واستمر الجندي يقول: أنا يمكن تشوفيني كده، إنما أنا والله إنسان حساس، الشعرة إذا مست كرامتي أتكهرب، وإنتي يا آنسة سناء أهنتيني أكثر من مرة، إنما كله كوم ويوم ما شتمتيني كوم، يومها قررت إني ألغيكي من حياتي ولو أنتحر وفضلت كابت نفسي وساكت، لغاية النهاردة بقى ماقدرتش، أنا ... أنا ... - وإنت فاكر أنك كنت يومها تستاهل الشتيمة بس؟ إنت فاكر إنت أهنتني يومها إزاي؟ - أنا؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا كان قصدي مصلحتك، كان قصدي أخدمك، ولولا كده عمري ما كنت فتحت الموضوع ده قدامك. - بقى رأيك إنها خدمة؟ - أكبر خدمة ... ونروح بعيد ليه؟ ولو وافقت كانت حصلت حكاية أخوكي دي؟ - معنى كده إنك كنت سامع. - أيوه كنت سامع وعارف. - طيب يا أخي بدل كلامك السخيف اللي بتقوله من وراء الدوسيه كنت سلفني القسط . - آه ... جينا للكلام المهم، عندك حق، إنما تعرفي أنا بشرفي ما كان يومها معايا إلا ييجي خمسين قرش ... إنما ده مش السبب، كنت أقدر أستلفهملك حالا، كنت أقدر على الأقل أقول لك كلمتين حلوين يواسوكي، إنما تعرفي عملت كأني مش سامع ولا داري ليه؟
سكتت سناء ولم تشأ أن تسأل ليه، غير أن الجندي عاد يلح ويقول: قوليلي ليه؟
وتشبثت بسكوتها أيضا وإن كان حب استطلاع كبير كان ينهش قلبها وأصر الجندي على سؤاله: ما تقوليلي ليه ... مش عايزه تعرفي سبب ما يخطرلكيش على بال؟
هنا تغلب حب الاستطلاع ووجدت سناء نفسها تقول: أيوه يا سيدي ... ليه؟
وطفح البشر من ملامح الجندي وكأن مجرد موافقتها على سؤاله كانت أضخم نصر سجله خلال حياته، ومضى يقول: قولتيلي ليه ... السبب يا ستي إنك بصراحة كنتي عايشة في أوهام لسه خارجة م المدرسة ولا تفهمي حاجة من الدنيا بتاعتنا دي اللي مطلعة عنينا واللي مطلعين عنيها، كنتي ح تعرفيها إزاي إلا بكده؟ إلا إنك تتزنقي زي ما انزنقنا وما لقيناش اللي يسمي علينا، قلت: سيبها يا واد عشان تعرف أن الفلوس هي ال
master key
واللا أنا غلطان؟
اندفعت سناء تقول: إنت مش غلطان، إنت فسدان، كلكم كنتم في يوم من الأيام بني آدمين، وبعدين لقيتم حد علمكم الكلام ده وفسدكم، وخلاص دلوقتي كل همكم إنكم تفسدوا الناس وتحللوا الفساد في نظركم، عشان يغلطوا ويتورطوا ويبقوا زيكم وما يصبحش فيه حد أحسن من حد، إنت لازم تعرف نفسك كويس، إنت صحيح لابس بدلة واسمك السيد محمد أفندي الجندي وليك مكتب ومحترم، إنما إنت زيك زي أي نشال في الشارع أو أي حرامي غسيل، سبتني عشان أتزنق، ولو كل واحد اتزنق فك زنقته بالسرقة أو بالقتل كان زمان الدنيا بقت كلها حرامية وقتالين، إنما ده ما بيحصلش لأن الناس دايما بتساعد المزنوق، عمرهم ما يسيبوه يقف لوحده، ولما يسيبوه عشان يدوق الزنقة يبقوا هما الغلطانين، هم المجرمين، بالضبط، حكمهم حكم اللي بيحرض على الفساد، إنت كنت مش عايزني أدوق الزنقة، إنت بتكدب على نفسك، إنت كنت عايز تحرضني عشان أمشي في الطريق الغلط، إنما ده بعدك! أنا نضيفة وح أفضل طول عمري إن شا الله الدنيا كلها تتوسخ، نضيفة.
وأول ما اندهش لهذا «الخطاب» الحار المتدفق كانت سناء نفسها، فكأنما هو درس وعته وحفظته عن ظهر قلب، أما ما ظل يحيرها فهو تساؤلها عن كنه هذه الخطبة ... ترى هل هي تعبر عن رأيها الحقيقي، أم مبعثها أنها تريد أن تحقر الجندي لموقفه منها، أم هو كلام تتمنى أن يكون رأيها الحقيقي؟
أما الجندي فقد ذهل! طوال عمره ومنذ أن كف أبوه عن ضربه وعقابه وصب الأوامر والنصائح كالزيت المغلي فوق رأسه، منذ أن مات كأنما عاهد نفسه بعدها ألا يستمع لنصيحة أحد سواء أكان مخطئا أم مصيبا وسواء أكانت النصيحة من عاقل أم أحمق، بل لقد جعل شعاره بوعي منه وبغير وعي أن يخالف كل ما يقال له من نصائح، وهوايته الكبرى أن يعصي القوانين، إن القانون يظل عدوه اللدود إلى أن ينجح في خرقه، والتعليمات تظل شيئا لا يطاق إلى أن ينجح في العثور على وسيلة يستطيع أن يتحايل بها عليها، وليست فقط القوانين واللوائح المكتوبة، أكثر من هذا وأبعد كل ما يأخذ شكل القانون، إذا تصادف ووجد الرخام القيشاني في أي دورة مياه يدخلها لامعا نظيفا أنيقا لا يستريح إلا إذا أخرج قلمه الكوبيا وخطط وشخبط حتى يشوه من المنظر، إذا جلس على مقعد عربة الأتوبيس سرعان ما يخرج سلسلة مفاتيحه وبها المطواة الصغيرة ذات السلاح الحاد الذي يفتحه ويعمله في جلد الكرسي وفي تخف شديد يقطعه حتى يطل القطن، ويعمله في بوية الجوانب حتى يظهر معدنها، وإذا أردته أن يكرهم كره العمى فانصحه نصيحة أو انقده نقدا.
Unknown page