وليس «الفكر» في متفاوت درجاته، إلا مرآة من تلك المرايا العاكسة للحياة الجارية، لا بمجرد وصفها وصفا دقيقا محسوبا مصنفا؛ فذلك هو مهمة «العلم» الذي هو ضرب واحد من ضروب «الفكر» ولكنه يعكس الحياة ب «نقدها». ولقد كان «هيجل» على حق، عندما قال عن «الفلسفة» إنها هي صورة الحياة بلغة «الأفكار المجردة» التي لا تشع ضوءا على وقائع الحياة كما تعاش، إنما هي لغو لا نفع فيه.
ونظرة متمهلة فاحصة للحياة الثقافية التي نتنفس أجواءها في الوطن العربي طولا وعرضا، قمينة أن تنتهي بنا إلى نتيجة مرجحة الصواب، وهي أن مرآة «الفكر» هي أضعف المرايا الثقافية تجلية لحياتنا العملية، مع أننا لو كنا بحاجة إلى مرآة واحدة قبل سواها، لتهدينا إلى صورة من الحياة أقوى وأضوأ وأشد جذبا لنا من التخلف الحضاري الذي أصابنا في هذا العصر، بعد أن كنا بناة الحضارة وروادها في العصور السابقة، لكانت تلك المرآة الواحدة التي تسبق سواها هي مرآة «الفكر»، لماذا؟ لأن سائر المرايا الثقافية من فن وأدب مدارها آخر الأمر هو الجانب الوجداني من الإنسان، فإذا كان الإنسان مرتكزا على دعامتين، هما «العقل» و«الوجدان» فإن الجانب الوجداني في حياتنا قد أغناه الدين بما يكفيه ليكون قوة دافعة. وأما ركيزة «العقل» التي تتجلى أساسا في «العلم» وفي «الفكر» فهو الذي نفتقر إليه افتقارا وصل بنا إلى حد الخطورة. ولا نقول شيئا هنا عن «العلم» في حياتنا الحاضرة؛ لأن ما بين أيدينا منه بضاعة مستعارة ممن أبدعوها في الغرب. وكل فضلنا في مجاله - وهو فضل ليس بالقليل - هو أننا قد عرفنا كيف ننقل عن سوانا، وما الذي ننقله، وبأي الوسائل ننشره في معاهد التعليم. وما دام لا اختلاف عليه سواء أكان الدارس عربيا أو غير عربي، فالذي فاتنا منه هو المشاركة في ابتكاره. وأما الوجه الثاني من «العقل»، المتمثل فيما نسميه «فكرا» فهو متصل إلى حد ما بصورة الحياة الإقليمية، بحيث يجوز لنا أن نفرق بين الفكر الأمريكي - مثلا - عن الفكر الروسي، وذلك لأن العملية الفكرية كثيرا ما تنحصر في تجريد المبدأ العام من المفردات الجزئية التي تجري بها الحياة في تيارها اليومي، خذ فكرة «الجمال» مثلا.
