3
وليست هذه محاولة لسرد تاريخ، إن هي إلا لمحة نعود بعدها لشوقي؛ إذ بعد شهور طويلة من انقطاع الصلة بيننا لم أره إلا يوم الامتحان، فوجئت به يدخل علينا الخيمة ومعه جمع من زملائه مكبلين بالحديد، ومعهم جيش من الحراس ببنادق وكونستبلات، يومها عبر اللجنة وأوراق الأسئلة تبادلنا ابتسامات راعينا أن تكون خفية، وكأن عيونا غير مرئية ستلحظها وتسجلها، ألم أقل إننا كنا في فترة إرهاب؟! وماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن ينجح في جعل كل منا يتولى إرهاب نفسه بنفسه، فيقوم هو بإسكاتها وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب؟!
المفاجأة التي لم أكن أتوقعها، كانت أني عرفت حين ظهرت النتيجة أن «شوقي» قد نجح، كيف ذاكر وعلوم الطب تحتاج إلى الخبرة العملية والمران؟! وكيف أجاب وكيف نجح؟! لا أعرف، المهم أنه نجح، ومع هذا ظل مسجونا لا يفرج عنه، ولا يقدم للمحاكمة، ولا يواجه بتهمة، أشياء لا تحدث إلا في عصور مظلمة، أو في بلاد، رغم العالم المضيء، لا تزال تحيا في تلك العصور، لم يفرج عنه إلا بعد انقضاء فترة طويلة، ولم أعرف بالخبر إلا حين كنت مارا بالقسم الذي أعمل به في المستشفى الكبير بعد تخرجي، فلمحته جالسا في غرفة الحكيمة وعليه سيماء التردد والحرج، وكأنه قادم لزيارة مريض، والمفاجأة الكبرى التي كانت تنتظرني أني عرفت أنه قد عين في نفس المستشفى، بل أكثر من هذا في نفس القسم الذي أعمل فيه، ورغم انشغالي بضجة الترحيب به لم يفتني أن ألاحظ أن أشياء كثيرة جدا تغيرت فيه إلى درجة حسبته للوهلة الأولى إنسانا آخر، خاصة وجسده نفسه كان قد تغير وأصابه ما يصاب به المسجونون من ترهل، وحتى ذقنه نبت وغزر وأكسب لونه سمرة، ولكني على أية حال قابلته كما يقابل البطل العائد من معركة، والمكافح الخارج من سجن بعد اتهام خطير، وكذلك ظللت أعامله، ولم أكن وحدي، زملاؤنا الأطباء وممرضات القسم، وبعض مرضاه ممن عرفوا قصة الطبيب الجديد، كلنا ظللنا نعامله ونتوقع منه دور البطل، ونتقبل تصرفاته خلال الأيام الأولى لالتحاقه بالعمل على أنها نوع من التواضع وإنكار الذات. كان التخرج قد عمل عمله في نظرتي للناس والأشياء، وخفف من حدة اعتدادي برأيي وإيماني، وأصبحت أومن بالحسن أنى وجد الحسن، وبالبطولة أنى وجدت البطولة، وأصبحت أحتفل بكل عمل مخلص، حتى لو صدر عن مخالف في الرأي وعدو في العقيدة، وكان أقصى آمالي أن أتحين اللحظة المناسبة لأجلس جلستي التاريخية مع «شوقي» ويقص علي فيها كل ما دار له في رحلته التاريخية المليئة، لا بد، بالمواقف والبطولات. والحقيقة حانت أكثر من لحظة، وأكثر من مناسبة وألقيت على «شوقي» أكثر من سؤال، وكانت النتيجة أني لم أظفر منه فقط بأي جواب، بل كان يحدث «لشوقي» حالة أحس معها أنه يبدو عليه وكأنه ينكر أصلا أنه سمع السؤال، اعتقدت أول الأمر أنها مغالاة من «شوقي» لتجنب الحديث أمام المرضى، أو على مسمع من الزملاء، أو الحكيمات، إنه على أسوأ الفروض يؤجل الحديث إلى زمن قادم قريب، ولكن الزمن كان يمضي، والأيام تنقضي فلا تزيده إلا استمساكا بموقفه، مشكلة أخذتها أول الأمر ببساطة، ولم أعتقد أبدا أنها يمكن أن تقودني إلى اكتشاف، بساطة لم تمنعني من أن أبدأ بطريقة لا شعورية أنتبه لشوقي، وهدفي طول الوقت أن أستخلصه من تلك التي اعتقدت أنها «حالة» انتابته بعد خروجه من السجن، والتي كان من الطبيعي جدا أن تنتابه، أستخلصه ليعود مرة أخرى ذلك البطل الوطني الذي عرفته، ولو حتى سار في طريق تختلف كلية عن طريقي. كنت متأكدا أن «شوقي» ليس من النوع الذي تكفي بضعة شهور من السجن لكي تغيره وتدفعه للتنازل عن رأيه، مع أن أيامها كثيرا ما كنا نقابل زملاء ومعارف دخلوا متحمسين وخرجوا وقد طلقوا السياسة والوطنية وكل ما يمت إليهما بصلة، وكأنما كان السجن هو الحجة التي ينتظرونها لينفضوا يدهم من المعركة.
