هذا هو عصرنا بما له من حسنات وفاعلية وما عليه من سيئات، لم يكتب على بابه لل «غرب فقط» حتى يظن الآخرون أن الدار ليست دارهم، بل هي دار للجميع وعلى جميعنا تقع تبعاتها.
العربي بين حاضره وماضيه
1
تجيء الأيام وتمضي، أعواما بعد أعوام، فيتغير من الإنسان ما يتغير، فلا الملامح هي الملامح، ولا القوة هي القوة، ولا الطموح هو الطموح، ولا العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، هما العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، ولم تعد الحواس تفعل اليوم فعلها كما كانت بالأمس؛ فالعين لا تبصر كما كانت تبصر، والأذن لا تسمح كما كانت تسمع، بل واللسان لا يتذوق الطعوم كما كان يتذوق. إلا أن شيئا ما - برغم ذلك التغيير كله - يبقى ليظل به فلان هو نفسه فلان الذي عرفه الناس. ولقد وقعت اليوم على شاهد جديد يؤيد هذه الحقيقة، وكان شاهدا من نوع جديد غير مألوف.
كان ذلك حين هممت بالكتابة عن العربي بين حاضره وماضيه، فقذفت لي الذاكرة فجأة بشبح من أصدائها الخافتة الباهتة؛ إذ وسوست لي بشيء كتبته سنة 1950م، أو ما يقرب جدا منها، عن «نشر القديم» فألحت علي الرغبة في أن أبحث عن ذلك المقال القديم الذي كتب منذ أربعين عاما (نحن الآن سنة 1988)؛ لأرى ما فيه، سواء أكان ذا صلة بما أعددته في رأسي من أفكار لأتناول في ضوئها حديثي هذا عن حاضر العربي وماضيه. ووجدت ضالتي بين مجموعة من أخوات لها، كنت جمعتها معا في كتاب جعلت عنوانه «الكوميديا الأرضية». وقرأت المقال القديم فإذا بالشعور الغريب يغمرني فيصور لي نفسي في أوائل أربعينياتها، وكأنما شغلت عما كنت بصدد البحث عنه؛ لأنصرف إلى شيء آخر، هو المقارنة بين الرجل الواحد في لحظتين من عمره، تباعدتا بما يقرب من نصف القرن، كيف كان يكتب حينئذ عن «التراث» ونشره وكيف يكتب عن الموضوع نفسه اليوم؟ وأمعنت النظر ما أمعنته لعلي أقع على مواضع الشبه بين الحالتين ومواضع الاختلاف، فكان أول ما لحظته هو أن كل ما قد حدث للرجل من تغيير، برغم هذه المدة الطويلة هو أن فترت قوته مع الشيخوخة وخفتت نبرته وبردت حرارته؛ فما كان رجل الأربعين يجرؤ على قوله بلا حذر ولا حيطة، هو هو نفسه الذي يريد رجل الثمانين أن يقوله، ولكنه تعلم كيف يضبط عبارته ويقيدها، حتى لا تندفع في تعميمات لا حق لها في إطلاقها؛ فقد يكون الشيء المعين الذي هو موضوع الحديث «أبيض» اللون، لكن «الأبيض» ليس على درجة واحدة من البياض دائما. وأظنني قد ذكرت للقارئ في مناسبة سابقة، تلك اللوحة الفنية التي رأيتها في متحف للفن الحديث، وهي لفنان له قيمته الكبرى في عالم الفن الحديث، ولم يكن في اللوحة شيء قط إلا مربعات من اللون الأبيض، مع درجات مختلفة حتى ليرى الرائي عشرات من أطياف اللون، لكل طيف منها ما يميزه عن سائر الأطياف، ومع ذلك فجميعها «أبيض». وهكذا يكون الفرق بين كاتب الأربعين وكاتب الثمانين؛ فالفكرة قد تكون واحدة في الحالتين، إلا أن رجل الأربعين كان يطلقها بلا قيد، وأما رجل الثمانين فقد تعلم مع طول الخبرة كيف يحدد المطلق ليبرز أوجه التباين بين جوانبه.
وبعد أن أشبعت رغبتي في رؤية نفسي كيف كانت، بدأت مع «سلفي» مناقشة صامتة فيما أوردته في مقاله الغاضب. نعم فلقد خيل إلي أنه كتب ما كتبه في اختلاجة الغضب مما كان ينشر عندئذ من كتب التراث ويشير إليها دون أن يسميها، إلا أن الذي هاله في المقام الأول هو كثرتها كثرة أفقدتها التوازن في البنيان الثقافي، أو هكذا ظن رجل الأربعين، فهمست لنفسي قائلا: إنني لا أعلم الآن، وقد مرت أربعون عاما أو ما يزيد عليها، منذ كتبت مقالة «نشر القديم» ولم أعد أذكر ماذا كانت تلك الكتب القديمة التي أثارت في نفسي يومئذ ما أثارت، لكن الذي أذكره جيدا هو أنني كنت قد عدت منذ قريب من إقامة بالخارج لم تقصر ولم تطل، لكنها كانت إقامة شهدت من قلاقل الحرب العالمية الثانية ما شاهدت. وحسبنا أن كان ختامها قنبلتين ذريتين تسقطهما أمريكا على اليابان، إحداهما على مدينة هيروشيما والأخرى على مدينة ناجازاكي. وبتلك الضربة القاضية وضعت تلك الحرب الضروس أوزارها - كما يقولون - وماذا يجدي أمام مئات الألوف من البشر يفتك بهم فتكا في أقل من لمح البصر، ماذا يجدي أن نقرأ للمقاتل الطيار الذي ألقى بالجحيم من عليائه على الأرض وأهلها، أنه بكى بدمع سخين لما رأى عمود الدخان يصعد فيملأ جو السماء. نعم عاد صاحبنا إلى وطنه ليجد حوارا بين علمائنا في الصحف يختلفون فيما بينهم أهو الأصح في اللغة أن نقول عنها «قنبلة أم أن نقول قنبرة»؟ فلما دار ببصره فيما حوله من كتب تدور بها عجلات المطابع عندئذ ألفى كثرتها الغالبة نشرا للقديم فكتب ما كتب.
