179

وفي الحق أن قصف الأمين وانهماكه في لهوه وغلوه في عبثه، واستهتاره في مرحه، واشتغاله بوجه خاص بخدمه، قد جر عليه وبالا كثيرا، وشرا مستطيرا، ونفر منه قلوب العقلاء من مشايعيه ومناصريه، والأقوياء من مؤيديه وذويه.

من أمثال ذلك ما ذكروه عن العباس بن عبد الله بن جعفر، وهو من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم كطبيعة حياة المترفين في ذلك العصر، قالوا: كان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه فهرب إلى محمد وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة، فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها، وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج إليه وقامت معركة، وكادوا يحرقون دار العباس، وقبض الأمين على العباس وهم أن يقتله لولا وساطة أم جعفر من ناحية، واشتغاله بخروج الحسين بن علي بن ماهان عليه وانضمامه إلى المأمون من ناحية أخرى.

ولموضوع خدم الخليفة وغاشيته ذوي السلطان من المقربين والزعماء والقادة والوزراء، بل الخدم والأمناء أسوأ أثر في تاريخ المدنية الإسلامية. •••

وهناك ظاهرة خلقية في أخلاق الأمين، وهي حبه للاستخارة، واحتفاله بالبحث عن أمر طالعه، وركونه حتى في آخر لحظة من حياته، وهي لحظة التقرير في مصيره، أيسلم نفسه إلى طاهر أم إلى هرثمة إلى منام رآه.

وربما كانت هذه الخلة فيه من أثر البيئة، كما أسلفنا، أو من روح العصر نفسه، وإن كان ابن ماهان قائده يحتقرها، وسنرى أن المأمون كان على عكس الأمين لا يحفل في مهام أموره بالاستخارة ووحي الأحلام، بل كان يجعل جل اعتماده على مشورة رجالاته وذوي النصيحة من أنصاره.

على أنه ليس معنى ذلك أن الأمين لم يكن يستشير، ولكنه كان في كل شئونه يغلبه هواه على وجه الصواب من أمره، وكان لرياء حاشيته وتأثير بطانته فيه النتيجة السيئة، فكان لا يعمل بما يدلى به إليه من نصح.

وحسبك دليلا على ظهور هذه الخلة فيه ما رواه عمرو بن حفص مولى محمد إذ يقول: دخلت على محمد في جوف الليل، وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل أحد من مواليه وحشمه، فوجدته والشمع بين يديه وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله»، فقال: «اسكت، لله أبوك، فعبد الله كان أفضل منك رأيا وأكمل نظرا؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة»، ثم جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدا واحدا ما اعتزمه فيأبونه، وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فشاوره في ذلك فقال: «يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول .»

ولكن الأمين، كما قلنا، كان هواه يعمي عليه وجه الصواب من أمره، وكان واقعا تحت سلطان الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى بن ماهان وغيرهما من بطانته، وهم الذين كان رياؤهم سما زعافا، ونفاقهم وباء فتاكا، ولين كلامهم حسكا وقتادا، والذين لم يخلصوا لمليكهم أو بلادهم فيما يدلون به من الآراء، وما يقدمونه من النصائح، وإنما يخلصون لعاجل مصلحتهم، فزينوا له نكث العهد، وسهلوا له أمره، حتى أقدم عليه، وكان ما كان من النزاع على ما سنصفه لك في بابه.

على أنا لا نعني بما ذكرناه لك الآن أن الأمين كان بليد الذهن، وإنما نعني أنه كان ضعيف الإرادة، عديم الدربة، ونكرر لك هنا ما أسلفنا قوله لك من اعتقادنا بتوقد ذهنه، وفصاحة لسانه، ونقرر أيضا، إحقاقا للحق وإنصافا للتاريخ، أنه كان بليغا متعهدا، إلى حد غير قليل، قواده بالنصح والرأي، فقد ذكر أحد معاصريه، وهو عمرو بن سعيد، أن محمدا الأمين لما جاز باب خراسان ترجل وأقبل يوصي علي بن عيسى بن ماهان: «امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جندا كثيفا، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وول كل كورة ترحل عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدا رماك بسهم أو طعن في أصحابك برمح.»

ولم تكن هذه الوصية هي الوصية الوحيدة للأمين فنقول: فلتة من عابث؛ فإن هناك ثانية وثالثة وهلم جرا، وها هو ذا أحمد بن مزيد أحد قواده يخبرنا أنه لما أراد الشخوص في مهمته دخل على محمد الأمين فقال: أوصني، أكرم الله أمير المؤمنين، فقال: «أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي؛ فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عليه باللين فلا تتعده إلى الخرق والشر، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، ولا تستقها فيما تخاف رجوعه علي ...» إلى آخر نصيحته.

Unknown page