدابر: بمعنى الإهلاك أو استئصال النوع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ
_________
١ هو علي بن إسماعيل، أبو الحسن بن سِيدَه المرسي الأندلسي، من أئمة اللغة والأدب، وكان ضريرا، من تصانيفه: المحكم والمحيط الأعظم، الأنيق في شرح حماسة أبي تمام، وغيرها. توفي سنة (٤٥٨) هـ. انظر سير أعلام النبلاء ١٨/١٤٤-١٤٦ الأعلام٥/٦٩ ومقدمة محققَي (المحكم لابن سيده) ١/٥.
٢ المحكم في اللغة لإسماعيل بن سيده ١/٨٨، وما ذكره موجود بحرفه في لسان العرب لابن منظور ١/٢٧٦-٢٧٨ وانظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس ٥/١٠١.
٣ سورة محمد (٢٢) .
٤ سورة النمل (٣٢) .
٥ انظر المفردات للراغب ص٦١٥-٦١٦.
1 / 19
طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ ١ أي: ليهلك أمة منهم٢، وقوله ﷿: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ ٣.
وفي اللغة استعمالات كثيرة للقطع منها:
- قولهم: قطع زيد لسان عمرو: إذا أسكته بعطائه وإحسانه إليه.
- وقولهم: انقطع لسانه: إذا ذهبت سلاطته.
- وقولهم: أَقطع الرجلُ: إذا انقطعت حجته وبُكِّت بالحق فلم يجب، فهو مُقطع.
- وقولهم: قطع زيد عمرا بالحجة: إذا بكّته.
- وقولهم - على سبيل المثل -: كلام قاطع: أي نافذ٤.
_________
١ سورة آل عمران (١٢٧) .
٢ انظر تفسير ابن كثير١/٤١١ والمفردات/٦١٦.
٣ سورة الحجر (٦٦) .
٤ انظر تهذيب اللغة للأزهري ١/١٩٥-١٩٦ والمحكم في اللغة لابن سيده ١/٨٨-٩١ والصحاح للجوهري ٣/١٢٦٨ ولسان العرب ٨/٢٧٩ والقاموس المحيط للفيروزابادي ٣/٧٣ وانظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري ٤/٨٣.
1 / 20
المطلب الثاني: القطع عند الأصوليين
قبل ذكر استعمال الأصوليين للقطع يحسن هنا التعرض لبعض الاصطلاحات المتعلقة بالقطع في علوم أخرى غير أصول الفقه.
١- فمن ذلك: (القطع) في علم قراءة القرآن.
وهو مرادف للوقف والسكت عند بعض العلماء، وجعل بعضهم القطع: "قطع القراءة رأسا، فهو كالانتهاء، فالقارئ به كالمُعرِض عن القراءة والمنتقل منها إلى حالة أخرى سوى القراءة كالذي يقطع على حزب ... أو في ركعة ثم يركع، أو نحو ذلك مما يؤذن بانقضاء القراءة والانتقال منها إلى حالة أخرى ... ولا يكون إلا على رأس آية لأن رؤوس الآي في نفسها مقاطع "١.
٢- ومن ذلك: (الحديث المقطوع) في اصطلاح المحدثين.
وهو المتن المنتهي إلى التابعي فمن دونه من قول أو فعل أو تقرير، حكما أو تصريحا، ويجمع على (المقاطيع) و(المقاطع) ٢.
_________
١ النشر في القراءات العشر للحافظ ابن الجزري١/٢٤٠ وانظر الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي١/٨٨-٨٩.
٢ انظر مقدمة ابن الصلاح ص١٢٥ والتقريب للنووي مع تدريب الراوي للسيوطي ١/١٩٤ ونزهة النظر لابن حجر العسقلاني ص١٤٠-١٤٥.
1 / 21
٣- ومنه (النعت المقطوع) عند علماء النحو.
