ف : «وإذا قارنا بين الحاضر الإنساني والحاضر البشري فإنه مثلما ترى أنت أشياء معينة في زمنك الحاضر، فإن الله يرى جميع الأشياء في حاضر سرمدي؛ لذا فإن هذه المعرفة الإلهية المسبقة لا تغير من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرة لها تماما كما سوف تحدث ذات يوم في المستقبل، إنها لا توقع اضطرابا في الأشياء بل تميز بلمحة واحدة من عقلها كل ما سوف يحدث، سواء لديها أن يكون حدوثها ضروريا أو غير ضروري. وبالمثل أنت عندما ترى في الوقت نفسه رجلا يمشي على الأرض والشمس تشرق في السماء، فرغم تزامن المنظرين فأنت تميز بينهما وتحكم أن أحدهما مراد والآخر ضروري، وبنفس الطريقة تبصر عين الله الأشياء جميعا من دون أن تربك طبيعتها؛ فهي بالنسبة له أشياء حاضرة وإن تكن تحت شرط الزمان أشياء مستقبلية، وبذلك يتأتى أن معرفة الله بأن شيئا معينا سوف يقع وأن ليس ثمة ضرورة في وقوعه؛ أن هذه المعرفة ليست ظنا بل معرفة قائمة على الحقيقة.
لعلك تقول عند هذه النقطة إن ما يراه الله كحدث مستقبلي لا يمكن إلا أن يحدث، وما لا يمكن له إلا أن يحدث فإنه يحدث بالضرورة، ولكنك إذا قيدتني بهذا اللفظ «الضرورة» فسأكون مضطرة إلى أن أقول بأنه مع تسليمي بأنها مسألة صادقة كل الصدق إلا أنها بعيدة الغور على غير مريد الألوهية، سأرد بأن الحدث المستقبلي نفسه يكون ضروريا حين ينظر إليه بالإشارة إلى المعرفة الإلهية المسبقة، غير أنه حر تماما وغير مقيد على الإطلاق حين ينظر إليه في ذاته؛ ذلك أن ثمة نوعين من الضرورة: نوعا بسيطا، مثل حقيقة أن جميع الناس فانون. ونوعا مقيدا أو مشروطا؛ مثال ذلك إذا عرفت أن شخصا ما يمشي فإن من الضروري أن يمشي حقا وصدقا؛ لأن المعرفة تعني الحق والصدق، ولكن هذه الضرورة المشروطة لا تتضمن ضرورة بسيطة لأنها لا توجد بفضل طبيعتها ذاتها وإنما بفضل شرط قد أضيف، لا ضرورة هناك تجبر بالمشي من يمشي في طريقه بملء حريته، مع أنه بالضرورة يمشي عندما يخطو خطوة.»
وبنفس الطريقة، عندما ترى العناية شيئا ما كحاضر، فمن الضروري أن هذا الشيء يحدث حتى لو لم تكن ثمة ضرورة في طبيعته ذاتها. إن الله يرى الأحداث المستقبلية التي تحدث بحرية، يراها كأحداث حاضرة؛ لذا فإن هذه الأشياء عندما ينظر إليها بالإحالة إلى بصر الله لها فهي تحدث بالضرورة كنتيجة لشرط المعرفة الإلهية، أما حين تعتبر في ذاتها فهي لا تفقد شيئا من حريتها التامة القابعة في صميم طبيعتها.
إذن كل الأشياء التي يكون حدوثها المستقبلي معلوما من الله فإنها تحدث من دون شك، ولكن بعض هذه الأشياء هي نتاج حرية الإرادة، ورغم حقيقة كونها تحدث حقا فإن وجودها لا يجردها من طبيعتها الحقة التي تجعل احتمال عدم حدوثها قائما قبل أن تحدث.
