أرأيت كيف وقف بنا ونحن صغار في سن العاشرة أو ما دونها، أمام جملة إنجليزية بسيطة يريد لها أكمل ترجمة عربية ممكنة؟ ولقد أنار أمامنا الطريق؛ فالوقائع هي الوقائع لا سبيل إلى تبديلها، بل ولا حاجة بنا إلى ذلك التبديل، فهي وقائع لمن يصوغها بالإنجليزية كما هي وقائع كذلك لمن يصوغها بالعربية، وأما الروابط الجمالية التي ربطت تلك الوقائع في عبارة واحدة وتعبير واحد، فلكل لغة وجدان أصحابها وما يتحقق به ذلك الوجدان.
وهكذا قل في البناء الثقافي كله، نثقف به فردا، أو شعبا، أو أمة قوامها عدة شعوب، فلا تنكر للواقع، ثم يجيء المبدعون للثقافة فيخدمون أمتهم في وجدانها الخاص.
أين نضع المبادئ؟
تعالوا نبدأ طريقنا معا من بدايته؟ فقد رددنا في حديثنا السابق حياة الإنسان بكل تعقيداتها وتفصيلاتها، إلى وحداتها البسيطة، على غرار ما يحلل الفيزيائي أو الكيميائي قطعة من مادة ليردها إلى عناصرها الأولية، فبغير هذا التحليل لما نريد فهمه يستحيل علينا ذلك الفهم إذا أردناه على الوجه الأكمل، فوجدنا أبسط الوحدات التي تتركب من تجمعاتها وتركيباتها حياة الإنسان كما نراها في أنفسنا وفي سوانا من الناس، مؤلفة من ثلاث حلقات؛ أولاها حلقة المعرفة التي ندرك بها ما ندركه مما يحيط بنا، أو مما نحسه في أنفسنا وهي معرفة نحصلها من المؤثرات التي تتلقاها حواسنا ضوءا أو صوتا أو لمسا أو ما تصادف أن يكون؟ وثانيتها حلقة قوامها ذلك المحتوى المعقد الذي يكمن في باطن الإنسان، بعضه فطري كالغرائز والانفعالات وبعضه الآخر مكتسب كالعواطف التي تؤسس على انفعالات وكالعقائد التي يتلقاها الفرد من مجتمعه وكالأفكار التي تبدأ أفكارا ثم ترسخ مع الزمن في نفس حاملها حتى ليحسبها جزءا لا يتجزأ من فطرته. هذه العناصر وأمثالها هي التي تتكون منها الحلقة الثانية وهي التي تتلقى ما تنقله إليها الحواس من مؤثرات جاءتها من مصادرها الخارجية أو الداخلية، تتلقاها الحلقة الثانية بكل ما شحنت به من مخزونات العواطف والغرائز وما إليها، لتصبغها بصبغتها هي، وتشكلها على الصورة التي تهواها هي. ولما كان المخزون الباطني يختلف في تفصيلاته من فرد إلى فرد، ثم من شعب إلى شعب، كانت المؤثرات التي جاءتنا من العالم الخارجي، معرضة لكل ضروب التشكيل والتلوين التي تضطلع به مكونات النفس؛ فلا يكفي أن يتأثر شخصان بمؤثر واحد معين لنضمن أن تجيء حياتهما على صورة واحدة؛ لأن ذلك المؤثر سيدخل عند كل منهما في مصنع داخلي مختلف، والله أعلم على أية صورة يخرج ذلك المؤثر من المصنع الداخلي عند كل منهما؛ ومن هنا كانت خطورة هذه الحلقة الثانية - كما أسلفنا في حديثنا السابق - لأنها هي «النفس» التي قد تكون أمارة بالسوء مرة، أو تكون لوامة مرة، أو تنالها رحمة الله فتكون مطمئنة مرة ثالثة، وعلى أساس ما ينتجه ذلك المصنع الداخلي لصاحبه تجيء الحلقة الثالثة - التي هي السلوك الظاهر - الذي يؤدي به سالكه ما يؤديه من عمل - أو من كف عن العمل - مما يقع فيما يشاهده منه الآخرون.
ولكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث ضوابطها التي تختص بها، فإذا كانت مهمة الحلقة الأولى هي أن تزود صاحبها بمعرفة يعرفها عن عالمه المحيط به، كي يتصرف على أساس ما يعرفه، فإن ضوابط تلك الحلقة المعرفية تدور كلها حول أن تكون المعرفة التي تنقلها إلى صاحبها معرفة صحيحة لئلا يضل الطريق في سلوكه الذي سيرتبه على ما قد عرف، فلا بد للعين أن تكون دقيقة الإبصار، فإن لم تكن استعانت بالمناظير، فإن لم تسعفها المناظير لجأ الإنسان في هذه الحالة العاجزة إلى مبصر يعينه. ولا بد للأذن أن تكون جيدة السمع، وهكذا قل في سائر الحواس. على أن الحواس لو سلمت كلها من العطب، ينبغي أن يكون وراءها إرادة متعمدة من الإنسان المسئول تلزمه بالأمانة في نقل المعرفة التي تلقاها، وبالصبر على المشاق إذا كان طريقه إلى المعرفة عن طريق حواسه فيه ما يشق عليه. وهكذا تقوم بحكم الضرورة ضوابط كثيرة ملزمة للإنسان في الحلقة المعرفية الأولى، ليضمن لمعرفته أكبر قدر من الصواب. ولقد أمكن استقطاب مجموعة القيم الضابطة للمعرفة تحت عنوان واحد، أو قل تحت قيمة واحدة، هي قيمة «الحق».
فإذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية، تلك الحلقة المعتمة بضبابها، المحيرة بعنادها، المربكة بخصوبتها وتراثها، المالكة لزمام صاحبها وكأنه مطية لها، ألجمتها لتتحكم في تسييره في أي اتجاه شاءت هي له أن يسير. ومع كل هذه الطبيعة المتمردة العاصية في الحلقة الثانية، فلها ضوابطها، وإن تكن الضوابط هذه المرة شديدة المرونة في معانيها ومقاصدها حتى لكأنها لا ضوابط. لقد كانت ضوابط «الحق» في الحلقة الأولى مما يمكن تحديده تحديدا فاصلا وحاسما، وحسبك أن تعلم بأنها هي هي نفسها القواعد التي يتناولها بالبحث «علم المنطق» الذي أمكنه أن يبلغ دقة رياضية لا تفلت منها شعرة، في صياغته للقواعد التي تسير عليها الحركة العقلية الاستدلالية لتجيء النتيجة العلمية آخر الأمر يقينا لا يحتمل الشك، وذلك في العلوم المتقدمة في تطبيق المنهج العلمي وكعلوم الطبيعة، أو تجيء تلك النتيجة على درجة عالية من احتمال الصدق، وذلك في العلوم الإنسانية التي لم تبلغ بعد دقة العلوم الطبيعية وإن تكن سائرة على الطريق نحو أن تبلغ تلك الغاية.
كان ذلك هو شأن المعايير الضابطة في الحلقة المعرفية الأولى، حتى إذا ما انتقلنا إلى المرحلة «الوجدانية» الثانية، التي تتلقى المعرفة المحصلة لتلجمها وتتحكم في تشكيلها وتلوينها ثم في توجهها الوجهة التي نريدها لها، وجدنا الضوابط هنا - كما قلنا - مرنة عائمة. ولقد استقطبت ضوابط هذه الحلقة تحت اسم واحد، أو تحت «قيمة» كبرى واحدة هي قيمة الجمال، ولا أنبئك كم ألف مرة تكرر ذكر «الجمال» على لسان هذا الكاتب، منذ عرف في صباه الباكر أن القيم الكبرى، التي تنطوي تحتها جميع القيم الإنسانية هي ثلاث؛ الحق والجمال والخير. ولا بد أن تكون أنت كذلك أيها القارئ قد أجريت لسانك بهذه الأسماء الثلاثة دون أن يستوقفك هذا الاسم الغامض المبهم «جمال» مزعوما له أنه يجمع في معناه مجموعة الضوابط التي يظن أنها ترسم طريق السير الصحيح لمكونات الحلقة الثانية التي هي حلقة وسطى بين حلقة «المعرفة» في طرف أول، وحلقة «العمل» في طرف أخير.