وهو النعت الذي خرج من حالة التبعية للمنعوت في الإعراب إلى حالة الاستقلال بالإعراب لأغراض بلاغية، كقولك: جاء الرجلُ العدلَ، ورأيت الرجلَ العدلُ.
وحقيقة القطع في ذلك أن يُجعل النعت خبرا لمبتدأ، أو مفعولا لفعل.
وقد يطلق القطع في النحو على قطع الاسم عن الإضافة أي: كونه غير مضاف، فالاسم على ذلك (مقطوع عن الإضافة) ١.
٤- ومن ذلك (القطع) في بعض بحور الشعر عند علماء العروض.
وهو: أن يحذف آخر وتده المجموع ويسكن ما قبله، ويسمى البحر بذلك (مقطوعا) لأنه قطعت حركة وتده.
والوتد المجموع: حرفان متحركان بعدهما حرف ساكن، والوتد المفروق: حرفان متحركان بينهما حرف ساكن٢.
٥- ومنه (همزة القطع) أو (ألف القطع) عند علماء التصريف.
_________
١ انظر كتاب الكافية في النحو لابن الحاجب مع شرح الرضى ١/٣١٥-٣١٧ وص٢٩٦ وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام ٣/٣١٨ وص١١١ والنحو الوافي لعباس حسن ٣/٤٦٨ وما بعدها.
٢ انظر الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي ص٣٣ وص١٤٤ والثريا المضية في الدروس العروضية للشيخ مصطفى الغلاييني ص٥ والكامل في العروض والقوافي لمحمد قناوي ص٦٣ والتعريفات للشريف الجرجاني ص١٧٨.
1 / 22
وهي: الهمزة التي تثبت في الابتداء بالكلمة ولا تسقط في دَرَج الكلام، أي: عند وصل الكلمة بغيرها، ومثالها: الهمزة في (إبراهيم وإخراج وأَعطى وأحمد وأحمال وأقِمْ)، وهذه الهمزة في مقابلة همزة الوصل التي تثبت في الابتداء دون الوصل١.
٦- وقد يطلق في كتب الفقه (القطع) و(قاطع) و(مقطوع) على قطع الطَرَف جناية أو قصاصا وما يتعلق به٢، وربما أطلق ذلك على قطع الطريق٣.
ومن الاستعمال المعاصر للقطع في معناه الأصولي: عبارة (ممنوع الوقوف والانتظار قطعيا) في إشارات تنظيم المرور والسَّير، والمقصود منها سلب العذر عن الواقف والمنتظر في المحل المشار إليه بذلك مهما كان احتمال وقوفه وانتظاره٤.
_________
١ انظر كتاب الألفات لابن خالويه ص٦٩ والقول الفصل في التصغير والنسب والوقف وهمزة الوصل لعبد الحميد عنتر ص٢٠٦.
٢ انظر مثلا: نهاية المحتاج ٧/٢٨٣، ٢٨٤، ٢٨٥، ٤٣٩ فما بعدها.
٣ انظر مثلا: الفقه الإسلامي وأدلته ٦/١٢٩-١٣٥، ١٤١.
٤ انظر في معنى إشارة (ممنوع الوقوف والانتظار) في دراسة إدخال تعليم سلامة المرور في مقررات المرحلة المتوسطة للتعليم العام لمجموعة من الدارسين ص٦٥، وتوجد هذه العبارة كثيرا بإضافة (قطعيا) في الواقع المشاهد.
1 / 23
عبارات القطع في أصول الفقه:
القطع معنى يصف به علماء أصول الفقه ﵏، أمورا كثيرة:
فيصفون به الدليل كقولهم: (دليل قطعي) ونحو ذلك١.
ويصفون به الحكم مثل قولهم: (حكم قطعي) و(حكم مقطوع به) ٢.
ويصفون به المسألة كقولهم: (مسألة قطعية) أو (مسألة مقطوع بها) ٣.
بل ويصفون به الجواب عن الاعتراض ومن ذلك قولهم: (جواب قطعي) أو (جواب قاطع) ٤.