قد يستخلص العربي فكرة عن الجمال تختلف عما يستخلصه الفرنسي أو الهندي؛ لأن المفردات التي توصف بالجمال عند كل منهما ليست متطابقة. ومثل هذا الاختلاف الإقليمي نراه في ميادين الحياة الإنسانية بصفة عامة، بينما الحقائق «العلمية» مأخوذة من ظواهر الطبيعة، وحتى لو استخرجنا حقائق «علمية» عن الإنسان؛ فإن ذلك يقتضي أن ننظر إلى الإنسان من حيث هو «ظاهرة» كسائر ظواهر الطبيعة، ولا كذلك ما قد أسميناه «فكرا»؛ فهو وإن يكن مستندا إلى منطق العقل، شأنه في ذلك شأن «العلم»، إلا أن مفرداته الجزئية التي تنصب عليها العملية العقلية تختلف من إقليم إلى إقليم إذا اختلفت بينهما الحياة الثقافية. خذ مجال «السياسة» - مثلا - وانظر إلى ما ينشأ عنه من «فكر» سياسي تجد ذلك الفكر قد اختلف في بلد عنه في بلد آخر، وإلا فلماذا حدث ذلك الاختلاف الحاد في مجال الفكر السياسي، بين شرق أوروبا وغربها؟ أو بين ما يسمى بالعالم الثالث مأخوذا في جملته وبين الغرب مأخوذا كذلك في جملته؟ إن الجذور الثقافية العميقة في حياة البلد المعين، لا يسهل اقتلاعها من صدور الناس، مهما أشعت فيهم من أسماء المذاهب السياسية؛ ولهذا فمحال أن يكون معنى «الحرية» أو «الديمقراطية» أو «الحياة النيابية» أو غيرها من «الأفكار» السياسية، متطابقا في فهمه وفي تطبيقه في البلاد ذات الثقافات المختلفة، برغم استخدامها للمصطلح السياسي نفسه؛ ففي بلد «حر» ديمقراطي «نيابي» في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، قد تجد ضروبا من الاعتقال والحبس والتعذيب والحرمان لأفراد اختلفوا مع اتجاه الحاكم، في حين أن شيئا من هذا كله لا يسمع عنه في فرنسا أو في إنجلترا أو غيرهما من بلاد الغرب التي توصف أيضا بالحرية والديمقراطية والحياة النيابية، فالمصطلح السياسي واحد في الحالتين، ولكن شتان بين معنى ومعنى، وبين تطبيق وتطبيق.
شيء كهذا هو ما نعنيه بالحياة «الفكرية»، وهي الحياة التي نقول عنها إنها أضعف الجوانب الثقافية جميعا في الوطن العربي؛ فقد يكون لدينا الموسيقار الكبير، أو الشاعر المرموق، أو كاتب الرواية أو المسرحية، وقد يكون لدينا الفنان التشكيلي الذي نفاخر به، أو الفنان التعبيري (في عالم التمثيل) ممن يستطيع الظهور بين أقرانه في أي بلد آخر، لكننا يندر جدا أن نجد رجل الفكر على درجة نباهي بها الآخرين؛ ومن ثم كان سبيلنا في هذا المجال، هو نفسه سبيلنا في مجال العلم، وهو سبيل النقل والمحاكاة لما أنتجه المبدعون من رجال الغرب، مع الفارق الهام الذي أشرنا إليه بين حالتي النقل في مجال العلم والنقل في مجال الفكر، وهو أن «العلم» مشترك بين أهل الأرض جميعا، لا فرق بين أن يلبس ثيابا أوروبية أو آسيوية أو أفريقية، وأما الفكر بالمعنى الذي حددناه له، فقد تختلف طبيعته من بلد إلى بلد، لاختلاف التربة الثقافية فيهما.
وهكذا ترانا في حياتنا الفكرية كالغرباء في بلد مجهول، يسيرون في طرقاته ولا يدرون من أين يسيرون ولا إلى أين، وذلك لأننا استوردنا الثياب الفكرية «الجاهزة» وأردنا أن نقحمها إقحاما على أجسادنا، فقلما نفلح وكثر ما نخيب. لكن ذلك لا يعني ألا نكون على صلة دائمة ومباشرة بما تستحدثه الحضارة الجديدة وثقافتها المتولدة عنها، من أفكار جديدة، هي في حقيقة أمرها بمثابة برامج مكثفة للعمل بأسلوب معين، فذلك هو المعنى الحقيقي لما نطلق عليه اسم «الفكرة»؛ فالحرية فكرة، والعدالة فكرة، والمساواة فكرة، والتعاون فكرة، وتعليم المرأة فكرة، والنظام النيابي فكرة، وهكذا كل فكرة من هذه الأفكار، هي اسم يلخص مجموعة