وأنت أيها الجبار، المصلوب، الناظر من أعالي الجلجلة إلى مواكب الأجيال، السامع ضجيج الإثم، الفاهم أحلام الأبدية، أنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء أكثر جلالا ومهابة من ألف ملك على ألف عرش في ألف مملكة، بل أنت بين النزع والموت أشد هولا وبطشا من ألف قائد في ألف جيش في ألف معركة.
أنت بكآبتك أشد فرحا من الربيع بأزهاره، أنت بأوجاعك أهدأ بالا من الملائكة بسمائها، وأنت بين الجلادين أكثر حرية من نور الشمس.
إن إكليل الشوك على رأسك هو أجل وأجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أسمى وأفخم من صولجان المشترى، وقطرات الدماء على قدميك أسنى لمعانا من قلائد عشتروت، فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك لا يدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنهم لا يعلمون بأنك صرعت الموت بالموت، ووهبت الحياة لمن في القبور.
على باب الهيكل
قد طهرت شفتي بالنار المقدسة لأتكلم عن الحب، ولما فتحت شفتي للكلام وجدتني أخرسا.
كنت أترنم بأغاني الحب قبل أن أعرفه، ولما عرفته تحولت الألفاظ في فهمي إلى لهاث ضئيل، والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة.
وكنتم أيها الناس، فيما مضى تسألوني عن غرائب الحب، وعجائبه، فكنت أحدثكم وأقنعكم، أما الآن وقد غمرني الحب بوشاحه، فجئت بدوري أسألكم عن مسالكه ومزاياه، فهل بينكم من يجيبني؟ جئت أسألكم عما بي، وأستخبركم عن نفسي، فهل بينكم من يستطيع أن يبين قلبي لقلبي ويوضح ذاتي لذاتي؟
ألا فأخبروني، ما هذه الشعلة التي تتقد في صدري، وتلتهم قواي وتذيب عواطفي وأميالي؟
وما هذه الأيدي الخفية، الناعمة، الخشنة التي تقبض على روحي في ساعات الوحدة والانفراد، وتسكب في كبدي خمرة ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟
وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي في سكينة الليل، فأسهر مترقبا ما لا أعرفه، مصغيا إلى ما لا أسمعه، محدقا بما لا أراه، مفكرا بما لا أفهمه، شاعرا بما لا أدركه، متأوها لأن في التأوه غصات أحب إلي من رنة الضحك والابتهاج، مستسلما إلى قوة غير منظورة تميتني وتحييني، ثم تميتني وتحييني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي، فأنا إذ ذاك، وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة، وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام. •••
Unknown page