أقول بدأت أنتبه لشوقي، وكان أول ما لاحظته أن نظرته اكتسبت طابعا آخر لم يكن لها، كان في عينيه دائما بريق يشع ويكسب ملامحه جاذبية خاصة، جاذبية المؤمن بحقيقة تضيء نفسه، وتفضح ملامحه الضوء الداخلي وتشعه، ويتركز النور في عينيه، وينقل للعالم صورة نفسه المؤمنة، ذلك البريق كان قد اختفى، وكأنما اجتث من جذوره، ولم يبق لعينيه حتى اللمعة التي تميز عيني كل كائن حي! كنت كلما نظرت في عينيه أحس بإحساس غريب خاص يضايقني أني لا أستطيع إدراك كنهه، وأنى لي أن أعرف أني أستطيع أن أدرك كنه ذلك الإحساس إلا هناك بعد أعوام طويلة، وفي زمان ومكان كان مستحيلا أن يخطرا على البال.
ثم بدأت أعي أن صوت «شوقي» نفسه قد تغير فأصبح لا يتحدث إلا همسا، همس مؤدب خافت كمن يتوقع دائما أن ترفض طلبه، ثم هاتان النظارتان - لا أقصد النظارات الطبية، أقصد تلك التي تركب للخيل لكي لا ترى إلا في اتجاه واحد - هاتان النظارتان الخفيتان اللتان لا تجعلانه يرى إلا ما أمامه، وما أمامه فقط، أين هذا من «شوقي» المتلفت دائما حوله، الباحث المنقب في كل شيء من أمور الدنيا والناس، الغاضب الثائر إذا وقعت عينه على الخطأ، المهدد بالويل والتغيير وإخضاعها لما يريد؟!
شيئا فشيئا طوال شهرين أو ثلاثة عملنا فيها معا، أيقنت أن محاولاتي لاستثارة «شوقي» البطل داخل هذا «الشوقي» الجديد محاولات لا فائدة منها، بل حتى أملي في أن يخرج عن صمته مرة ويحدثني عما لاقاه خلف القضبان تضاءل وانعدم تحت تأثير الموقف الواحد الغريب الذي كان يلتزمه، وكان لا بد أن يأتي اليوم الذي أبدأ أومن أن «شوقي» لم يتغير فقط، ولكنه أصبح بالتأكيد إنسانا آخر غير شوقي الذي عرفته، كم من مرة ضبطته يتآمر مؤامرات صغيرة في القسم ليتاح له مثلا أن يحظى بعملية «فتق» أكثر مني ومن زملائه! كثيرا ما سمعته ينافق «النائب» الذي لا يكبرنا في العمر أو في الوظيفة إلا بعام واحد من أجل أن يقرضه كتابا، أو يدعه يلقي نظرة في «المنظار»، ويكذب، يكذب باستمرار وبلا سبب وبطريقة ساذجة مكشوفة تدفع للاشمئزاز، ولم أصدق الإشاعة التي أطلقتها الحكيمة عليه إلا بعد أن رأيت بعيني، رأيت كيف يحضر المرضى في «كشك» الغيار ويساومهم مساومات رخيصة على أن «يتوصى» بهم في العلاج، ويأخذ في مقابل هذا بضعة قروش هي كل ما يمتلكه المريض الراقد في عنبر المستشفى.
أكثر من هذا لاحظ عليه زملاؤنا في «بيت الامتياز» الذي نقيم فيه، أنه ما من مرة دخل فيها حجرة أحدهم إلا واختفى بعد خروجه شيء من محتوياتها - أي شيء - ولو كان فرشاة أسنان قديمة، حتى أطلقت في البيت حكمة تقول: «إذا حياك شوقي باليمين فتحسس محفظتك باليسار.» وعلى عادة الأطباء حديثي التخرج كثيرا ما عقدت مؤتمرات لمناقشة حالة شوقي، وكثيرا ما أجمع الكل على أنه مصاب بالكليبتومانيا، أو جنون السرقة، وكان عسيرا علي أن أشهد مؤتمرات كتلك، وأن أرى شوقي الذي طالما قدره هؤلاء الأطباء أنفسهم وهم طلبة باعتباره الزعيم والمكافح، يصبح ليس محط سخريتهم فقط، وإنما محط اشمئزازهم واحتقارهم أيضا، من بين مائة طبيب أو يزيد يصبح هو، الزعيم، أحقرهم وأصغرهم شأنا.