ويصفون بالقطع أمورا أخرى غير ذلك٥.
غير أن مدار كل ذلك على قطعية الدليل لأن قطعية الحكم بحسب الدليل القطعي عليه، والمسألة تكون قطعية لأن الدليل المستدل به فيها
_________
١ سيأتي الكلام على ذلك مفصلا - قريبا - إن شاء الله تعالى.
٢ انظر مثلا: المستصفى للغزالي (بولاق) ٢/٢٣١،٢٥٧ والمحصول لفخر الدين الرازي ١/٨٣ والتحرير مع التقرير والتحبير١/١٨.
٣ انظر مثلا: المستصفى٢/٢٠-٢١.
٤ انظر مثلا: المحصول٥/٨٦-٨٧.
٥ مثل: الوجه القاطع والرأي القاطع (انظر البرهان ١/٤٠٥، ٢/٤٨٥)، والبيان القاطع (انظر المستصفى ٢/١٥)، والعلامة القاطعة (انظر الموافقات ٤/٨٣)، والتصديق القاطع (انظر شرح الكوكب المنير ١/٦٣-٦٤)، والقرينة القاطعة (انظر مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت ٢/٢١٤-٢١٥)، والدلالة القاطعة (انظر تلخيص التقريب للجويني ١/١٦٧-١٧٠) .
1 / 24
قطعي، والجواب قاطع إذا أُتي فيه بما يفيد القطع، فوصف هذه الأمور بالقطع يدور على قطعية الدليل وينتهي إليها.
وأما القطع في الدليل فإنهم ﵏ يعبرون عنه بعبارات متنوعة، وقفت منها على أربع:
العبارة الأولى: صوغ اسم الفاعل من القطع: (الدليل القاطع) ١.
العبارة الثانية: صوغ اسم المفعول من القطع: (الدليل المقطوع به) ٢.
العبارة الثالثة: صوغ الاسم المنسوب من القطع: (الدليل القطعي) ٣.
العبارة الرابعة: وصف الدليل باقتضاء القطع، أو إيجابه، أو إفادته،
_________
١ انظر هذه العبارة في: الأم للإمام الشافعي٤/١٨١ والتقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر الباقلاني١/٧٢، ٣٠٨ والبرهان لإمام الحرمين١/١٦٨ والغياثى له أيضا ص/٦٠ والمستصفى للغزالي٢/١٧٩-١٨٠ (بولاق) ٢/٣٦٥ والإحكام للآمدي١/١٦٨ وإحكام الفصول للباجي ص٧١٧ والموافقات للشاطبي٤/١٨٣ وشرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي٣/٢٩-٣٠ وميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي ص٤٣٤،٥٤٥،٥٤٨، ٦٣٩ وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر٢/٣٣.
٢ انظر هذه العبارة في: التقريب والإرشاد١/٢٩٥-٢٩٦ والعدة لأبي يعلى الفراء٢/٥٥٥، ٥٥٦، ٥٥٧ والمستصفى ٢/٢١٠-٢١١، ٤٠٢-٤٠٣ والإحكام للآمدي١/٢٣٨-٢٣٩ والبحر المحيط للزركشي ٥/٧٣.
٣ انظر هذه العبارة في: الوصول لابن برهان١/٩٤، ٢/٨٨ والبحر المحيط للزركشي٤/٤٩٨ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣/٣١٢-٣١٤ والصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية ٣/٧٩٧ والموافقات٣/١٥-١٦ وانظر أصول الشاشي/٣٧٩ وميزان الأصول للسمرقندي ص٣١٩، ٣٢٠،٥٢٩، ٥٤٥، ٦٣٧، ٧٥٤، ٧٥٧.
1 / 25
أو نحو ذلك، مثل: (الدليل المقتضي، أو الموجب، أو المفيد القطع) ١.
أما العبارة الأولى وهي قولهم: (الدليل القاطع) فيجمع على (أدلة قاطعة) أو (أدلة قواطع) وقد يقدّم الوصف ويضاف إلى الموصوف فيقال: (قواطع الأدلة) ٢ وقد يحذف الموصوف فيقال (القواطع) .