كبيرة من تفصيل التطبيق والتنفيذ، إلا أن كل فكرة منها كذلك هي من مرونة المعنى بحيث لا تزيد على كونها إطارا يحدد مجال الحديث دون أن يحدد تفصيلات معناه تحديدا يحصره في صورة واحدة، كأنها قالب من حديد. ولعل القارئ يذكر عندما أخذنا بالاشتراكية مبدأ لحياتنا السياسية والاقتصادية، كم تعرضنا لضرورة تغيير ما يفهم من هذا الاسم، وأخذنا نوسع من نطاق القطاع العام آنا ونضيق منه أحيانا، ثم حين استتبع هذا المبدأ الاشتراكي وجوب مشاركة الجمهور العامل مشاركة مباشرة في دخول المجلس النيابي، وفي المشاركة في مجالس الإدارة أينما وجدت، واشترطنا أن يكون للفلاحين والعمال نصف المقاعد على الأقل في كل هيئة من تلك الهيئات النيابية والإدارية التي في أيديها صنع القرار، اضطررنا إلى «تعريف» الفلاح والعامل، ثم أخذنا نغير من هذا التعريف كلما ألزمتنا الظروف بإعادة النظر فيه، فما معنى ذلك؟ معناه أن مفهوم «الاشتراكية» ومفهوم «النظام النيابي» وأمثالهما، وإن تكن كلها مبادئ مقبولة، إلا أنها بحكم طبيعتها المنطقية مرنة الحدود، تتسع وتضيق داخل الإطار الواحد. وهكذا تكون الحال في موقفنا من الأفكار المأخوذة ممن هم بناة العصر الجديد، وبهذا التكيف نعاصر زماننا ونصون كياننا في وقت واحد.
وقد كان ينبغي لرجال الفكر منا أن يكون هذا هو أهم ما يصبون عليه قدراتهم العقلية، ولو فعلوا لكان الطريق أمامنا أكثر وضوحا، لكنهم لم يفعلوا منه إلا أقل من القليل، إذن فما الذي فعلوه؟ لست أريد أن أحدد أسماء رجال بذواتهم، ولا أن أسمي أعمالا فكرية بعينها تمت على أيديهم، ليراجع القارئ معي طبيعة الكثرة الغالبة مما أنتجوه، سواء في ذلك أبناء الجيل الماضي أو أبناء هذا الجيل، كلا، لا أريد ذلك حتى لا تشوب حديثي ذرة من إساءة وتجريح؛ لأن الهدف الذي نعمل على تحقيقه جميعا إنما هو إعداد الوسائل الثقافية الفعالة التي من شأنها أن تحقق لأمتنا العربية بأسرها وقفة جديدة، فيها القوة التي تصون كرامتها أمام ضمائرها أولا، وفيها الحرص على أن نكون جديرين بأسلافنا ثانيا، ثم فيها ما يرغم العالم على احترامنا ثالثا.
ومراجعة نزيهة لما أنتجه رجال الفكر منا (ولا أدرج الأدب والفن في معنى كلمة «فكر» في هذا السياق)، تبين لنا حقيقة موضوعية لا جدال فيها، وهي أن معظم جهدهم المبذول قد انصب إما على عرض لمختارات من تراثنا حينا، أو عرض مختارات من إنتاج العقل الغربي قديمه وحديثه، وقد يكون هذا العرض في كلتا الحالتين مصحوبا بنقد وتعليق؛ فمن أعلام الجيل الماضي من كاد فكره كله ينحصر في أن يعرض على الناس كيف ينبغي للحرية السياسية أن تكون، بحيث لم يخرج في ذلك على حدود ما يقال عن الحرية السياسية في بعض أقطار الغرب، دون أن يتبع ذلك تحليلات دقيقة توضح مدى صلاحية المفهوم الغربي بتفصيلاته للجسم الثقافي القائم في حياتنا. ولا يجوز لنا في هذا الصدد أن نخلط بين نقطتين؛ الأولى هي تقدير الجهد الذي أطلعنا على فكرة الحرية السياسية عند من سبقونا إليها، والثانية هي جهد آخر كان الخير في أن يبذل، وهو تكييف الصورة الغربية لواقعنا الثقافي من جهة، وتكييف واقعنا الثقافي لقبول فكرة الحرية السياسية من جهة أخرى. وقد حقق مفكرونا الشطر الأول، ولم يحققوا الشطر الثاني، فنتج عن ذلك أننا نفتقر حتى اليوم إلى مفهوم للحرية السياسية، لا يحرمنا من ذلك الحق الأساسي من حقوق الإنسان، ولا يكون - في الوقت نفسه - قلقا في مناخنا الثقافي. وإذا نحن لم نحقق لأنفسنا هذا الوضع المطمئن، كان كلامنا عن الحرية السياسية في معظمه حبرا على ورق.
