فلا مرية إذن في أن العرب، إلى جانب وقوفهم على الفلسفة الفارسية والحكمة اليونانية، قد وقفوا أيضا على آخر الآراء العلمية الخاصة بعلم الفلك في ذلك الحين، وأنهم وقفوا على آراء بطليموس فيما وقفوا عليه من الآراء. وبطليموس كما قال البتاني: قد تقصى علم الفلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي والعددي الذي لا تدفع صحته ولا يشك في حقيقته، فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان، كما استدرك هو على أبرخس وغيره من نظرائه؛ لجلالة الصناعة، ولأنها سماوية جسيمة لا تدرك إلا بالتقريب.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ترجمة كتاب زيج بطليموس المقول بأن أيوب وسمعان فسراه لمحمد بن خالد البرمكي، ونرجو حين تعرضنا لهذه الموضوعات في العصر المأموني أن نلم بها إلماما أدق وأوسع.
على أنه يجدر بنا في هذه الفذلكة أن نشير إلى الكتب البهلوية الثلاثة التي استطاع الأستاذ «نللينو» أن يكتشف أثر نقلها فيما قبل انتهاء القرن الثاني للهجرة، فواحد منها في علم الهيئة الحقيقي، وهو زيج الشاه أو زيج الشهريار، والآخران في صناعة أحكام النجوم؛ وهما: المبزيذج في المواليد، المنسوب إلى بزرجمهر، وكتاب صور الوجوه لتنكلوس، وكذلك يجدر بنا أن نشير إلى أن كتاب المجسطي نقل في أيام الرشيد.
وإنا نلخص لك هنا ما لاحظه المرحوم جورجي بك زيدان في أمر النقل، من أن العرب، مع كثرة ما نقلوه عن اليونان، لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تاريخ الفرس وأخبار ملوكهم، وترجموا الشاهنامة، ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودوتس ولا جغرافية إسترابون ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته، وسبب ذلك أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق.
1
ولا يستخف بما اقتضاه ذلك النقل عن أشهر أمم الأرض في ذلك العصر من التأثير في الآداب الاجتماعية والآراء العامة، ولا سيما ما نقل عن الفارسية؛ لأن معظمه في الأدب والتاريخ، فدخل الآداب العربية كثير من آداب الفرس الساسانية وأفكارهم، اقتبسها العرب من الكتب التي نقلت عنهم، ولم يبق منها إلا ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ونتف متفرقة في بعض الكتب، وقد درس في هذا الموضوع المتشرق «إينواسترانشتيف» الروسي، ووضع فيه كتابا طبع في بطرسبرج سنة 1909م.
على أنا نلاحظ أن تأثير هذا النقل عن الفرس لا يزال قائما إلى الآن في بعض الكتب العربية التي وضعت في عصور قريبة من عصر المأمون، نذكر منها على طريق التمثيل: كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«التاج» المنسوب للجاحظ، فعلى هذه المنقولات وأمثالها بنى المسلمون ما ألفوه في هذه العلوم أثناء تمدينهم غير ما اختبروه وأضافوا إليها من عند أنفسهم.
وإن المطلع على ما جاء بالفهرست لابن النديم خاصا بتلك المنقولات يعلم، مع شديد الأسف، أن جلها قد ضاع، على أنه كان للقليل الباقي منها أثره الفعال في نهضة أوروبا، وأهم ما بقي من ذلك التراث القيم هو كتاب المجسطي لبطليموس، ترجمه الحجاج بن يوسف، وكتاب السياسة في تدبير الرياسة، ترجمه يوحنا بن البطريق، وبعض آثار لقسطا بن لوقا البعلبكي وغيرها. (3) العلوم القرآنية واللغوية والفقهية
كان المؤرخون القدماء يقولون في العلوم القرآنية: إنه قد تفرع عن القرآن نحو ثلاثمائة علم. ونحن نحيلك على أمثال «مفتاح السعادة» لأحمد بن مصطفى، المعروف بطاش كبرى زاده، المطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد، ومقدمة ابن خلدون، و«مفاتيح العلوم» وغيرها. وأما النحاة وطبقاتهم واللغة وما دخلها من الألفاظ المستحدثة في العصر العباسي، فأمامك أمثال «شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل» لشهاب الدين الخفاجي، «ودرة الغواص» للحريري، وكتاب «المعرب من الكلام الأعجمي» لأبي منصور الجواليقي المتوفى في منتصف القرن السادس، وطبع في ليبسك سنة 1897م، وكتاب «طبقات النجاة» المعروف «بنزهة الألباء في طبقات الأدباء» لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، وغيرها مما لا يقع تحت حصر.
وحسبنا أن نقول لك: إنه لم يكن في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ذلك التراث العظيم من الألفاظ الطبية وأسماء الأدوية والجراحة وأسماء الأمراض والاصطلاحات الفلسفية وغير ذلك مما وضع في العصر العباسي خاصة، أمثال قولهم: صيدلية، وتشريح، ونبض، وهضم، ومبردات، وقابض، ومسهل، وتشنج، وذات الرئة، وبنج، والهيولى، والقاموس، والقانون، إلى مئات الألفاظ من أمثال ذلك النوع الذي تجده في مظانه ولا نرى حاجة بنا إلى الاستطراد فيه.
Unknown page