والقطع في هذه العبارة صفة للدليل حقيقة بإسناده إليه، فالدليل هو الذي يَقطع، أما الذي يقطعه الدليل فالعلماء يذكرون أمورا كثيرة، إذ يقولون في الدليل: إنه قاطع أو يقطع (العذر) ٣ أو (الاحتمال) ٤ أو نحو ذلك مما يضعف الدليل ويوهن قوته ثبوتا أو دلالة، كالتردد والشك فيه أو
_________
١ انظر هذه العبارة ونحوها في: التقريب والإرشاد للباقلاني١/٢٢١ وإحكام الفصول للباجي ص ٢٦٣،٢٦٤،٢٦٥،٥٠٢ وشرح اللمع الشيرازي١/٤٩٨ والتمهيد لأبي الخطاب ٣/١٧٧ وشرح تنقيح الفصول للقرافي/٣٣٩ وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب٢/١٦٩ والإبهاج لابن السبكي ١/٢٠٢، ٣/٢٧٧ وأصول السرخسي١/٢٧٧-٢٧٨ وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ١/١٦٧.
٢ وهذا عنوان كتاب في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني، ولأبي المعالي الجويني كتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد"انظر مقدمته ص٢٣.
٣ انظر: الرسالة للإمام الشافعي/٤٦٠-٤٦١ والتقريب والإرشاد للباقلاني١/٢٨١ والعدة لأبي يعلى ٣/٨٤٣،٨٧٥، ٤/١٣١٦ وإحكام الفصول للباجي ص٢٩٢،٤٨١ وشرح اللمع للشيرازي ١/٤٩٨،٥٠٥، ٢/٦٠٠،٦٥٤ وأصول السرخسي١/٢٧٧-٢٧٨ الموافقات ٤/١٨٣ وتفسير ابن جرير الطبري ٨/٥٨-٥٩ وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢/٣٣،٤٠ ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية١/٢٨.
٤ انظر: البرهان للجويني١/٢٣٢ والمستصفى٢/١٥ وتقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي٢/٤٣٣.
1 / 26
الشبهة١ أو الخلاف٢.
وأما العبارة الثانية وهي قولهم: "الدليل المقطوع به" فيجمع على (أدلة مقطوع بها)، والدليل فيها موصوف بالقطع لكنه - في الحقيقة - الأمر الذي حصل به القطع كأنه آلة القطع وليس القاطع نفسه، فيكون تقدير هذه العبارة: (يَقطع موردُ الدليل أو المستدلُ به العذرَ أو الاحتمال بالدليل)، فالقاطع مورد الدليل أو المستدل به، والعذر أو الاحتمال مقطوع، والدليل مقطوع به.
وقد يحذف الجار في هذه العبارة - وهو الباء من (به) - فيستتر الضمير بعد حذف الجار فيقال: (دليل مقطوع) توسعا بالتعدية إلى الضمير بدون توسط حرف الجر٣.
وقد يُعبّر بالقاطع عن المقطوع به فيقال: (دليل قاطع) ويراد (دليل مقطوع به) من باب إسناد ما للفاعل إلى المفعول، لأن القاطع حقيقة - كما سبق - هو مورد الدليل أو المستدل به، لكن يسند فعله (وهو القطع)
_________
١ انظر استعمال الشبهة في معنى قريب من الاحتمال في الأم للإمام الشافعي٤/١٨١ وأصول الشاشي٣٧٩.
٢ انظر إطلاق أن الدليل يقطع حكم الخلاف أو نحو ذلك في شرح العمد لأبي الحسين البصري ١/٢١٩،٢٤٤، وهذا يكون في القطعي المطلق الذي يستوي فيه الناظرون، انظر أثر الخلاف في منع القطعية صخطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة. من هذا البحث.
٣ انظر الإبهاج للسبكي١/٤٠.
1 / 27