عند ذاك تساءلت بدرية: هل نعرض رواياتنا الهزلية في الكلوب المصري؟
فقال حمدون: إنها ليست هزلية بالمعنى المتعارف عليه؛ فمن خلال الهزل أقول أشياء لها قيمتها.
فقال عزت: عظيم، ولكنك حدثتني مرارا عن خطة أخرى. - إذا كان لا بد من الجد فعندنا مسرحيات شكسبير المترجمة.
تحرك رأس بدرية في رشاقة، وقالت بعذوبة: إني أحب يوليوس قيصر!
رأى عزت حركة الرأس وسمع الصوت فحدث شيء، ذهل عن بقية الحديث. ودعاه وذهبا وهو لا يدري. تمتم وحده: رباه ... إني أحبها!
إنها ملء القلب والنفس والحياة. هل بعث الحب القديم في هذه اللحظة أو إنه لم يذهب قط؟ أكان يلاعبه طيلة الوقت؟ إنه لشيء رائع مخيف، يقتحم الحياة ليشحن المستقبل بشتى الاحتمالات. وعلى أي حال يعصف بالسلام إلى الأبد. تراجعت مشكلة يوسف راضي إلى الوراء. أجل، لقد توثقت علاقته به، هو صاحب الفضل في تعريفه بأكثر من امرأة من صديقاته. أشعل في شقته ليالي حمراء، لكنه لم يهنأ بها كما تخيل. بدا له الحب التجاري مقززا للغاية، وشيء خفي في طبيعته ينغص عليه صفوه ويملؤه بالقلق والنفور. شيء خفي مغرم بالنكد، حتى قبل أن يكتشف حبه أو قبل أن يعترف به، نفسه تتضح له بقوة كما تتضح الأسماك تحت الماء الشفاف. من يدري؛ لعله لم يغامر باقتحام الحياة الجديدة، ولم يهجر عين وسمير وسيدة والحارة إلا من أجلها، من أجل بدرية، وسعيا وراء ندائها المجهول. إنه الآن أسير تماما، حياته محاصرة بأعداء مجهولين. متى يحدث الانفجار؟ ولكن مهلا. يجب أن تعالج الأمور بأسلوب آخر. ليبق الحب سرا دفينا تحت الصداقة والعمل، فلتستمر الحياة في عذوبة ولتستكن عذاباتها الخفية. وعاوده التناقض القديم الذي عاناه في رحاب أمه. يحب بدرية ويحنق عليها، يحب حمدون ويمقته، يحظى بالنجاح ويقع في قبضة القلق الحديدية، وعليه إلى ذلك كله أن يتعامل معها - بدرية - ببراءة وتلقائية، لكنه لا يطمئن إلى ثقته بنفسه، ويتعرض لهبوب رياح المخاوف، وهي - وهذا يقين - تحب زوجها لحد العبادة، وهي فيما بدا مطبوعة على الوفاء والاستقامة، ومواقفها من جمهور المعجبين مضرب المثل. ما أغبى حارته في اتهامها لها ولزوجها! الأغبياء يتهمونه بالاتجار في عرض زوجته. ليته كان من هؤلاء الصنف من الناس. إذن لاتخذت الحياة مجرى فريدا في انسجامها وسعادتها. وأشد ما يثيره ساعة الأرق أحيانا في أواخر الليل، يستيقظ فيسبح في عالم أثيري ويجيش صدره بأعمق عواطف الشجن والأسى. ما أفظع ساعات الأرق وسحب الذكريات تهطل صورا براقة تنداح في دموع ودماء وظلام وأنين، عند ذاك يرجع إلى البدائية الأولى المجللة بالبراءة والوحشية والألغاز. وجعل يختلس من الرقباء ساعة تحت ستار الظلام فيقف في ركن يشاهد دورها فوق المسرح في مناجاة وابتهال، ويتساءل في ذعر: ترى عن أي مصير سيسفر هذا الجنون؟ •••
يقول الراوي:
إنه قبيل انتهاء الموسم بأيام قلائل اندفعت الأحداث في جديد غير متوقع، أخل بتوازنها وأسرع بإيقاعها، فانطلقت مثل قذيفة.
كان عزت في حجرة الإدارة عندما جاءت بدرية وحدها قبل رفع الستارة بساعة أو نحوها. ورغم أنها تبدت قلقة مشتتة البال فإن قلبه خفق بابتهاج عميق؛ إذ كانت أول مرة يخلو إليها مذ عمل في رحابها. جلست وهي تقول بنبرة المعتذرة: إني مضطرة إلى إشراكك في همومي الشخصية.
تضاعف ابتهاجه للثقة الموهوبة من أحب الناس، وقال: همومك هي همومي أيضا.
Unknown page