4
وقد سخر الكثيرون في عصر اتسم بالممارسة العملية للماركسية، فضلا عن التفكير النظري فيها، من نظرية سبنسر المضادة للماركسية في أصل الاشتراكية وطبيعتها، ووصفت بأنها «غير تاريخية» أو برجوازية فحسب. غير أن وجهات النظر تتغير، ومن الممكن افتراض أن أعداء الماركسية سيكتشفون من جديد في سبنسر مفكرا ذا قدرة فائقة على التنبؤ، وطبيبا شخص التطورات التالية للحضارة الغربية ببراعة.
ولم تكن عيوب مجتمع القرن التاسع عشر لتفوت سبنسر، ولكن من الصفات المميزة لسبنسر، شأنه في ذلك شأن معظم الأذهان المصقولة الأصيلة، أنه كان يبني تفكيره على أساس «الدرجات»؛ فهو لم يكن محافظا، ولم يكن ثوريا، وإنما كان من أنصار التدرج، فرأى أن الانتقال من أية مرحلة للمجتمع إلى أخرى ينطوي على فترة من المسار التطوري. وفضلا عن ذلك فإنه يترك المجال مفتوحا لحدوث تطور أخلاقي يعلو على تلك الجنة الضئيلة الشأن، التي وعدت بها الديمقراطية الصناعية في القرن التاسع عشر، وهو يرى أن من الضروري، لكي نتصور ما سيكون عليه هذا التطور، أن ننتقل من علم الاجتماع والتاريخ إلى علم الأخلاق؛ فكل قانون أخلاقي مرتبط بنظام اجتماعي معين، وهو حتما يستهدف حفظ وإنهاض نوع الحياة الموجود في ظل هذا النظام الخاص. وعلى ذلك فإن قانونه الخاص يرمي إلى تحقيق أعظم امتلاء ممكن للحياة كما يتصورها ممثل مستنير للمجتمع الذي عاش هو ذاته فيه. ومن المحتم على كل نشاط أخلاقي في هذا المجتمع أن يكون شاملا تكامليا، متجها إلى السعادة العامة. أما في المجتمع الفاضل، الذي هو إسقاط مثالي لميول وأمان موجودة بالفعل، فإن الواجبات الإلزامية تخلي مكانها بالتدريج لغيرية حرة متعاطفة، لا ترتكز على «الضمير» الذي قال به كانت، أو على الشعور بالواجب، وإنما على دوافع غيرية تلقائية ترضينا على الفور.
ولكن من سوء الحظ، كما يدرك سبنسر، أن المجتمع الفاضل لم يوجد بعد؛ فالغيرية، في ظل الأوضاع الحالية، ما زالت واهنة تفتقر إلى الانتشار. وفي رأيه أن التقدم الأخلاقي لن يتحقق إلا بازدياد تقدم النظام الاجتماعي في مجموعه. ولقد كانت واقعية سبنسر، في مذهبه الأخلاقي، مرتبطة بالنزعتين التطورية والبيئية عنده؛ فالسلوك الأخلاقي، شأنه شأن أي نوع آخر من السلوك، هو نوع من التكيف، تتحكم فيه الظروف الخاصة التي يجد فيها الفرد نفسه وجميع الأفراد مندمجين، طوعا أو كرها، في الصراع من أجل العيش. وتتوقف مدى استجابتهم للصراع على الوضع الاجتماعي الذي يتحتم عليهم أن يسلكوا فيه بوصفهم كائنات عضوية مكيفة اجتماعيا، أكثر مما يتوقف على «دوافع» تجريدية معينة كالأنانية أو الحب. فالغيرية، من حيث هي صورة فعلية للسلوك الاجتماعي، لا تكون ممكنة إلا في مجتمع تلزمه الغيرية ليضمن بقاءه. وهكذا يكون ما يعنيه سبنسر بالفعل هو أننا لا نقترب من المجتمع الفاضل إلا إذا ازداد كمال التوافق بين مصالح الفرد الشخصية وبين التزاماته الاجتماعية، أو تضمن سعيه وراء سعادته الشخصية تحقيق مواقفه المتجهة إلى الغير؛ أي مواقفه «الأخلاقية».
ولا يسعني، في ختام هذه الملاحظات الخاصة بفلسفة سبنسر، إلا أن أوجه كلمة فيها ثناء متحفظ، وربما كانت فيها نبوءة أيضا؛ فعندما نقارن مذهبه، في عمومه، بالمذاهب الفلسفية المفرطة الادعاء في القرن التاسع عشر، نجدها أكثر اتزانا وجدية من معظم هذه الفلسفات. صحيح أن أخطاءه كانت كثيرة، ولكنها لم تكن راجعة إلى افتقار إلى الاجتهاد، أو إلى أي تجاهل متعمد للوقائع، أو اجتهاد في تعقبها، وتلك فضيلة عظيمة الشأن. وإذا كان سبنسر قد تعجل في التعميم أكثر مما ينبغي، فقد كان ذلك على الأقل تعميما من وقائع ملاحظة، ومن الممكن تصحيح أخطائه بنفس عملية الملاحظة والتعميم الاستقرائي. ولكن هذا لا يمكن أن يقال على كثير من معاصريه. ولقد كان أسلوب سبنسر في الكتابة مفرطا في واقعيته وجموده، ولكن إذا كانت كلماته ثقيلة غير شاعرية، فإن لخياله الذي اصطبغ في أساسه بصبغة كونية وتاريخية، نواحيه الشعرية الخاصة، وهكذا كان هو بطريقته الثقيلة الخاصة، الشاعر الفلسفي لمسرحية التطور الهزلية الجادة. وعلى أية حال فإن للقارئ العادي أن يقرأ فلسفته حسب معانيها الظاهرة، لا بوصفها أسطورية خفية يكمن معناها الأساسي في موضع آخر. فللمرء أن يقبل عليه أو يعرض عنه، ولكنه على الأقل سيعلم في معظم الأحيان ما هو مقبل عليه أو معرض عنه. والمشكلة هي أنه، مع كثرة ما يوجه إليه من انتقاد، قليلا ما يقرأ. ولو كان يقرأ، لارتفعت أسهمه الفلسفية في رأيي إلى حد ما؛ فسبنسر على خلاف هيجل، مفكر بلا أسرار. ولكن إذا لم تكن فلسفته غامضة على الإطلاق، فإنه أقوى من بعض نقاده شعورا بالسر الكامن الذي ينبض به قلب الوجود. وأنا على العموم، رغم تحفظاتي الكثيرة، أماثل سانتايانا في أنني «من معسكر سبنسر».
أما نبوءتي فهي أن الاهتمام بسبنسر سيبعث مرة أخرى. فإذا كان عصره قد بالغ في قيمته، فإن عصرنا قد قلل من قدره. والواقع أن مثله العليا لا تختلف أساسا عن مثل ذلك النصف من العالم، الذي يسمي نفسه، بشيء من البلاهة، باسم «العالم الحر». وفي وقت كهذا يكون لعقلية سبنسر المعتدلة، بما فيها من جمود وصرامة، مزاياها العديدة.
والنص التالي مقتطف من الفصل الأخير (الفصل الرابع والعشرين) لكتاب سبنسر «المبادئ الأولى
First
»
5 ⋆
Unknown page