وبعد، فإنا بعد ما قدمنا من موجز كلامنا عن تصوير حالة الشعر في الجاهلية توطئة لبحثنا عن حالته في العصر الأموي، لا نرى مندوحة من الإشارة هنا إلى أنا سنعنى عناية خاصة بفرعي الغزل والشعر السياسي؛ لأنهما بحالتيهما الأموية يكادان يكونان وليدي العصر ونتاجه.
وليس معنى ذلك أنا ننكر تلك المعاني الجديدة التي دخلت على الوصف والمدح والرثاء والهجاء، ولكنا نلاحظ أن الفرق لا يعدو ملتزمات المدنية، مع رقة اكتسبتها العصور الإسلامية القريبة العهد من نزول القرآن، واشتغال الناس بتلاوته، وإقبالهم على دراسته، حتى انطبعوا على بلاغته وبيانه.
على أنه من المفيد أن نشير إلى شيء جديد أصاب فن المديح في العصر الأموي؛ لأنه خاص بهذا العصر دون سواه.
قال ابن قتيبة في كتابه القيم «الشعر والشعراء»: أتى بعض الرجاز نصر بن سيار، والي خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: «والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيف إلا شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب»، فأتاه فأنشد:
هل تعرف الدار لأم الغمر
دع ذا وحبر مدحة في نصر
فقال نصر: لا ذاك ولا هذا، ولكن بين الأمرين. (7) الغزل
كان غزل الجاهلية من عفو الخاطر وفيض البديهة ناطقا بصفاء قريحتهم، وكامل حريتهم، وتوقد أذهانهم، وسائر طباعهم، وكان بريئا من الصنعة والكلفة.
ومع أني ممن يذهبون إلى أن الشاعر الجاهلي كان يعالج الفنون الشعرية كافة غير مقصور على النسيب بالذات، بيد أني ممن يقول: إن المعاني الغزلية وألفاظها تكاد تكون معادة فيما بعد العصر الجاهلي بتوسع تقتضيه المدنية، وطلاوة اكتسبتها الألفاظ من بلاغة القرآن، وعذوبة أنتجتها ثروة الأذهان من أفاويق العرفان.
ولقد صدق زهير إذ يقول:
Unknown page