ومن أعلام الفكر في الجيل الماضي من جاء إنتاجه «العظيم» - فليس فينا من ينكر عظمته في ذاته - منصبا في شطر منه على نقد أدبي لبعض شعراء العرب نقدا «عظيما»، وفي شطر آخر منه منصبا على تاريخ يعرض طائفة من أئمة المسلمين وأبطالهم، مما يقدم للقارئ غذاء تاريخيا «عظيما». ومن حقنا أن نسأل: أين في هذين الشطرين ما يرشد المواطن المثقف في مشكلات حياته الفكرية بمعناها الحي الذي يسير معنا في الطرقات على قدمين، أين في هذين الشطرين ما يهدي المواطن المثقف إلى وقفة يطمئن إليها في مشكلة العلاقة بين الوالد والولد، في عصر أصبح الولد فيه أوسع علما من الوالد؟ أو في مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في عصر أصبح المحكوم فيه هو الذي يختار حاكمه، ومن حقه أن يعزل من اختاره، إذا لم يكن موفيا بالغرض الذي من أجله اختير، وهي عندنا «مشكلة» نحسها أكثر جدا مما يحسها أولئك الذين عنهم أخذنا نظام الحكم الحديث؛ لأن في ثقافتنا ما يوجب على «الصغير» ضروبا معينة من السلوك تجاه «الكبير»، وقد أدخلنا في معنى «الكبر» أن يكون حاكما وفي معنى «الصغر» أن يكون محكوما، فكيف نشكل وقفة الصغير من كبير اختاره ذلك الصغير ليحكم، وأصبح عليه أن يراجعه بحكم أن ذلك حقه السياسي، ولكن عليه في الوقت نفسه ألا يراجعه بحكم أن ذلك من صلب تقاليدنا في التعامل. وعلى غرار هذين المثلين تستطيع أن تستطرد في الأمثلة المنزوعة من حياتنا كما هي معاشة على أرض الواقع، لكنها تحتاج إلى إعادة نظر لا يستطيعها إلا رجل «الفكر» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة.
وأما الجيل الراهن فرجال «الفكر» فيه ذوو قامات قصيرة وقدرات متواضعة، يصعب على المتعقب أن يجد لمعظمهم «فكرة» واحدة يعرف بها وتعرف به؛ لأنهم على الأعم الأغلب عارضو ثياب لا هم ناسجوها، ولا هم بائعوها، ولا هم لابسوها؛ فواضح وضوح الشمس في السماء الصافية، أنه لا رجال الفكر في الجيل الماضي، ولا رجال الفكر في هذا الجيل، قد اضطلعوا بالتصدي لمشكلات حياتنا الحقيقية على المستوى النظري (وذلك هو المستوى الذي خصص له). ألم نقل فيما أسلفناه إن الإبداع الفكري هو مرآة من مرايا الإبداع الثقافي التي كان ينبغي أن نجد صورة حياتنا الفعلية منعكسة عليها، لنراها رؤية العين، لا من حيث هي التفصيلات الظاهرة التي نراها في البيت والدكان والمصنع، بل نرى التروس الخفية التي تدور في الظلام فتحرك الناس ليحركوا مسالكهم على النحو الذي نراه في البيت والدكان والمصنع. ولست أظن أن مثل هذه المرآة الفكرية بين سائر المرايا الثقافية قد تمثلت بصورة قوية في أحد من أعلام الجيلين. وما قد تعثر عليه في هذا السبيل إما أن يكون نتفا مجزأة لا تغني ولا تشبع ، وإما أن تكون على صورة السرد الصحفي لحياة الناس، مع عجز عن الصعود من مستوى الواقع المجسد إلى مستوى التنظير؛ فالواقع المجسد حالات متغيرة في يومها عن أمسها، وأما التنظير إذا استطعناه، فهو يضع بين أيدينا ما هو ثابت وراء ذلك المتغير. وهذه التفرقة هي نفسها ما يبين لنا أين تكون الصلة بين رجل «الفكر» من جهة، ومشكلات الحياة الواقعة من جهة أخرى.