ماذا يهم، إذن، إذا كانت غير ضرورية، عندما يتكشف، بفضل شرط المعرفة الإلهية، أنها تحدث بالضبط كما لو كانت ضرورية؟ والجواب هو هذا: من المحال للحدثين اللذين ذكرتهما الآن - شروق الشمس ومشي الرجل - ألا يكونا حادثين عندما يحدثان فعلا، ومع ذلك فقد كان من الضروري لأحدهما أن يحدث قبل أن يحدث بالفعل، ومن غير الضروري للآخر، إذن فتلك الأشياء الماثلة لله سوف تحدث من دون شك، ولكن بعضها سوف يحدث جراء ضرورة الأشياء، وبعضها الآخر جراء حرية إرادة الفاعلين، ونحن لا نجانب الصواب إذن عندما نقول إن هذه الأشياء إذا نسبت للمعرفة الإلهية المسبقة فهي ضرورية، وإذا اعتبرت في ذاتها فهي طليقة من قيود الضرورة، مثلما أن كل شيء تدركه الحواس فهو كلي إذا اعتبر بالإحالة إلى العقل، وهو فردي إذا اعتبر في ذاته.
ولكن لعلك ترد بقولك: إنه لو كانت لدي القدرة على أن أغير مسارا مزمعا للفعل فسوف أكون قادرا على مراوغة العناية؛ لأنني سأكون، ربما، قد غيرت الأشياء التي تعرفها العناية معرفة مسبقة، وجوابي على ذلك أن بوسعك أن تغير خطتك، ولكن بما أن هذا ممكن، وأنك كيفما فعلت وكيفما غيرت فهو مرئي من العناية الحاضرة أبدا والصادقة أبدا، فأنت لا تملك مهربا من المعرفة الإلهية المسبقة، تماما مثلما أنك لا تملك مهربا من نظر عين حاضرة لتشاهد، مع أنك قد تتحول بملء حريتك إلى أفعال أخرى مختلفة.
ولعلك تسأل: حسن، ألا تتغير المعرفة الإلهية كنتيجة لترتيباتي؟ فكلما غيرت رغباتي غيرت معرفتها تبعا لذلك؟ والجواب: لا، كل شيء مستقبلي هو مستبق بعين الله التي تعيده وتستعيده إلى حاضر معرفتها الخاصة المميزة، إنها لا تتغير كما تظن وتتردد بين هذا البديل المعرفي وذاك، وإنما بلمحة واحدة تستبق وتضم تغيراتك «أنت» في ثوبتها «هي»، الله يتلقى هذا النمط الحاضر من المعرفة ويبصر الأشياء جميعا لا من صدور الأشياء المستقبلية، بل من فوريته الخاصة، بحيث تتبدد الصعوبة التي أبديتها منذ قليل ومفادها أنه من غير اللائق أن يقال إن مستقبلنا يقدم سببا للمعرفة الإلهية، إن قوة هذه المعرفة التي تضم الأشياء جميعا في فهم حاضر هي نفسها التي أنشأت أسلوب الوجود لكل الأشياء، ولا تدين بأي شيء لأي شيء عدا ذاتها، وما دام ذلك كذلك فإن حرية إرادة الإنسان تبقى غير منتهكة، والقانون لا يفرض المثوبة والعقوبة ظلما؛ لأن الإرادة حرة من كل ضرورة.
لله معرفة مسبقة، ويستوي في عليائه مشاهدا كل شيء، ولما كانت سرمدية نظرته تصرف المثوبة للأخيار والعقوبة للأشرار فهي تمضي بانسجام مع نوعية أفعالنا المستقبلية، الأمل في الله ليس عبثا، والدعاء لا يذهب سدى، فهما إن كانا صالحين لا يمكن إلا أن يجابا، اجتنب الإثم إذن، وقوم النفس بالفضيلة، واسم بروحك إلى الرجاء الصالح، ووجه ابتهالات خاشعة إلى السماء، ثمة «ضرورة»
1
كبرى تقع على عاتقك، إذا شئت أن تكون صادقا مع نفسك، «ضرورة» كبرى بأن تكون صالحا خيرا، ما دمت تعيش تحت بصر الحكم الذي يرى كل شيء.
Unknown page