212

ثم انظر لمن يقول: «يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولت ولا عدلت، ولا ذل نصيرها ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم، اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري، ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي!» ثم سار وسار معه عامة أهل الشام.

أرأيت إلى أي مدى كان أثر الدعاية المأمونية؟

لقد كان المأمون موفقا بلا ريب، وكانت ظروف النصر والإقبال تواتيه من هنا ومن هناك، وتظاهره على النجاح من جراء حكمته وكفاية رجالاته، كما كانت تظاهره من جراء حماقة خصومه وقلة غنائهم.

ثم انظر ما كان من أمر العصبية في حوادث سنتي خمس وتسعين ومائة وست وتسعين ومائة، وما كان من اشتطاط جند الأمين في طلب المال، وما كان من عدم قدرته على إجابة طلبات القادة الكماة، أمثال أسد بن يزيد، وما كان من تقلب الحسين بن علي معه وعليه، وما كان من ليان الأمين معه بعد أن حبسه، فإن التاريخ يحدثنا بأن كل ما فعله الأمين معه هو أن لامه على خلافه وقال له: «ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل، وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد؟!» فقال له: بلى، قال: «فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي وتؤلب الناس علي وتندبهم إلى قتالي؟» قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين ، وحسن الظن بصفحه وتفضله، قال: «فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك» ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.

انظر إلى ذلك كله، فإنك تستطيع أن تقتنع معنا بأن لسوء التدبير حظا غير قليل في خذلان الأمين وضياع ملكه. (9) مظاهر الثورة وخطباؤها

على أن هناك ظاهرة في الجيش الأميني والأطراف الأمينية مثل ظاهرة الثورة الفرنسية من بعض وجوهها يجدر بنا أن نقيدها لك ولو «على الهامش» كما يقولون.

ذلك أن الزواقيل واللصوص والثوار لعبوا دورهم الخطير، كما أن الفوضى ضربت بجرانها على كل البقاع الأمينية، ولم يكن ثمة من طاعة ولا نظام لا في الجند الأميني ولا في قادة الجند الأميني.

وقد كان هناك خطباء كما كان في الثورة الفرنسية، وإن الطبري ليحدثنا أن محمد بن أبي خالد قام بباب الشام فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا؟ ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة! وإن فينا من لا يرضى بالدنية ولا يقاد بالمخادعة، وإني أولكم نقضا لعهده، وإظهارا للتغيير عليه والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي، وقام أسد الحربي فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.

يحدثنا التاريخ عن ذلك كله كما يحدثنا بأن شيخا كبيرا من أهل الكفاية قد أقبل على فرس فصاح بالناس: اسكتوا! فسكتوا فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك، قال: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره؟! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.

أما ما أصاب بغداد من سلب ونهب وتحريق وتخريب، وفتنة شعواء وقتل ودماء، فإنا نترك الكلمة في ذلك لشعراء العصر مما أثبتناه لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث من المجلد الثالث، فلتراجع ثمة. (10) قتل الأمين

Unknown page