كان هذا الكاتب لعشرات السنين يمر على اسم «الجمال» - من حيث هو اسم على إحدى القيم الثلاث الكبرى - مرور الكرام كما يقال، لا يحاسبه ولا يحاسب نفسه، ولا يراجعه أو يراجع نفسه متسائلا: بأي معنى يراد منا أن نفهم «الجمال» على أنه اسم شامل لضوابط مكونات النفس من غرائز وعواطف وانفعالات وعقائد وأفكار بثت في مخزون النفس بغير تحديد ولا توضيح إلى آخر هذه الأسرة العجيبة من عناصر ذلك المخزون الخبيء في صدورنا والذي يريد أن يكون صاحب الحق المطلق في أن يقول لصاحبه «نعم» و«لا» تجاه ما يصادفه من مواقف تريد منه أن يتصرف على هذا الوجه أو ذاك، فلفظ «الجمال» معروف وشائع على كل لسان؛ ومن هنا يجيء معظم الخطر في إساءة الفهم حين يراد لما يسمى ب «الجمال» أن يكون هو الضابط الذي نرجع إليه في ترشيد «النفس» بمكوناتها التي أشرنا إليها؛ فلقد ألف الناس أن يستخدموا صفة «الجمال» ليصفوا بها غادة حسناء، أو زهرة أو بستانا أو شفق الشمس عند غروبها ، فكيف تمكن هذا المدار الذي تدور في فلكه تلك الاستعمالات وما يماثلها، أن يكون هو المقصود حين يراد ل «الجمال» أن يكون المعيار المرجعي الضابط ل «النفس» وما انطوت عليه من مكونات ذكرنا لك بعضها؟
وكانت اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر إزاء هذه الكلمة ومعناها - وذلك في مجال الفكر الفلسفي أو النقدي وليس في مجال الحياة اليومية العابرة - أقول إن اللحظة التي أوقفت هذا الكاتب موقف الحذر في فهم مصطلح «الجمال» هي تلك اللحظة التي كان يراجع فيها بطاقات الكتب في مكتبة الجامعة، باحثا عن كتاب بعينه للصوفي المعروف «ابن عربي»، وإذا به يقع بين البطاقات على بطاقة لكتاب له عنوانه «الجمال والجلال» فأخذته الدهشة والفرحة معا؛ لأن المشتغلين بالفكر الفلسفي لم يعرفوا أن الفكر العربي قد اشتمل فيما اشتمل، على نظرية خاصة ب «الجمال» كالتي نجد أمثلة لها عند فلاسفة الغرب، وعند المحدثين منهم بصفة خاصة؛ لأن تنظير «الجمال» لم تكتمل صورته على الوجه الذي أصبح معروفا عند أصحاب الفكر الفلسفي، إلا على يدي «بندتو كروتشه» الفيلسوف الإيطالي الحديث الذي ربما عرفه الناس من معارضته لموسوليني معارضة أنزلت به الأذى، أكثر مما عرفوه ذا فلسفة خاصة في فكرة «الجمال» أو في غيرها.
لهذا أخذت هذا الكاتب دهشة وفرحة عندما علم أن لابن عربي كتابا عن «الجمال والجلال». وقبل أن أمضي في الحديث أود للقارئ أن يعرف لمحة سريعة عن الفرق بين «الجمال» و«الجلال» في المصطلح الفلسفي. وربما كان أقرب طريق لبيان الفرق أن نسوق أمثلة فيها المقارنة بين المعنيين، فإذا كان مفهوما لنا أن نصف بالجمال «غادة حسناء، وزهرة وبستانا»، فإن الذي يوصف بالجلال «من حيث هو مصطلح فلسفي في هذا المجال» البحر، والصحراء، والجبل، والمبنى الضخم ذو الأعمدة الشامخة وما إلى ذلك؛ فبينما تثير موضوعات الجمال مشاعر الرقة والتناسق، فإن ما تثيره موضوعات «الجلال» هو الشعور بالعظمة والقوة واللانهاية.
Unknown page