فإذا ما كان للوطن صاحب وهو المقاومة الشعبية، فالكل صاحبه. يتنازعون فيما بينهم دون إمكانية للوفاق الوطني في لبنان وفلسطين والعراق. يقتتلون فيما بينهم على السلطة في الداخل، والسلطة الفعلية في الخارج. نسوا مرحلة التحرر الوطني التي قامت فيها الجبهة الوطنية بتحقيق الاستقلال ودحر المحتل.
طالما أن الوطن بلا صاحب فإن التطرف سيزداد، والعنف سيشتد لمن يريد تحويل العجز إلى قوة، واليأس إلى أمل، ويوقف الانهيار المستمر. ستنشط الحركات السرية بكل طوائفها، تنتظر لحظة الوثوب على السلطة كما حدث في الثورات العربية في أوائل الخمسينيات بقيادة الضباط الأحرار؛ فما زال يتراءى في الخيال البعيد صور أحمس ورمسيس وصلاح الدين وقطز ومحمد علي وعبد الناصر في مصر، وعمر المختار وصالح بن يوسف وبن بللا وعلال الفاسي بالمغرب، والمهدي بالسودان، وعز الدين القسام في فلسطين، وحزب الله في لبنان. فالأوطان لها صاحب؛ شعوبها، وقادتها الوطنيون، ومسارها عبر التاريخ.
ممنوع من الدخول
إذا أمكن منع الأجساد من الحركة بالاعتقال، والإقامة الجبرية، والترحيل في المطارات والمنع من الدخول بناء على القوائم السوداء في الأجهزة الإلكترونية وملفات الأمن، فإنه لا يمكن منع الأفكار من الانتشار. وطالما انتشرت أفكار المعتقلين بل والشهداء؛ فلا حدود أمامها، ولا مانع من انتشارها؛ فهي كالطاقة في الطبيعة، والكهرباء في الأسلاك. ولو أمكن منع الأجساد على الأمد القصير فإنه لا يمكن منع الأفكار على الأمد الطويل. ومنع الكتب ومصادرتها لا يمنع من انتشار الأفكار؛ فوسائل نقلها الآن مقامة عبر شبكات الاتصال (الانترنت)، وموجودة في القصور مثل الخمور ؛ فكل ممنوع مرغوب فيه. ولو تم وضع الحواجز على الأرض فإنه لا يمكن وضعها في السماء، ولو أمكن وضع الحدود الجغرافية فإنه لا يمكن وضعها في التاريخ، وإن أمكن تقطيع المكان إلى أجزاء فإنه لا يمكن تقطيع الزمان المتصل. وقد كان نيلسون مانديلا في السجن ربع قرن وهو يحكم جنوب أفريقية، وكان غاندي في السجون البريطانية والمقاومة السلمية تنتشر في ربوع الهند.
ولا فرق في منع المفكرين من الدخول إلى الدول بعد الوصول إلى المطارات بتأشيرات رسمية؛ فالأمن فوق الخارجية، والشرطة فوق السفارة. ولا فرق أيضا بين نظام عسكري باسم الجمهورية ونظام ملكي باسم العائلة؛ فمهما اختلفت النظم السياسية إلا أنها متفقة فيما بينها على التسلط والقهر. الدفاع عن النظام في كلتا الحالتين هو الهدف الرئيسي، وأمن النظام في كلتا الحالتين هو العامل الموجه. مع أن الأفكار الممنوعة قد تكون في صالح النظام إذا أراد الأمن على الأمد الطويل عن طريق الحوار مع الخصوم، وليس على الأمد القصير عن طريق المصادرة والمنع بأجهزة الرقابة والشرطة. قد يكون أثرها طيبا وليس سيئا، لصالح النظام وليس ضده، ولصالح الوطن الأبقى بعد تغير النظام.
وأثر الحركات الإسلامية على بعضها البعض شيء مشهود، يدل على وحدة فكر الأمة ومصدرها؛ فطالما تأثرت هذه الحركات بالأموات مثل ابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب، وبالأحياء، متطرفين منهم ومعتدلين، محافظين وتقدميين، تقليديين ومجتهدين. ولا يستطيع نظام سياسي معاداة كل أطياف الفكر الإسلامي؛ فلو كان يظن أن المتطرفين خصومه فعليه الاعتماد على المعتدلين، وإذا ظن أن التقليديين والمحافظين أعداؤه فيعتمد على المجددين والتقدميين؛ فالحركة الإسلامية ليست نوعا واحدا ولا اتجاها واحدا. وقد أجادت النظم السياسية هذه اللعبة بالاعتماد على اليسار لضرب اليمين مرة إذا كان الخطر منه، وبالاعتماد على اليمين مرة أخرى لضرب اليسار إذا كان الخطر منه؛ وبالتالي يضعف الجناحان الرئيسيان في الفكر السياسي لصالح القلب. ولا يعادي نظام سياسي الإسلام الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية الحزبية وبالانتخابات البرلمانية إلا إذا كان معاديا للديمقراطية والتعددية السياسية، مزورا للانتخابات لصالح الحزب الحاكم الأوحد، أو ضد الفرق الضالة لصالح الفرقة الناجية. ولا يعادي نظام الإسلام الليبرالي الذي يعترف بحريات التعبير لكل الناس؛ فالكل راد والكل مردود عليه إلا كان معاديا للحرية والليبرالية.
