فحاول هشام أن يولي ابنه مسلمة بدل الوليد، كما حاول يزيد من قبل تولية ابنه الوليد، فلم يفلح هذا ولا ذاك، وكانت النتيجة المعقولة لخطتهما السياسية من محاولة كليهما خلع ولي العهد والبيعة لولده، أن انضم إلى كل بعض القواد والزعماء والأنصار تأييدا له فيما يريد.
وكان هؤلاء القواد والزعماء والأنصار يصبحون موضع المقت والاضطهاد من ولي العهد المضطهد متى ولي الخلافة وصار الأمر إليه، فإذا ما اضطهد الخليفة نفسه وحبطت خطته كان نصيب سيرته من الرواة نصيب الوليد بن يزيد، وهو نصيب محمد الأمين.
نريد أن نقول إرضاء للعلم والتاريخ والمنطق أن الرواة إذا قالوا مثلا: إن الوليد كان كافرا أو كان مجموعة قبائح، أو أنه سلم يوسف الثقفي كلا من محمد وإبراهيم ابني إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، وأن يوسف أقامهما للناس وجلدهما وعذبهما وأماتهما، أو قالوا: إنه حبس يزيد بن هشام، وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته، أو ذكروا أنه عذب خالد بن عبد الله القسري سيد اليمن، وأنه سلمه للثقفي فنزع ثيابه وعذبه مر العذاب حتى أماته، أو وصفوا منافسه يزيد بالنسك والورع، فإن من واجب المؤرخ المنصف المتحري للحقائق التاريخية، والراغب في النصفة العلمية، والمتمشي في أناة وترو وحكمة مع الافتراضات التحليلية، والخاضع لأحكام المنطق والحيدة والتعقل، أن ينظر بتحفظ وتحرز كبير إلى مثل تلك الروايات التي يوصف بها الخليفة المضطهد والمغلوب على أمره، وكل من انثل عرشه وضاع ملكه، وختمت بالقتل أو الحرمان حياته.
على أنه يجدر بنا أن نتساءل قبل أن نقتحم موضوعنا في هدوء وسكون: ما هو الروح الذي يغلب على الرواة المعاصرين، والشعراء المعاصرين، والكتاب المعاصرين والمحدثين المعاصرين؟ وما النهج الذي تسلكه الصحافة المعاصرة؟ أليس هو إلى حد غير قليل مناصرة الحزب القوي أو الزعيم القوي مناصرة حارة قوية حادة، وقد لا تخلو من مبالغة في تمدحها بمحاسنه، وإغراق في زرايتها على خصمه بنقائصه.
فمهمة المؤرخ إذن - حين يعرض لحياة خليفة مضطهد انتهت حياته بحز رأسه، مثل حياة الوليد بن يزيد الأموي، ومحمد الأمين العباسي، وحين يعرض لتحليل حياة خليفة منتصر، مثل حياة يزيد خصم الوليد في العصر الأموي، وحياة عبد الله المأمون خصم محمد الأمين في العصر العباسي - ليست ميسورة معبدة؛ بل هي جد شائكة.
وقد يكون من الحصافة والنصفة العلمية أن يعرض ما يرويه الرواة المعاصرون من مدح للغالب وانتقاص للمغلوب على بساط البحث التحليلي، ولسنا نرمى بذلك إلى أن ترفض مقولاتهم، وتنتقص - بلا حق - وجاهة رواياتهم، وإنما نوصي بالحيطة والاحتراس لا أكثر ولا أقل. (2) مولده
بعد هذه التوطئة الوجيزة التي لم نر ندحة عن إثباتها في هذا الموضع، نبدأ كلمتنا عن محمد الأمين من الناحية التحليلية لأخلاقه، أما ناحية النزاع الذي شجر بينه وبين أخيه المأمون، فلها موضعها التاريخي من كتابنا.
هو محمد الأمين بن هارون الرشيد، ولد سنة سبعين ومائة هجرية، وهي السنة التي استخلف فيها والده الرشيد، وكان مولده بعد مولد أخيه عبد الله المأمون بستة أشهر، وولد المأمون في الليلة التي استخلف فيها والده.
وأم الأمين أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور؛ فهو هاشمي الأب والأم، وقيل: إن ذلك لم يتفق لخليفة عباسي غيره.
وإذ كان أخواله هاشميين ولهم في الدولة نفوذ قوي وكلمة مسموعة، فقد سعوا، فيما يحدثنا التاريخ، حين مد جماعة من بني العباس أعناقهم إلى الخلافة، إلى أن يكون الأمر إلى ابن أختهم، وقد نجحوا.
Unknown page