reality »، فلم يكن ما يتحدثون عنه هو الوجود اليومي الفعلي، وإنما الواقع «الفكري»، فحسب. ولا يحاول فشته أن يبرهن على قضاياه الميتافيزيقية الأساسية، وإنما هو يكتفي «بوضعها أو تأكيدها»، بوصفها مقتضيات لا مفر منها لأناه الخاص. ولا شك أن القليلين من فلاسفة القرن التاسع عشر هم الذين يقبلون تلك الذاتية المتطرفة في مذهب المعرفة عند فشته، بل إن فلاسفة قليلين في أي عصر هم الذين يتجرءون على قبولها. ومع ذلك فإن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر يعترفون، بطريقة ما، بأن مهمتهم الأساسية، لا من حيث هم باحثون أخلاقيون فحسب، بل بوصفهم ميتافيزيقيين ولاهوتيين وباحثين في نظرية المعرفة أيضا، ترتبط بالمسائل المتعلقة بالمبدأ أكثر مما ترتبط بالمسائل المتعلقة بالواقع، وتتعلق بمعايير الصحة والمعقولية في أي مجال أكثر مما تتعلق بالأشياء الخاصة التي تتفق مع هذه المعايير أو لا تتفق، بل إن البعض منهم على الأقل يصل إلى حد الاعتراف بأن الموضوعية ليست حقيقة عن الكون بقدر ما هي مسألة معايير مشتركة في الحكم والنقد. وبالاختصار، فهنا تعد الموضوعية اشتراكا بين الذوات في أحكام واحدة. والمعايير المشتركة بين الذوات لا يتفق عليها أفراد المجتمع لأنها موضوعية، بل إنها في الواقع تغدو موضوعية لأن الأفراد قد اشتركوا في قبولها.
ولقد كان اعتراف فلاسفة القرن التاسع عشر بوجود فارق في النوع بين المسائل المعيارية والمسائل الواقعية (مهما كان غموض ذلك الاعتراف)، وكذلك نظرتهم إلى مسائلهم الفلسفية الصرفة على أنها معيارية، كان ذلك هو الذي حدا بمعظمهم إلى الاعتراف تدريجيا بأن عملهم، بوصفهم فلاسفة، لم يكن، بما هو كذلك، جزءا من العلم، وبأنهم لا يستطيعون استخدام مناهج العلم. وليس معنى ذلك أنهم كانوا في عمومهم معادين للعلم؛ فبعضهم كان كذلك، وبعضهم الآخر لم يكن. ولكن حتى أولئك الذين كانوا مناصرين للعلم كانوا شاعرين، على نحو ما، بأن الدفاع عن العلم ليس في ذاته جزءا من النظرية العلمية المعترف بها رسميا؛ فالمفكرون من أمثال كونت ومل كانوا، من حيث هم فلاسفة، شهود إثبات في المحكمة أكثر مما كانوا قضاة أو أعضاء في هيئة المحلفين. ولقد كان كانت، الذي تبدأ به قصتنا، عالما، وصديقا للعلم طوال حياته، غير أن كتابه «نقد العقل الخالص»، الذي يستهدف أمورا منها؛ كيف، وبأي الشروط، تكون المعرفة العلمية ممكنة، لا ينتمي هو ذاته إلى العلم. ومثل هذا يصدق على الفلسفة الوضعية عند أوجيست كونت.
ونحن لا ننكر مع ذلك أن بعض فلاسفة القرن التاسع عشر، مثل هربرت سبنسر، قد اعتقدوا أن جزءا من أقوالهم، على الأقل، كان قابلا للتبرير علميا. ولكن الاهتمام الفلسفي لدى هؤلاء الفلاسفة أنفسهم لم يتجه إلى الوقائع بما هي كذلك، وإنما إلى المواقف الأساسية التي تؤيدها الوقائع كما وصفوها؛ فهم لم يكونوا باحثين علميين في المحل الأول، كما كان تشارلس دارون ، وإنما أصحاب مواقف، يسعون إلى استخلاص النتائج الصحيحة من الكشوف التي توصل إليها فرض التطور. وقد أنكروا، بوصفهم باحثين طبيعيين، وجود أية كيانات عالية على التجربة. ولكن اهتمامهم باستخدام هذا الإنكار في إثارة شكوك عملية حول المواقف الدينية والأخلاقية التقليدية، كان أعظم كثيرا من اهتمامهم بمجرد وصف السمات الشاملة للوجود بما هو كذلك.
وإنا لنجد في نيتشه مثلا رائعا على ما نقول؛ فمن صفات كتابه «أصل نشأة الأخلاق
The Genealogy of Morals »، أنه استبق بوقت طويل الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية الحالية في تطور الأفكار والعادات الأخلاقية. وهناك خط واضح يصل مباشرة بين نيتشه وبين هبهوس
Hobhouse
ووسترمارك
Westermark
ومالينوفسكي
Malinowski
Unknown page