لا أريد أن أسرد كل ما كان يفعله شوقي في سنة الامتياز أو بعدها، العيادات التي افتتحها، والنصب والابتزاز، والنظرة الأفعوانية الغريبة التي كان ينظر بها إلى المرضى والناس، وكيف قاطع عائلته بعد التخرج، وأبى أن يساعدهم بمليم، وكيف، ومن، والطريقة البالغة الشذوذ التي تزوج بها، والتي حصل بها على الدبلوم، و«سعى» حتى عين في هذه الوظيفة في مكتب حكيمباشي المحافظة، لا، ولا، بأي أسلوب وحشي كان يعامل رواد المكتب، وخاصة رواده من العساكر طالبي الإجازات، شاهدت مرة عسكريا يبكي أمامه بدموع حقيقية، يستحلفه ويرجوه ألا يكتب أنه متمارض؛ حتى لا يحاكم ويخصم من مرتبه أيام، ولا يفعل الرجاء والإلحاح، ولا تفعل الذلة والدموع أكثر من أن تجعل شوقي يبتسم وتومض ملامحه في غبطة، خطورتها أنها كانت حقيقية أيضا.
السؤال الذي لا بد أن يلح على القارئ هنا: لماذا بعد كل ما ذكرت ظللت مبقيا على علاقتي بشوقي؟
والإجابة صعبة؛ فصحيح كان شوقي قد تحول من زعيم طلبة إلى كائن مزعج مؤذ أصابني شخصيا بمثل ما أصاب غيري من إزعاج وإيذاء، ولكني لم أكن أرى المسألة هكذا، ولا أعتبرها حالة «كليبتومانيا»، ولا تغييرا في شخصية شوقي تسبب عن فترة سجنه، كنت وكأنما أرفض أن أصدق أن بضعة شهور من السجن تحيل إنسانا - مهما كان - من النقيض إلى النقيض، وكأنما أرفض أن أعتقد أن شوقي القديم قد مات وانتهى ولم يبق منه إلا ابتسامة واسعة تدرب على استعمالها، ابتسامة مهما بالغ فيها تبدو دائما فاترة صادرة عن الشفتين فقط، يقول بها للمريض في عيادته الخاصة: أهلا وسهلا، ولزوجته: صباح الخير، ويرد بها على تحية عبد الله التومرجي، ويخفي بها ملامحه إذا أحرجته بسؤال، ابتسامة في جملتها تحمل ملخصا وافيا لحياة ناجحة بالمعنى الفاتر الواسع السطحي للنجاح. لم أكن أرى المسألة هكذا! كنت لا أزال أومن أن شوقي لم يضع ضياعا نهائيا ، وأن كل ما يبدو من تصرفاته إن هو إلا انعكاسات قشرية محضة صادرة عن قشرة صدأ ألم بشخصيته، وأنها آجلا أم عاجلا ستزول، والمسألة تتوقف علي وعلى مجهودي معه، باستطاعتي أن أتركه وشأنه يغرق ويتلاشى، وباستطاعتي أن أظل محتفظا بعلاقتنا أحاول بلا يأس أن أعود به مرة أخرى ذلك الكائن الثائر النافع لشعبه وبلده، كان الواقع يؤكد لي أن شيئا خطيرا قد حدث، أنظر إلى شوقي وأدقق فيه شخصيته فأحس وكأنه مجروح، لا ليس جرحا صغيرا في الصدر أو الرأس، وإنما جرح جرحا شاملا من قمة رأسه إلى أظافر قدمي شخصيته، وأن ما أمامي ليس شوقي، ولكنه الندبة الضخمة التي تخلفت عن الجرح، أنظر إليه وأزداد عنادا وإيمانا بأن كل خطأ ممكن إصلاحه، وكل جرح ممكن أن يشفى ويندمل، ولم يكن مبعث تفاؤلي هو أملي الخاص فقط، هناك في الغلاف الخامس أو السادس لنفس شوقي من الداخل كانت منطقة لا أستطيع أن أحدد أبعادها أو كنهها بسهولة، كل ما أستطيع قوله عنها إنها كانت منطقة استماع، ربما، أو رغبة عارمة مخنوقة للاستماع لا تجد لها متنفسا إلا من خلالي، أو على وجه أصح، إلا من خلال تلك الزيارات المتباعدة التي كنت ألقاه فيها، في عيادته أحيانا، وفي مكتبه