قرأت ما كتبه رجل الأربعين فتساءلت: ترى كم بقي عندك من سلفك هذا ما يجعلكما إنسانا واحدا وكم تغير بينكما بفعل الزمن وما يحمله للأحياء من خبرة تتحدد وتزداد يوما بعد يوم؟ ها هنا رأيت أن أجري حوارا هادئا بين الرجلين: ابن الثمانين وسلفه ابن الأربعين، ليتبين من الحوار كم بقي برغم الزمن وكم تغير.
رجل الثمانين :
قرأت مقالك عن «نشر القديم» فوجدتني راضيا عنك حينا، متشككا حينا، مخالفا حينا، وأول ما وقفت عنده هو قولك: «... إن كثيرا جدا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، لا تساوي قيمته قيمة الورق الذي طبع عليه، وليت الأمر في ضرره يقف عند حد انعدام قيمته، بل إنه ليعيد لنا جوا فكريا، قد يضطرنا اضطرارا إلى تنفس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا فنكون عندئذ بمثابة من يعود بالزمان القهقرى، ولست أدري بأي حلق أصيح حتى تسمع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في واد والدنيا الجديدة في واد آخر.» وملاحظاتي على قولك هذا تدور حول كلمات وردت فيها، أجريتها على قلمك بغير حساب، وكانت تتطلب ما يحددها، فبأي مقياس تزن «قيمة» الكتاب المنشور عن القدماء؟ لو كانت كل «قيمة» الكتاب عندك هي ما فيه من معلومات تنفع قارئها في صنع الأشياء، كأن يعرف منها كيف يزرع الأرض وكيف ينجر الخشب أو يصهر الحديد، فقد بعدت عن الصواب؛ لأن ذلك كله - على ضرورته - إنما هو جانب من النفع، لكن هنالك جانبا آخر يراد له أن يشيع، وهو العمل على تشكيل «الرؤية» العامة التي ينظر بها الإنسان إلى العالم وما فيه وما يؤدي إليه، وها هنا تختلف الشعوب. ونحن وإن كنا نتشابه مع غيرنا في الوسائل التي يجب أن نتوسلها في زراعة الأرض وفي نجارة الخشب وفي صهر الحديد، إلا أننا نعود فنتميز برؤية خاصة إلى الحياة الدنيا، أو هكذا ينبغي أن نكون. وتلك الرؤية «العربية» المنشودة وسائلها كثيرة منها أن نضع أنفسنا - عامدين - آنا بعد آن مع أسلافنا في مناخ واحد، لننظر معا بعين واحدة ولنسمع معا بأذن واحدة ولتنبض قلوبنا معا بدقة واحدة، ومن هذه المشاركة ينشأ الألف بيننا وبينهم، لكننا بعد ذلك أحرار، نستقل بذواتنا في مواجهة دنيانا. وليس في ذلك تناقض كما قد يبدو؛ فأنت قد تلاعب طفلك فتتقمص معه روح طفولته لتتوثق الصلة الروحية بينك وبينه، ولا بد لك بعد تلك اللحظة الوجدانية أن تعود إلى حقيقتك رجلا ناضجا يواجه الحياة بما تقتضيه، فلو أنك قد استحضرت هذا الفارق حين كتبت لتقول عن كثير من القديم الذي ننشره لا تساوي قيمته الورق الذي طبع عليه، ثم وجدت أن ذلك الغث الذي يشغلنا أحيانا، لا هو مما ينفع في الجانب العملي من الحياة، ولا هو مما يربط النفوس ليتألف حاضر وماض، لاقتربت من الصواب، فلعلنا متفقان على أن «قيمة» الكتاب القديم لا تنحصر في النفع العملي المباشر وحده، بل لا بد أن يضاف نفع آخر، هو القدرة على إحداث الأثر النفيس المطلوب فيما يتصل بين سلف وخلف لتتواصل الحلقات في وجدان الأمة الواحدة.
تلك - إذن - نقطة أولى فيما لحظته من عبارتك التي أسلفتها، أضيف إليها نقطة ثانية وأكتفي، وهي عن الصيحة التي أردت أن تصيح بها، لتقول للقوم: إننا يا قوم في واد والدنيا الجديدة في واد آخر. وإني لأصيح معك الصيحة نفسها، بعد أن نتفق على أن الدنيا الجديدة هذه أسقطت فيها قنبلتان ذريتان على هيروشيما وناجازاكي، فنحن وإن كنا نود لأنفسنا أن نشارك دنيانا في علومها الجديدة - ذرية وغير ذرية - إلا أننا نود كذلك لو أعطينا دنيانا شيئا مما عندنا، والذي عندنا هو عقيدة في «التوحيد» لو سرت بكل قوتها في قلوب البشر، لنتج عنها بالضرورة توحد للإنسان المعاصر، يشفيه من التمزق النفسي الذي جعله يرتفع بالعلم إلى ذروة ويهوي في الوقت نفسه إلى هاوية تعمي بصيرته حتى ليقذف بلدانا بأسرها بقنابله التي صنعها بعلمه. إن علوم دنيانا الجديدة قد وضعت ثمارها في أيد مجنونة عابثة، فمن ذا يستطيع أن يرد إلى المجنون رشاده وإلى العابث حكمته ليعتدل الميزان؟
Unknown page