يقوم على القهر والتسلط على المؤسسات السياسية الدستورية والتعليمية والثقافية والإعلامية، ولا يعادي الإسلام العقلاني المستنير الذي يدعو إلى الحوار العقلاني الهادئ إلا إذا كان معاديا للعقل لصالح الخرافة، وضد الاستنارة لصالح الأسطورة، مثل الحكم مدى الحياة والتوريث والزعامة في التاريخ.
وقد يسمح النظام السياسي للمفكر الإسلامي بالدخول بعد طول انتظار منعا للإحراج المحلي والإقليمي والدولي، وكدليل على بعض الحريات العامة في النظام وكرم شيخ القبيلة وأريحية كبير العائلة، أو اختبار المفكر وحسن سلوكه ومدى اتصالاته؛ فعين الدولة في كل مكان، وأجهزة أمنها وشرطتها السرية تحيط بالأماكن التي يتواجد بها الفكر لاستيفاء ملفه وكتابة التقارير عنه وعن نشاطه في محيطه، بعد أن استعصى شراؤه للعمل مع النظام ضد خصومه السياسيين. وقد يسمح نظام سياسي آخر بدخول الكتب ثم بدخول أصحابها طبقا للقاعدة الفقهية؛ اختيار أخف الضررين؛ تفجير العقول أم تفجير المباني، استنارة العقول أم إشعال النار في المؤسسات، حرية الفكر أم الفوضى العارمة، تغيير النظام أم هدم الدولة، الإصلاح التدريجي أم الثورة العارمة؟
وقد يمنع نظام ثالث المفكر من الدخول منذ البداية، ورفض الرد حتى على طلب تأشيرة الدخول لحضوره ندوة أو لقاء أو مؤتمرا علميا؛ عقابا له على مواقفه، ومنعا لتأثيره في عدة قضايا اختارت الدولة أحد الحلول التي تتفق مع الهيمنة والسيطرة، واستبعدت كل الحلول الأخرى التي تقوم على حرية الشعوب وحق تقرير المصير. ففي عام 1948م خلقت بريطانية ثلاث مشاكل طبقا لسياسة «فرق تسد» في فلسطين بتقسيمها، وفي جنوب أفريقية بتأييد الحكم العنصري الأبيض للأقلية ضد الأغلبية الأفريقية، وفي الهند بتقسيمها إلى الهند وباكستان، وخلق منطقة توتر بينهما في كشمير التي من المفروض أن تنضم إلى باكستان طبقا لقرار الأمم المتحدة، الأغلبية الهندوسية في الهند، والأغلبية الإسلامية في باكستان. وكانت الأغلبية في كشمير إسلامية، ومع ذلك ضمتها الهند لثرواتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي.
ورفضت كل قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحق تقرير المصير، ورفضت إجراء استفتاء عام في كشمير لمعرفة رأي شعبها إذا أراد الانضمام إلى الهند أو إلى باكستان، أو الاستقلال التام عن الجارتين. وماذا يضير الهند في استقلال كشمير وضم ما يقرب من ثمانين مليونا من المسلمين وقد فاق سكانها المليار، وهي أكبر دولة من حيث تعداد السكان بعد الصين، وتزيد نسبة المسلمين في الهند إلى الضعف، وتضع قنبلة سكانية موقوتة قد تنفجر في المستقبل، خاصة وأن النزاع الطائفي بين الهندوس والمسلمين لم يتوقف بعد؟ وماذا عن الهند ونظامها الديمقراطي الذي تفخر به، ومن مآثر بريطانية العريقة في الديمقراطية؟ انتخاباتها الحرة مشهود لها. وهي دليل على أن الديمقراطية ليست ميراثا غربيا فقط، بل هو تجربة آسيوية أيضا بدليل الهند. وهل تطبق الهند المعيار المزدوج الذي طالما كان نقدا رئيسيا للديمقراطية الغربية؛ الديمقراطية في الهند، واحتلال كشمير، ورفض سؤال أهلها عن مستقبلهم وحقهم في تقرير المصير؟
Unknown page