بالمحافظة أحيانا، هناك حيث نجلس طويلا نتبادل أتفه الأحاديث عن مصير الزملاء والكادر الجديد، ولكن كان يحدث دائما أن يلتفت شوقي مرة إلى الناحية الأخرى وكأنما يخفي علي بهذه الحركة انفعاله، ويسألني عن الحالة سؤالا أحس معه بتلك المنطقة جوعى تكاد تتشقق ظمأ ولهفة، وما كنت في إجابتي آتي بالنادر أو الجديد، كنت أتحدث ذلك الحديث الذي نجيده جميعا في السياسة بأنواعها وأشكالها، وأحلل ما يجري منها في الداخل والخارج، ومن الصعيد الشخصي المحض إلى صعيد القوى العالمية الرحبة المتصارعة في عالمنا، ورغم أن شوقي كان يرفض دائما أن يتحدث هو أو يعلن، بل ويتعمد أن يبدو حين أتحدث أنا وكأن لا صلة له بالموضوع أو الحديث، أو ليس له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكل ما يمت إلى كائن أو قوة خارجة عنه، رغم هذا إلا أني كنت ألحظ دائما أنه رغم كل تمثيله يستمع، ويستمع بلذة ملهوفة ينجح في إخفائها معظم الأحيان، حتى إذا سكت استثار سكوتي بسؤال جانبي، أو بجذبة نفس من سيجارة أخرى يشعلها ويبتلع دخانها بطريقة من يود أن يطفئ بدخانها ظمأ بلغ درجة الحريق - هو الذي طالما ألقى علي، ونحن طلبة، المحاضرات في مضار التدخين ودلالته الخلقية المشينة، هو الذي أصبحت أظافر يمناه ويسراه والعقد الأخيرة من أصابعه بنية محترقة من لون التبغ، وتطول الجلسة وأنا أفضفض عن نفسي بالحديث، وشوقي يفضفض عن نفسه في حذر عظيم بالاستماع، وكثيرا جدا ما كنت أتأمل المشهد بروح منفصلة محايدة فأرانا فردين من أفراد جيلنا الحائر الذي حمل الرسالة فوق كتفيه حتى كاد أن يسحقه الحمل، فردان جالسان في حجرة كشف مغلقة، أو في مكتب حافل بالروائح، ندخن بكثرة، وكأنما ننوي الانتحار مدخنين، ونشحن المكان بسحب متكاثفة لا نعرف إن كانت من احتراق السجائر أم من احتراق الصدور، ولكنا مع هذا لا نكف، بل نمضي نحرق اللفائف وتحرقنا، ونملأ الجو بدخان يضغط على صدورنا لتخرج دخانا أكثر، وأملنا أن ينجح الضغط المتكاثف المتزايد في إفراغها مما تحفل به، من كتل الحديد والرصاص والمآسي المترسبة في أعماقنا تجذب أرواحنا إلى أسفل وتحني ظهورنا قبل الأوان، ونحن اثنان أبعدتنا المقادير عن جيلنا، كما أبعدت جيلنا عن بعضه، وقذفت بنا داخل هذه القماقم المتداخلة من الجدران والأدخنة والمخاوف، وبيننا مطاردة لا تنتهي، أنا - الغريق - أحاول انتشال شوقي وجذبه، وشوقي يرفض مذعورا أن ينجو، وأنا أواصل محاولاتي، وكأنما تبلورت أهدافي ومعتقداتي في محاولة إنقاذه، وهو كأنما تبلورت رسالته في محاولة إغراق نفسه أكثر، وإذا استطاع إغراقي أيضا، ويا للسخرية! لقد كنا بالأمس نعمل، وأملنا مؤكد أننا سننقذ الشعب كله، فإذا كل منا اليوم غير قادر أن ينقذ نفسه، بالساعات كنا نجلس هكذا لا ننتبه إلى الوقت إلا بمؤثر من الخارج، بليل يهبط أو تليفون ملح يدق، أو حدث غير عادي يقع، كتلك الجملة التي نطق بها عبد الله التومرجي وهو يشير إلى الدوسيه، جملة لم أكن أعرف أنها ستقودني وستقود شوقي إلى هذا الذي كان ينتظرنا بعد ظهر يوم الصيف ذاك.
Unknown page