فلعلك ترى معي، بالوضوح الذي أرى به كيف أن معظم قيادتنا الفكرية في الجيلين، قد صبوا الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على فكر سواهم. إذن فنحن أمام «فكر على فكر» ولسنا أمام فكر على مشكلات حية (ومرة ثانية أكرر بأنني أخرج من مجال حديثنا مبدعي الأدب الخالص، والفن الخالص). ولا فرق في هذا السياق بين أن يكون الفكر الذي يصب عليه مفكرنا طاقته، فكرا مأخوذا من ماضينا، أو أن يكون مأخوذا من حاضر الغرب أو ماضيه؛ ففي كلتا الحالتين هو «فكر على فكر». ويعن لي في هذه المناسبة أن أجري مقارنة سريعة بين ما نحن فيه، وما قد رواه التاريخ عن الفكر العربي في قرونه الأربعة الأولى بعد الإسلام؛ فهنالك نجد صنفين من المفكرين؛ صنف منهما حقق النموذج الذي نتمناه، وهو أن يصب الفكر على مشكلات حية لتنظيرها، والصنف الآخر كان شبيها بنا اليوم، في أن جاء جهدهم الفكري مصبوبا على فكر سواهم، فمن الصنف الأول كان علماء اللغة كالخليل وسيبويه، وكان فقهاء الدين والمفسرون وعلماء الحديث، وكان علماء الكلام (بحثوا في بعض المعاني التي وردت في القرآن الكريم، بحثا فيه طابع الفكر الفلسفي)، وكان نقاد الأدب - والشعر بصفة خاصة - فهؤلاء جميعا قد سلطوا قدراتهم التحليلية على موضوعات من صميم الحياة العربية الإسلامية إذ ذاك؛ لأن القرآن الكريم كان محور الانتباه، وبعد أن أخذه المؤمنون مأخذ الإيمان وحده لفترة من الزمن، أرادوا أن يتعمقوه فهما وإدراكا لرسالته، فكان أن درسوا اللغة وأبعادها من أجل ذلك، وكان أن بذلوا الجهد في استخلاص أحكامه، وكان أن وقفوا عند معان أساسية وردت فيه ليزدادوا لها إدراكا، وكان أن عادوا إلى الشعر الجاهلي ليأخذوا منه شواهد لغتهم وخصائصها، فنشأت حركة قوية تتناول النقد الأدبي من مختلف أطرافه. إذن فهؤلاء جميعا قد أسقطوا فكرا على حياة عربية إسلامية ومقوماتها. وأما الصنف الثاني من هؤلاء السلف، فخير من يمثله هم الفلاسفة؛ الكندي، والفارابي، وابن سينا في المشرق العربي، وابن رشد في المغرب العربي. وهؤلاء جميعا قد صبوا «فكرا على فكر»؛ لأن الجزء الأكبر فيما صنعوه وخلفوه، هو عرضهم لفلسفة نقلت عن اليونان، فأرادوا دراسة محتواها، وفهم ذلك المحتوى، وما يتفق منه مع عقيدة المسلم وما لا يتفق، فمهما بلغوا فيما عرضوه من قدرة، فهم ممن سلطوا طاقتهم الفكرية على فكر سواهم؛ ولذلك كان توجيههم لتيار الفكر العربي الإسلامي، أقل أثرا وأقل ظهورا ممن صبوا فكرهم على مقومات حياتهم، من فقه ودراسة للغة، وتفسير وتحليل للنص القرآني الكريم.
Unknown page