104

ولنترك هذه السماحة في إجازة الشعراء لنرى كيف كانت أريحية المهدي في الإحسان إلى الجماهير، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ستين ومائة، أن المهدي قسم في تلك السنة مالا عظيما في أهل مكة وفي أهل المدينة كذلك، وأنه نظر فيما قسم في تلك السفرة، فوجد ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصلت من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله، وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب. •••

وكان المهدي إلى جانب جوده وسخائه حييا خجولا وبرا رحيما؛ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني أن أحله، وإما عوضتني واستغفرت الله له، قال المهدي: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن حسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحما، وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه، قال: إنه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة وإنما انتصر للرحم. فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي قال: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى، قال: نعم، قال: فتبسم المهدي وأمر له بخمسة آلاف درهم.

ولننظر إلى ما يرويه الربيع عنه، قال: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدرى أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه؟! قال: فقرأ هذه الآية:

فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم

قال: فأتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ أابنه موسى أم موسى بن جعفر - وكان محبوسا عندي - قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلا موسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع المهدي صلاته وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية:

فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم

فخفت أن أكون قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي، قال: فقال: نعم. فوثق له وخلاه.

ومثل هذا ما حدث به علي بن صالح قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟! قال: إلى أبد نسيء ويبقيك الله فتعفو عنا. فكررها عليه مرات، فاستحى منه ورضي عنه.

ثم لننتقل إلى حوادث سنة ثمان وخمسين ومائة، فنرى النوفلي يحدثنا عن البيعة للمهدي وما كان من أمر الربيع فيها، فيقول: إن الربيع تناول يد الحسن بن زيد فقال: قم يا أبا محمد فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى ثم التفت إلى الناس فقال: يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واستصفى مالي، فكلمه المهدي فرضى عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح، ونفس طيبة، وقلب ناصح مني، ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. •••

وبعد، فالمهدي من الخلفاء العباسيين في الذؤابة، وقد صدق الأستاذ «ميور» إذ يقول: إن المهدي كان في إدارته لشئون رعيته كمن يعمل بوجه عام على رفاهية الأمة وإسعادها، وكان معينا ومعجلا للعصر الذهبي الذي تلا أيامه، وما أخذ عليه من بعض الهنات لا يمنع المؤرخ المنصف أن يرى في عصره ترفيها للناس مما كانوا يعانون من الشدة أيام المنصور.

Unknown page